شمس الدين جبار، المحارب القديم في الجيش الأميركي البالغ من العمر 42 عامًا الذي اندفع بشاحنته الصغيرة إلى حشد من المحتفلين برأس السنة الجديدة في نيو أورلينز، فقتل 14 شخصًا وأصاب 35 آخرين، تحدث إلينا باللغة التي نستخدمها نحن للتحدث إلى العالم العربي: الموت العشوائي. استهداف الأبرياء. اللامبالاة القاسية بالحياة. التعطش للانتقام. شيطنة الآخرين. الاعتقاد بأن القدر، أو الله، أو الحضارة الغربية صادقت على أن لنا الحق في فرض رؤيتنا للعالم بالعنف.اضافة اعلان
***
تشكل هدية جو بايدن الوداعية المتمثلة في إقرار مبيعات أسلحة بقيمة 8 مليارات دولار لدولة الفصل العنصري الإسرائيلية اعترافًا إضافيًا آخر بالواقع المروع للإبادة الجماعية في غزة. وهذه ليست النهاية -بل ولا حتى بداية النهاية. إنها حرب دائمة لا نهاية لها لا تهدف إلى تدمير "حماس" في غزة، ولا إلى تحرير الرهائن الإسرائيليين، وإنما تهدف إلى القضاء مرة وإلى الأبد على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. إنها الاندفاعة الأخيرة نحو إنشاء "إسرائيل الكبرى" التي لن تشمل غزة والضفة الغربية فحسب، بل أجزاء من لبنان وسورية أيضًا. إنها تتويج للحلم الصهيوني الذي سيتم دفع ثمنه بأنهار من الدماء -الفلسطينية واللبنانية والسورية.
ربما كان وزير الزراعة والأمن الغذائي في إسرائيل، آفي ديختر، يعرض تقديرات متحفظة فحسب عندما قال: "أعتقد أننا سنبقى في غزة لفترة طويلة. أعتقد أن معظم الناس يفهمون أن (إسرائيل) ستكون لسنوات في نوعٍ من وضع الضفة الغربية، حيث يكون بوسعك أن تدخل وتخرج -وربما تبقى- على طول (ممر) نتساريم".
الإبادة الجماعية تستغرق وقتًا. وهي أيضًا باهظة الثمن. ولحسن حظ إسرائيل، فإن لوبيها في الولايات المتحدة يحتفظ بقبضة خانقة على الكونغرس، وعمليتنا الانتخابية، وروايتنا الإعلامية. والأميركيون، على الرغم من أن 61 في المائة منهم يؤيدون إنهاء إرسال شحنات الأسلحة إلى إسرائيل، هم الذين سيدفعون ثمنها. أما أولئك الذين يعبرون عن معارضة فسوف يُساقون قسرًا إلى الثقوب الصهيونية السوداء، حيث يتم إسكات أصواتهم وتعريض حياتهم المهنية للخطر -أو تدميرها جملة وتفصيلًا. ومن المعروف أن دونالد ترامب والجمهوريين ينطوون على ازدراء صريح للديمقراطية، ولكن كذلك هو حال الديمقراطيون وجو بايدن.
قدمت الولايات المتحدة 17.9 مليار دولار كمساعدات عسكرية لإسرائيل من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 إلى تشرين الأول (أكتوبر) 2024، بزيادة كبيرة عن المساعدات العسكرية البالغة مسبقًا 3.8 مليار دولار التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل سنويًا. وهذا رقم قياسي لعام واحد. وقد أبلغت وزارة الخارجية الكونغرس بأنها تعتزم الموافقة على بيع إسرائيل أسلحة أميركية الصنع بقيمة 8 مليارات دولار. وستوفر هذه الصفقة لإسرائيل المزيد من أنظمة توجيه القنابل بواسطة نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)؛ والمزيد من قذائف المدفعية؛ والمزيد من الصواريخ التي تحملها الطائرات المقاتلة والمروحيات؛ والمزيد من القنابل، بما في ذلك 2.800 قنبلة من طراز (MK-84) غير الموجهة، التي اعتادت إسرائيل إسقاطها على معسكرات الخيام المكتظة بالنازحين المدنيين في غزة.
تقوم موجة الضغط التي تولدها قنبلة (MK-84) التي يبلغ وزنها 2.000 رطل بسحق المباني وإبادة الحياة داخل دائرة نصف قطرها 400 ياردة (حوالي 366 مترًا). والانفجار، الذي يمزق الرئتين ويبتر الأطراف ويفجر تجاويف الجيوب الأنفية للأشخاص على بعد مئات الأمتار، يترك وراءه حفرة بعرض 50 قدمًا (حوالي 15 متراً) وعمق 36 قدمًا (حوالي 11 مترًا). ويبدو أن إسرائيل استخدمت هذه القنبلة لاغتيال حسن نصر الله، زعيم "حزب الله" الراحل، في بيروت في 27 أيلول (سبتمبر) 2024.
