أغلبنا يحدّث نفسه ومن حوله عن بحثه الدائم والمستمر عن الهدوء والعزلة والراحة، ولو فترة الإجازة، ليعود بعدها إلى مهامه اليومية ويكمل حياة الاندماج الجماعي لتستقبل أذنه أصواتاً عدة في آن واحد، لكن يبدو أن ما يحدّث به نفسه أو يعبّر عنه للآخرين أمر لا يتعدى الجانب النظري، وأغلبنا عاشق للانغماس في التكتلات البشرية، ولأثبت لك ذلك جرّب الدخول في مطعم فارغ، وستكتشف الحقيقة!
تخيل أنك ذهبت إلى مطعم فاخر هادئ وفي الخلفية موسيقى هادئة، أرشدك النادل إلى إحدى الطاولات وبقي قريباً منك لتلبية أي طلب من طلباتك، وأخذت تجول ببصرك أرجاء المطعم، فوجدت أن كل الطاولات متاحة، والهدوء يعم المكان، نظرياً يفترض أنك في المكان المناسب الذي حدثت به نفسك، لكن ما سيحصل هو العكس تماماً، لأنك ستبدأ عمليات التحليل العقلي وستتقافز الشكوك أمامك، الأكل سيئ والمطعم معروف بسوء الأكل، المطعم لا يهتم بالنظافة وربما هناك حالات تسمم حصلت والناس قاطعوا هذا المحل، الأسعار ليست منطقية، لقد وقعنا في الفخ! وهنا يبدأ التخطيط لعملية الانسحاب التكتيكي، وبمجرد نجاح خطة الانسحاب سيكون البديل الفوري مطعماً ممتلئاً وربما تسجل اسمك على قائمة الانتظار فيه ويضعونك ومن معك على "دكة الاحتياطي" القريبة من الباب الرئيسي، لتذهب بعد ذلك إلى طاولتك الملتصق بها أربع طاولات أخرى من كل الجوانب فتستأذن من أربعة أشخاص لتتمكن من سحب الكراسي لك ولمن معك والجلوس، ثم سيستأذن منك وممن معك ليتمكن غيرك للخروج، ناهيك عن الأصوات المدمجة لعدد كبير من المتحدثين في المطعم، لكنك في الواقع تشعر بالراحة النفسية لأنك أقنعت نفسك أنك في المكان الصحيح، فلا تبحث عن النظافة والخدمة وكون الطعام طازجاً أو لا، وكل ذلك تحت شعار "المطعم يبيع كل اللحم والخضار بسبب كثرة الزبائن" والحقيقة أن الازدحام هو من منحك هذا الانطباع.
وحتى في أماكن التسوق الأخرى الازدحام يعني لنا أن البضاعة لا يمكن تركها وعلينا استثمار الفرصة الآن وشراؤها، وكلما زاد الازدحام تسارعت معه حركتنا لجمع البضاعة واتخاذ قرار الشراء، فالازدحامات تبني قناعة غير معلنة عند الناس بجودة المنتج وضرورة اقتنائه، وأكثرنا يقول في داخله "لم يقف كل هؤلاء عبثاً، لابد وأنهم علموا ما لم نعلم، الناس تبحث وتعرف كل شيء ونحن بعيدون عن المشهد دوماً" وبذلك يتحول الازدحام إلى شهادة جودة واعتماد، أما الأماكن الهادئة فهي أماكن تحوم حولها الشبهات، والمطعم الهادئ متهم بجرائم ضد المذاق.
يبدو أن الازدحام بالنسبة لنا أصبح أسلوب حياة، وأن حاجتنا للهدوء والسكينة هي أمنية نظرية تصطدم بأسلوب حياتنا حالما نحاول تحقيقها، فنحن على استعداد للوقوف في أي طابور على أمل معرفة السبب بعد ذلك، لكننا لسنا على استعداد لعيش دقائق من الهدوء في مكان هادئ.
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية
0 تعليق