عن اليأس من السياسة

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أن أبدأ حديثًا في «السياسة» أو عنها بمحاولة تعريفها فهذا بحد ذاته استهلال محبط؛ فالمفهوم الذي نرومه في هذا السياق يظل مستعصيًا على الضبط، وميدانَ سجال تنظيري على مختلف المراحل. تتنازع هذا المفهوم فلسفات وتيارات وعقائد، وأهواء متباينة بلا شك، منذ أرسطو، رائد عِلم السياسةِ والقائل إنها علم السيادة و «سيدة العلوم»، إلى الميكافيلية التي تعرض السياسة كـ «فن للدولة»، وصولًا إلى التعريف الماركسي للسياسة على أنها «علم دراسة المصالح المتضاربة وانعكاسها على تكوين السلطة والحفاظ على امتيازات الطبقة الحاكمة»... فضلًا عن الكتابات المعاصرة حول هذا المفهوم. ولذا، من أجل تجاوز الجدل حول تعريف السياسة، أدعو القارئ للعودة إلى الجزء الثالث من موسوعة السياسة لعبد الوهاب الكيالي، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (ص362 إلى ص372).

مشكلتنا مع تعريف السياسة تبدو إلى حد ما شبيهة بالجدل الحائم حول مفهوم أساسي آخر؛ ألا وهو الثقافة. ومن الصعب أن يستوعب المرء كيف جرى تصوير السياسة والثقافة بوصفهما نشاطين متعارضين أو في حالة من التضاد الدائم؛ فبين ما هو «سياسي» من جهة وما هو «ثقافي» من جهة أخرى، ثمة حدود غير مرئية وزوايا عمياء ومساحات اشتباك متنازع عليها في الكتابة كما في الممارسة، ونستطيع أن نتأملها في الاحتكاك القائم بين المثقفين والسياسيين.

ولكن إذا ما فهمنا السياسة بوصفها نشاطًا متصلًا بكافة شؤون حياتنا، فهي بهذا المعنى الشامل تكفي لتبرير التعقيد والاضطراب الذي يشوب تعريفها النظري. بيد أن الأهم في هذا السياق ليس التعريف الأكاديمي الذي يدرسه طلاب العلوم السياسية في الجامعات، بل هو مفهوم الناس عن السياسة وتطلعاتهم وحقوقهم المرتبطة بها وحدود ممارستها الفردية، إضافة إلى الدلالة اللغوية التي تحملها الكلمة ووقعها عليهم.

مع أن حياة الناس وشؤونهم اليومية، بما فيها تلك الخاصة جدًا، هي رهن لتطورات الواقع السياسي وانعكاساته على مساحاتهم الشخصية، ومع أن حياتهم، بمعنى أعمّ، هي المادة الخام لصناعة السياسة والاشتغال السياسي، إلا أن نسبة مشاركتهم في مجالها الرسمي تتراجع يومًا عن يومٍ على نحو يستدعي القلق. والحديث هنا ليس عن بلدان العالم العربي البعيد عن بديهيات هذا النقاش، وإنما عن دول أوروبية ذات الديمقراطيات الراسخة، وعن الدول الناطقة بالإنجليزية مثل بريطانيا والولايات المتحدة وكندا، حيث يُلحظ انسحاب شرائح واسعة من الممارسة الرسمية للسياسة (التصويت) إلى الممارسات غير الرسمية؛ مثل الاحتجاج أو المقاطعة، تنفيسًا عن الكبْت السياسي، أو نتيجة لما يصفه كولن هاي بـ «خيبة الأمل السياسية» في هذه البلدان.

فك الارتباط هذا، عن السياسة بمعناها الرسمي، هو ما يدفع كولن هاي، الأستاذ بمعهد العلوم السياسية في باريس والمدير المؤسس لمعهد بحوث الاقتصاد السياسي (SPERI) في جامعة شيفيلد، ليتساءل ببساطة: لماذا نكره السياسة؟ وهو عنوان ملفت كان قد صدر بالعربية عن منشورات جدل عام 2007 بترجمة خالد حافظي، وفيه يستقصي كولن هاي تراجع نسب المشاركة في الانتخابات إلى مستويات غير مسبوقة في البلدان التي يصفها بالديمقراطيات الليبرالية المتقدمة، خاصة لدى فئة الشباب الذين يتساءلون عن جدوى التعبير السياسي الرسمي في ظل الاحتكار القائم للفعل السياسي، وفي مجتمعات هي في الأصل تعاني من «مشكلات الفعل الجماعي» التي تستعصي على الحل خارج التفكير بالحل السياسي.

لا يرى كولن هاي في تراجع نسب المشاركة السياسية مؤشرًا على فقدان حماسة المشاركة في العملية الانتخابية فحسب، بل علامة على اليأس السياسي العام، حيث تفقد كلمة «السياسة» أو «سياسي» دلالاتها الإيجابية لتتحول بمرور الوقت إلى «كلمة بذيئة» على حد تعبيره: «لقد باتت «السياسة» مصطلحًا يكتسب مجموعة كاملة من الارتباطات والدلالات السلبية بالكامل في الخطاب المعاصر؛ وأصبحت السياسة مرادفًا للفساد والضلال والازدواجية والجشع والمصلحة الذاتية والصلف والتدخل وعدم الكفاءة والعناد. إنها في أحسن الأحوال شر لا بد منه، وفي أسوأ الأحوال قوة خبيثة بالكامل يجب السيطرة عليها».

لا ينطلق كولن هاي في رؤيته لتشوه معنى السياسة المعاصرة من نظرة حنين ماضوية إلى ما كانت تعنيه السياسة، فهو يؤكد أن ذلك العالم الأسطوري الذي تمتع فيه المجتمع بمشاركة سياسية شبه كاملة عالم لم يكن موجودًا في يوم من الأيام. مع ذلك؛ لا نجده يتردد في إعلان عصرنا عصرًا للسخط السياسي بامتياز، وعصر خيبة الأمل من كل ما هو مرتبط بالسياسة، حتى لو كانت خيبة الأمل من ممارسة السياسة كناشط تغييري ناتجة في الكثير من الأحيان عن سوء فهم لما تعنيه السياسة، حيث تصبح نصيحة كولن هاي ضرورية أكثر:

«إذا فهمنا السياسة بشكل أفضل فإننا سنتوقعُ منها أقل».

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق