تحدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب النظام الدولي لما بعد الحرب الباردة بإصراره على أن يتولى حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا والشرق الأوسط الاهتمام بمصالحهم الاستراتيجية الخاصة بدلا من الاعتماد على واشنطن في أمنهم.
ورسالة الرئيس ترامب واضحة في هذا: لن تتدخل الولايات المتحدة في حل الصراعات التاريخية في أوروبا الشرقية وبلاد الشام، فالمصالح الجيوستراتيجية الأساسية لأمريكا تكمن في شرق آسيا، حيث تواجه الولايات المتحدة تهديدها العالمي الرئيسي: أي الصين.
لقد أعلن الرئيس ترامب أنه اتفق مع فلاديمير بوتن على عقد محادثات من شأنها أن تضع حدًا للحرب في أوكرانيا. وقال وزير الدفاع بيت هيجسيث لزملائه الأوروبيين: إن واشنطن وافقت على بعض مطالب روسيا الأساسية، ووصف رغبة أوكرانيا في استعادة سلامة أراضيها بأنها هدف «وهمي» وأن أوكرانيا لن تحظى بعضوية في حلف شمال الأطلسي.
جاءت هذه التعليقات صدمة لأوكرانيا وحلفاء أمريكا الأوروبيين، الذين كانوا يتخوفون من أن واشنطن تستعد لاسترضاء موسكو في حين كان المسؤولون الروس والأمريكيون على استعداد للتفاوض بشأن مستقبل أوكرانيا في المملكة العربية السعودية دون مشاركة منهم في المحادثات.
وأحدث الرئيس ترامب موجات صدمة مماثلة في الشرق الأوسط قبل أسبوع حينما اقترح خلال زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لواشنطن خطة لنقل مليوني فلسطيني من غزة إلى الأردن ومصر. وتعد فكرة توطين ملايين الفلسطينيين في الأردن ومصر تهديدًا وجوديًا للبلدين، كما أن السعودية وحكومات عربية أخرى قد رفضتها.
لكن الرسالة التي بعثها الرئيس ترامب إلى الحلفاء العرب كانت مماثلة تمامًا لرسالته إلى شركائه في حلف شمال الأطلسي: «لقد حان الوقت لأن تتولوا الحفاظ على الاستقرار والحفاظ على السلام في أحيائكم الجغرافية».
يعني هذا أن ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وغيرها من أعضاء الناتو الآخرين بحاجة إلى زيادة إسهاماتهم في حلف شمال الأطلسي وإنفاقهم الدفاعي بشكل عام. ومن شأن هذا أن يسمح للأمريكيين بتحويل انتباههم ومواردهم من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادئ.
في الوقت نفسه، على الدول العربية أن تتوصل إلى خطة للمساعدة في إنهاء الحرب في غزة، وإعادة بناء المنطقة، ونشر قوات حفظ سلام للحفاظ على النظام. وإذا لم يحدث ذلك، فقد تعطي الولايات المتحدة الضوء الأخضر لإسرائيل لمواصلة حملتها لتدمير حماس وربما لطرد الفلسطينيين.
بطريقة ما، لا ينبغي لحلفاء أمريكا في حلف شمال الأطلسي ولا للشركاء العرب أن يندهشوا من قرارات الرئيس ترامب الأخيرة، فهي تعكس -من أوجه كثيرة- تغييرات في الجيوستراتيجية الأمريكية. كانت الرغبة في الحصول على المزيد من المساعدة من أوروبا والانفكاك عن الشرق الأوسط أفكارًا اكتسبت أرضية قبل فترة طويلة من بدء قطب العقارات السابق في ترويج أجندته المعروفة بـ«أمريكا أولا». إنها المصلحة الوطنية، أيها الأغبياء.
لقد بدأ ما يسمى بـ«التحول إلى آسيا» ابتعادا عن الشرق الأوسط في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما استجابة لصعود الصين الاقتصادي والعسكري والحاجة إلى حماية المصالح الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
واقع الأمر أن إخفاقات حربي العراق وأفغانستان، ومحاولات «تغيير النظام» و«تعزيز الديمقراطية»، و«عمليات السلام» العديدة بين إسرائيل وفلسطين، قد أوجدت ضغوطا شعبية ونخبوية تدفع إلى البدء في عملية انفكاك تدريجي من المنطقة. ولا يوجد الآن أي دعم في واشنطن لتدخلات عسكرية أمريكية جديدة في الشرق الأوسط.
في الوقت نفسه، كانت فكرة أن الأوروبيين لا ينفقون ما يكفي على الدفاع هي الرأي التقليدي في واشنطن لسنوات.
بل إن وزير الدفاع السابق روبرت جيتس وبخ في يوليو 2011 بعض أقرب حلفاء أمريكا، قائلا: إن الولايات المتحدة لا تستطيع الاستمرار في العمل بوصفها الشريك ثقيل الوزن في النظام العسكري الذي دعم العلاقة الأمريكية مع أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وأدان جيتس التخفيضات الأوروبية في الدفاع وقال: إن الولايات المتحدة سئمت الانخراط في مهام قتالية لصالح من «لا يريدون اقتسام المخاطر والتكاليف».
وفي عام 2011، قال جيتس: إن «الحقيقة الصارخة هي أنه سوف تتضاءل شهية وصبر الكونجرس الأمريكي -والكيان السياسي الأمريكي بشكل عام - لإنفاق أموال عزيزة على نحو متزايد بالنيابة عن دول تبدو غير راغبة على ما يبدو في تخصيص الموارد اللازمة لكي تكون شريكة جادة وقادرة في الدفاع عن نفسها».
والواقع أن الأوروبيين يواجهون احتمال الاضطرار إلى الوفاء بالتزاماتهم الدفاعية بأنفسهم منذ نهاية الحرب الباردة.
والآن وقد بدأ الحديث عن إمكانية إجراء تخفيضات كبيرة في الوجود الأمريكي في أوروبا، بدأ ناقوس الخطر يدق في لندن وباريس وبروكسل وبرلين. ويتساءل المسؤولون: «هل ستهب الولايات المتحدة لنجدتهم في حالة وقوع تهديد وجودي من روسيا؟»
والحق أن بعض دول المواجهة، من قبيل بولندا ودول البلطيق، تزيد إنفاقها الدفاعي وتستعد لحرب محتملة مع روسيا منذ بعض الوقت. أما حكومات أوروبا الغربية فركزت في الأغلب على التغييرات التدريجية.
وفي الشرق الأوسط، ترجو واشنطن أن ترغم ضغوطها الدول العربية على «عمل شيء» بشأن غزة. ويتوقع مسؤولون أمريكيون أن التحالف الاستراتيجي بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية الأخرى من شأنه أن يحتوي فعليًا التهديد الإيراني، فيلغي بالتالي الحاجة إلى التدخلات العسكرية المستقبلية في المنطقة.
وقد استجابت بعض الدول العربية لضغوط الرئيس ترامب من خلال تقديم خطط لغزة في ما بعد حماس والالتزام بتقديم مساعدات اقتصادية ومساعدة عسكرية لهيئة حكم ذاتي في غزة. فلو أن خطة الرئيس ترامب لغزة لم ترق لهم، فلعل الوقت قد حان لأن يفعلوا بأموالهم (وما أوفرها!) ما يقولونه بألسنهم.
يون هادار زميل أول غير مقيم في برنامج الأمن القومي في معهد أبحاث السياسة الخارجية (FPRI).
عن ذي نيو إنتريست
0 تعليق