حنان الخلفان
كانت التجمعات العائلية في الماضي تعبيراً صادقاً عن الحب والتواصل الحقيقي، تميزت بالأحاديث الدافئة التي تُثري الروابط بين الأفراد، حيث كان كل شخص حاضراً بجسده وروحه، ينصت بشغف ويشارك بفعالية والنكت المضحكة والحركات البريئة من الأطفال، لم تكن هناك شاشات تشغل الأذهان أو إشعارات تقاطع اللحظات، بل كانت اللقاءات العائلية واحةً للانسجام والتآلف الذي لا يُعوَّض.
لكن مع تطور الزمن ودخول التكنولوجيا إلى كل زاوية من زوايا حياتنا، ظهر لص جديد لم نره وهو يتسلل بخفة إلى حياتنا، ليخطف منا أغلى ما نملك وهي اللحظات العائلية الدافئة. هذا اللص الخفي، الذي يتمثل في شاشات الهواتف الذكية والأجهزة الرقمية، سرق منا أحاديثنا وضحكاتنا وحوّل تجمعاتنا إلى جلسات صامتة يغلب عليها التشتت والانشغال.
لقد جاءت الشاشات لتقربنا من العالم الخارجي، لكنها في الوقت ذاته أبعدتنا عن أقرب الناس إلينا.
أسرتنا وتجمعاتهم، التي كانت في الماضي مصدراً للحكايات والذكريات، تحولت إلى جلسات يغلب عليها الصمت الرقمي. هل يمكن القول إن هذا اللص يسرق منا شيئاً لا يعوض واللحظات التي لا يمكن استرجاعها بمجرد نقرة زر؟
تشير الدراسات إلى أن الاستخدام المفرط للهواتف في التجمعات العائلية يؤثر سلباً على جودة العلاقات، فبدلًا من تبادل القصص اليومية أو النقاشات الهادفة، أصبحنا نشارك صوراً ونصوصاً مع غرباء عبر الإنترنت، بينما نترك أحباءنا جالسين بجانبنا بلا اهتمام.
هذه الظاهرة ليست مجرد تغير عابر، بل انعكاس لتحولات عميقة في طريقة تفاعلنا مع من حولنا.
في الماضي، كانت التجمعات العائلية أشبه بمهرجان صغير، حيث الأصوات تتعالى بالضحك والنقاش، والأطفال يلعبون حول الكبار الذين يتبادلون القصص والنصائح. أما اليوم، فقد أصبحت التجمعات شبيهة بجزر معزولة، كل فرد فيها يعيش في عالمه الافتراضي، يغرق في شاشة هاتفه بينما يغيب عن العالم الحقيقي.
هذا اللص الخفي لا يؤثر فقط على الأفراد البالغين، بل يمتد تأثيره إلى الأطفال الذين ينشؤون في بيئة يغيب فيها التفاعل الإنساني الحقيقي. تخيل طفلاً يكبر في منزل تسوده الشاشات، حيث تُختصر الكلمات في رسائل والمشاعر في رموز تعبيرية. هذا الطفل لن يتعلم مهارات التواصل الاجتماعي الحقيقية وقد يعاني حتى في النطق، ولن يشعر بدفء العلاقات العائلية التي تبني شخصيته وتزرع فيه قيم المحبة والتعاطف.
تشير الدراسات إلى أن الأطفال الذين يقضون وقتًا أطول أمام الشاشات يواجهون صعوبات أكبر في بناء علاقات اجتماعية قوية. فهم يصبحون أكثر انطواءً وأقل قدرة على التعبير عن مشاعرهم بوضوح. هذه الظاهرة تستدعي منا وقفة حقيقية لإعادة التفكير في كيفية استخدام التكنولوجيا داخل منازلنا.
إن مواجهة هذا اللص الخفي تبدأ بالاعتراف بوجوده وتأثيره، علينا أن نبدأ بخطوات بسيطة لإعادة الروح إلى تجمعاتنا العائلية. يمكننا تخصيص أوقات محددة خالية من الشاشات، مثل أوقات وجبات الغذاء والعشاء أو التجمعات الأسبوعية، حيث تكون الهواتف بعيدة عن متناول الجميع. هذه اللحظات الصغيرة تحمل في طياتها قدرة هائلة على إعادة الدفء إلى العلاقات العائلية.
كما يمكننا تعزيز التفاعل الحقيقي من خلال أنشطة مشتركة، مثل الألعاب العائلية أو مشاهدة الأفلام معاً، بشرط أن تكون هذه الأنشطة وسيلة لتعزيز التواصل، لا مجرد استبدال صمت الشاشات بصمت آخر. الأهم هو أن يشعر كل فرد بأن وجوده مهم وأنه جزء أساسي من النسيج العائلي.
إن التكنولوجيا وُجدت لتخدمنا، لا لتسيطر علينا، وبينما ننشغل بإشعارات الهواتف، قد نفقد إشعارات الحياة الحقيقية التي لا يمكن استرجاعها بمجرد نقرة زر. وكما يقول المثل: «من ترك شيئاً لأجله عاد إليه أقرب»، فلنجعل الشاشات في الخلفية، ونضع العائلة في المقدمة.
لا يمكننا إنكار فوائد التكنولوجيا، لكنها ليست بديلاً عن الروابط الإنسانية الحقيقية. علينا أن نعلم أطفالنا أن الشاشات قد تمنحهم معلومات، لكنها لن تمنحهم المشاعر. وأن اللحظات التي تُعاش مع العائلة هي كنوز لا تُقدّر بثمن.
وبصراحة... يبقى التغيير بأيدينا، يمكننا أن نختار أن نترك هذا اللص يسرق منا لحظاتنا، أو أن نتصدى له بوعي وإرادة. بيدنا أن نصنع التغيير، ونُعيد لمّ شمل القلوب قبل أن تسبقنا الشاشات إلى عزلتنا. وبينما نمضي قدمًا في هذا العصر الرقمي، لنحافظ على إنسانيتنا وروابطنا العائلية التي تشكل جوهر حياتنا فلنبدأ من القدوة الأساسية لكل بيت وهم الأب والأم ومن بعدها لا شعورياً سيطبقها جميع الأبناء.
0 تعليق