تؤشر الإبادة الجماعية الجارية، وقرار تأجيجها بمليارات الدولارات، على نقطة تحول مشؤومة. إنها إعلان علني من الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا عن أن القانون الدولي والإنساني -على الرغم من تجاهل الولايات المتحدة الصارخ له في كل من العراق وأفغانستان وليبيا وسورية وجيل سابق في فيتنام- هو شيء لا معنى له، وأننا لن نقدم له حتى مجرد خدمة كلامية. سوف يكون هذا عالمًا "هوبزيًا" حيث الدول التي تمتلك الأسلحة الصناعية الأكثر تقدمًا هي التي تضع القواعد، وحيث أولئك الذين هم فقراء وضعفاء سوف يركعون في خضوع. إن الإبادة الجماعية الماثلة في غزة هي نموذج المستقبل. وأولئك الذين يعيشون في جنوب الكرة الأرضية يعرفون ذلك.
سوف يرد "المعذبون في الأرض" الذين يفتقرون إلى الأسلحة المتطورة، والذين ليست لديهم جيوش حديثة، ولا وحدات مدفعية وصواريخ وقوات بحرية ووحدات مدرعة وطائرات حربية، بأدوات ووسائل بدائية. وسوف يواجِهون بالأعمال الإرهابية الفردية حملات إرهاب الدولة الهائلة والمنظمة.
هل نحن متفاجئون من أننا مكروهون؟ إن الإرهاب يولد الإرهاب. وقد رأينا هذا في نيو أورلينز حيث قتل رجل يُزعم أنه يستلهم فكر "داعش" 14 شخصًا عندما قاد شاحنته الصغيرة إلى حشد من الناس في يوم رأس السنة الجديدة. وسوف نرى المزيد من هذا. ولكن لنكن واضحين. نحن الذين بدأناه.. والفراغ الأخلاقي للانتحاري يولد من فراغنا الأخلاقي.
يزيد الإحباط الذي تشعر به إسرائيل بسبب المقاومة العنيدة في غزة والضفة الغربية واليمن ولبنان من إراقة الدماء. وقد بعث أعضاء "لجنة الشؤون الخارجية والدفاع" الإسرائيلية برسالة إلى وزير الدفاع، يسرائيل كاتس، يدعون فيها الحكومة إلى تشديد الحصار على غزة.
كتبوا في الرسالة: "إن السيطرة الفعلية على الأراضي والسكان هي الوسيلة الوحيدة لتطهير خطوط العدو من القطاع، وبطبيعة الحال نحو النصر الحاسم، بدلاً من الخطو (في الماء) في حرب استنزاف، حيث الجانب الأكثر إرهاقا هو إسرائيل. لذلك ينتهي بنا المطاف إلى إدخال جنودنا مرة تلو المرة في الأحياء والأزقة التي كانوا قد احتلوها مرات عدة مُسبقًا".
وجاء في الرسالة أيضًا أنه يجب على إسرائيل "القضاء عن بعد على جميع مصادر الطاقة، أي الوقود والألواح الشمسية وأي وسائل ذات صلة (الأنابيب والكابلات والمولدات وما إلى ذلك)". ويجب عليها أن تضمن "القضاء على جميع مصادر الغذاء، بما في ذلك المستودعات والمياه وجميع الوسائل ذات الصلة (مضخات المياه وما إلى ذلك)"، ويجب أن تسهل "القضاء عن بعد على أي شخص يتحرك في المنطقة ولا يخرج بعلم أبيض خلال أيام الحصار الفعلي".
وخلصت الرسالة إلى أنه "بعد هذه الأعمال وأيام الحصار على الذين يبقون، يجب على الجيش الإسرائيلي الدخول تدريجيًا وإجراء تطهير كامل لأعشاش العدو... يجب أن يتم ذلك في شمال قطاع غزة، وكذلك في أي منطقة أخرى: التطويق، وإجلاء السكان إلى منطقة إنسانية، والحصار الفعلي حتى الاستسلام أو القضاء الكامل على العدو. هكذا يتصرف كل جيش، وكذلك يجب على الجيش الإسرائيلي أن يفعل".
باختصار، أبيدوا المتوحشين.
