لا يوجد وصف آخر للعجرفة التي يتحدث بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عن تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن، إلا وصفا واحدا وهو «وقاحة»، ذلك أن الرجل لم يخجل في إملاء شروط على دول مستقلة ذات سيادة، مثل مصر والأردن، إذ أنها شروط مجحفة في حق أشقائنا الفلسطينيين، لم تراع حقوقهم المسلوبة على مدار السنوات الماضية، وفي حق أمننا القومي.
ويبدو أن ترامب ظن ولو لوهلة، أن مصر ضعيفة لدرجة تجعلها تقبل إملاءات سخيفة، تمس بأمنها القومي، وتتعلق بحلم صهيوني مفضوح ملخصه جيشنا الوطني، الوحيد في المنطقة المدرب المدجج بأحدث الأسلحة والعتاد، الذي يرنو الصهاينة إلى تدميره واحتلال بلده في سياق الحلم الأكبر «من النيل للفرات»، ولكن هيهات.
فمصر منذ الوهلة الأولى فطنت لذلك المخطط الخبيث، وتعي جيدا حجم الخطر الذي يداهمها منذ اليوم الأول لهجوم السابع من أكتوبر، وتعلم أن الهدف ليس غزة ولا الضفة ولا جنوب لبنان، وإنما سيناء، التي أعلن إعلام الاحتلال مرارا وتكرارا أن مصر هي الخطر الحقيقي عليهم، بل ووصلت الدعوات صراحة إلى فتح جبهة مع القاهرة في إطار توسيع الصراع، حتى يتحقق حلمهم في خضم الدعم الأمريكي الغربي اللامحدود للكيان، سياسيا وعسكريا واقتصاديا.
القيادة السياسية تدرك أن الهدف الذي يريده ترامب فقط ليس كما يقال هو إعادة إعمار غزة ومن ثم إعادة الغزيين إليها، بل الحقيقة هي نقل مركز عمليات الحرب من غزة إلى سيناء، حتى إذا ما استتب الأمر وتوطن الغزيون في سيناء، وقتها تعلن إسرائيل أن هناك خطر داهم قادم عليها، من سيناء وستتشدق وقتها بمقولة «حق الدفاع عن النفس»، ويلهث خلفها الغرب الذي لا يعترف إلا بلغة القوة ويرددها، ممدها بما تحتاجه من سلاح وعتاد، كما يحدث الآن على مدار 15 شهرا من القصف في القطاع.
إن مشاركة مصر في تنفيذ طلب ترامب -وهذا لن يحدث أبدا- يعني تسجيل التاريخ ذلك الموقف إلى الأبد، وسيكتب أنها كانت خنجرا مسموما في صلب القضية الفلسطينية، وكانت المسمار الأخير في نعش الدولة الفلسطينية، التي نادت بها طوال أكثر من 70 عاما.
كما أن الموافقة ستكون بمثابة كشف ظهر الجيش المصري، الوحيد الباقي في المنطقة العربية، وسيكون إعلانا للحرب المنتظرة بينه وبين الصهاينة، وتعلم القيادة السياسية ذلك جيدا.
وإذا كان ترامب يريد حلا بديلا لرفض تهجير إلى سيناء أو الأردن، فإليه حل بسيط جدا، عليه فقط أن يطلب من إسرائيل أن تستضيف الفلسطينيين في صحراء النقب الواسعة، أو إذا أراد حلا آخر للصراع الدائر بين حبيبته تل أبيب والفلطسينيين، فيمكنه استضافة اليهود عنده في أي ولاية من الولايات الخمسين.
والحقيقة أن المصريين جميعا الآن، على قلب رجل واحد، خلف الرئيس عبدالفتاح السيسي، في رفض فكرة التهجير، فلا أسعار ولا مرارة العيشة تشغلنا حاليا، بل رفض تصفية القضية، وليس الرفض لعدم ترحيبنا بأشقائنا الفلسطينيين -فكلنا نتمنى لو نستضيفهم عندنا اليوم قبل الغد، لحمايتهم من القصف أو لإعمار بيوتهم- ولكننا -وهم قبلنا- نعلم أن خروجهم من أرضهم، فكرة خبيثة هدفها احتلال القطاع نهائيا.
كما أن المصريين -بدافع فطري- لديهم رفض نهائي قاطع لفكرة تصفية القضية، ليس خوفا من فكرة مواجهة الصهاينة، فلهم عبرة في نصر أكتوبر 73 عندما تجرؤوا وفكروا لوهلة أنهم يستطيعون أخذ شبر من أرض مصر.
إن ثقتنا كبيرة في القيادة السياسية، التي لم ولن نشك لحظة واحدة في ولائها لوطنها، ونؤمن أنها سترفض تلك الإملاءات السخيفة، فأن نأكلها بـ«عيش ودقة» أهون كثيرا جدا من أن نشارك في تصفية القضية الأم، ونخون أشقائنا ونبيع الأقصى ونسلم جيشنا لعدو لا يحترم إلا القوي.
0 تعليق