شمس الدين جبار، المحارب القديم في الجيش الأميركي البالغ من العمر 42 عاما والذي اندفع بشاحنته الصغيرة إلى حشد من المحتفلين برأس السنة الجديدة في نيو أورلينز، في ما أسفر عن مقتل 14 شخصًا وإصابة 35 آخرين، تحدث إلينا باللغة التي نستخدمها نحن للتحدث إلى العالم العربي. الموت العشوائي. استهداف الأبرياء. اللامبالاة القاسية بالحياة. التعطش للانتقام. شيطنة الآخرين. الاعتقاد بأن القدر، أو الله، أو الحضارة الغربية صادقت على أن لنا الحق في فرض رؤيتنا للعالم على الآخرين بالعنف. وجبار، الذي نشر مقاطع فيديو على الإنترنت أعلن فيها دعمه لتنظيم "داعش"، هو "الدوبلير" للقاتل الكامن في أعماقنا. ولن يكون الأخير.
كتب روبرت فيسك في كتابه "الحرب الكبرى من أجل الحضارة" The Great War for Civilization: "عندما يتم تجريد مجتمع من كل شيء يملكه؛ عندما تبدو المظالم المفروضة عليه غير قابلة للحل، وعندما يكون ’العدو‘ كلي القوة؛ عندما يتم تصوير شعب المرء على أنه حشرات وصراصير و’وحوش تمشي على قدمين‘، فإن العقل ينتقل إلى ما هو أبعد من منطق العقل؛ يصبح مفتونًا بمعنيَين: بفكرة الحياة الآخرة؛ وبإمكانية أن يوفر هذا الاعتقاد بطريقة ما سلاحًا بإمكانيات أكبر بكثير من الإمكانيات النووية نفسها. عندما كانت الولايات المتحدة تحوّل بيروت إلى قاعدة لحلف شمال الأطلسي في العام 1983، وتستخدم قوتها النارية ضد المقاتلين المسلمين في الجبال إلى الشرق، كان الحرس الثوري الإيراني في بعلبك يعِد بأن الله سيخلص لبنان من الوجود الأميركي.
وكتبت في ذلك الوقت -ليس مازحًا بالضبط- أنه من المحتمل أن تكون هذه معركة عمالقة: التكنولوجيا الأميركية مقابل الله. من سيفوز؟ ثم في 23 تشرين الأول (أكتوبر) 1983، قاد انتحاري وحيد شاحنة محملة بالمتفجرات إلى مجمع مشاة البحرية الأميركية في مطار بيروت وقتل 241 جنديًا أميركيًا في ست ثوان... أجريت مقابلة لاحقًا مع أحد جنود مشاة البحرية القلائل الباقين على قيد الحياة والذي رأى المفجر. قال لي: ’كل ما يمكنني تذكره هو أن الرجل كان يبتسم‘".
تستخدم هذه الأعمال الإرهابية -أو المقاومة المسلحة في حالة غزة والضفة الغربية ولبنان واليمن- لتبرير القتل الجماعي الذي لا نهاية له. ويؤدي "طريق الآلام" هذا إلى دوامة موت عالمية، خاصة وأن أزمة المناخ تعيد تشكيل الكوكب وتصبح الهيئات الدولية، مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية، مجرد ملاحق هامشية جوفاء.
إننا نزرع في الشرق الأوسط أسنان التنين. وكما في الأسطورة اليونانية القديمة، تنهض هذه الأسنان من التربة لتثمر محاربين غاضبين مصممين على تدميرنا.
*كريس هيدجز Chris Hedges: صحفي حائز على جائزة بوليتزر. كان مراسلاً أجنبيًا لمدة خمسة عشر عاما لصحيفة "نيويورك تايمز"، حيث شغل منصب رئيس مكتب الشرق الأوسط ورئيس مكتب البلقان للصحيفة. عمل سابقًا مراسلاً أجنبيًا لصحف "ذا دالاس مورنينغ نيوز" و"كرستيان سينس مونيتور" و"الراديو الوطني"، وهو مضيف برنامج "تقرير كريس هيدجز". حصل على جائزة منظمة العفو الدولية العالمية للصحافة في مجال حقوق الإنسان للعام 2002. يحمل درجة الماجستير في اللاهوت من كلية اللاهوت بجامعة هارفارد، وهو مؤلف الكتب الأكثر مبيعًا: "الفاشيون الأميركيون: اليمين المسيحي والحرب على أميركا"؛ "إمبراطورية الوهم: نهاية محو الأمية وانتصار المشهد". وكان أحد المتأهلين للتصفيات النهائية لدائرة نقاد الكتاب الوطنية عن كتابه "الحرب قوة تعطينا معنى". عمل بالتدريس في جامعة كولومبيا وجامعة نيويورك وجامعة برينستون وجامعة تورنتو.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Genocide: The New Normal
0 تعليق