تضعنا «الآداب الهندية» دائما بمواجهة سؤال أساسي يطرأ على بالنا حين نقرأ كاتبا ينتمي إلى «شبه القارة» تلك، حتى وإن بدا فـي الظاهر سؤالا بسيطا: من الكاتب الهندي؟ أو ربما، ماذا يعني أن يكون المرء كاتبا هنديا؟ سؤال يطرح نفسه حين نجد أن وحدة اللغة، كما توحيد البلاد، أمران لم يحدثا إلا فـي كنف بريطانيا العظمى، خلال فترة استعمارها للهند. فمنذ الاستقلال ولغاية العصر الراهن، لم يعرف الأدب الهندي انبعاثا لأدب فعلي مكتوب باللغة الهندية (Hindu)، أو باللغة الأوردية (لغة باكستان)، إذ بدا لنا دائما أنه أدب يُكتب باللغة الإنجليزية. كذلك، تبدو الأمور أكثر تعقيدا، من جراء ظاهرة «الدياسبورا»، بمعنى أن العديد من الكتّاب الهنود يعيشون خارج بلادهم. وبما أن مسألة اللغة التي يكتب بها الهندي محيّرة إلى هذا الحدّ، نجد أنفسنا أمام سؤال مفصلي آخر: كيف نحدد إذا هذا الكاتب؟ هل نعود إلى «الجذور الهندية» أم إلى بلد الولادة (مولود فـي الهند)؟ هل يكفـي أن يعيش أحدهم فـي الهند حتى من دون أن يكون قد ولد فـيها؟ ربما، جميع الاحتمالات واردة فـيما يتعلق بتسمية مَن هو الكاتب الهندي، إذ لا نستطيع أن نجزم ونحسم أمر هذه التسمية إلا وفق مراحل. والسؤال الآخر، هل من الضروري أن نقوم بعملية الجزم هذه؟
تضعنا حالة الكاتب والروائي والناقد أميتاف غوش أمام إشكالية مماثلة، فهو أولا يكتب بالإنجليزية؛ ولد فـي كالكوتا عام 1956، أمضى طفولته ومراهقته فـي الهند وبنجلادش وجنوب إفريقيا وإيران وسريلانكا، تلقى علومه فـي دلهي وأوكسفورد، وهو يعيش منذ تسعينيات القرن الماضي فـي نيويورك، حيث دَرّس فـي عدد من الجامعات هناك، ويعتبره النقاد الضلع الأخير من مثلث جيل يضم معه فـيكرام سيت وشاشي تارور. وقد حيّا فـيه النقاد، منذ روايته الأولى «نيران البنغال» (1986) موهبته «الحكائية» وخياله وتفرد فنّه الروائي. لكنه فرض نفسه بشكل نهائي مع «خطوط الظلال» (1988) التي يصوّر فـيها أفراد عائلة هندية قديمة، يتبادلون الأحاديث والأصوات والذكريات، مما يقدم لنا تأريخا لتمزقات شعب منفـي بشكل لا ينفع فـيه أي علاج. فبدءا بصور احتفظ بها شاب هندي عن القصف فـي لندن عام 1940، وحتى التظاهرات والاضطرابات التي جرت عام 1962 بين الهندوس والمسلمين، التي تسببت بمئات الضحايا، يصف لنا غوش تلك الهند المأساوية، وذلك الشعب المقتلع الجذور، المنذور لحرب أهلية ولتمزقات داخلية، يعرف كيف يقطع من خلاله، من حقبة إلى أخرى، ومن صوت إلى آخر. ثمة نزعة للبحث اليائس عن زمن ضائع، يتعايش فـيه (منذ الأزل) الألم والمذابح.
اكتشف القارئ العربي أدب غوش قبل سنوات مع ترجمة كتابه «فـي أرض قديمة» (مشروع كلمة للترجمة، أبو ظبي، ترجمة محمد أيوب الندوي) و«بحر من الخشخاش» (ضمن المشروع عينه، ترجمة سحر توفـيق)؛ ومع نهاية العام المنصرم، صدر له كتاب ثالث بالعربية: «للحرب وجه آخر» (منشورات تكوين الكويت، ترجمة إيمان معروف وتقديم سنان أنطون)، وهو يبدو واحدا من الكتب التي تجذب وتنفر فـي الوقت عينه وبخاصة أنه يتطرق فـيه، وفق العنوان الفرعي، إلى «ميراث الاستعمار، مسار الرأسمالية، خراب الكوكب». فالكاتب أحد أبرز ممثلي حركة ما بعد الاستعمار، وهو يسلط فـي عمله هذا (مرة أخرى) الضوء على الوحشية التي تأسست عليها الهيمنة الغربية بدءًا من القرن السادس عشر فصاعدًا. يبدأ الكتاب فـي الواقع بالمذبحة التي ارتكبها الهولنديون عام 1621 فـي جزيرة باندا، فـي الأرخبيل الإندونيسي، وهي إحدى المناطق القليلة التي كان من الممكن استخراج جوزة الطيب فـيها آنذاك (عنوان الكتاب الأصلي «لعنة جوزة الطيب»).
فـي إحدى ليالي أبريل من عام 1621، يسقط مصباح على الأرض فـي جزيرة باندا بيسار فـي أقصى غرب المحيط الهندي. وقد أدى هذا الحدث إلى مذبحة سكان الجزيرة على يد الجنود الهولنديين. السبب وراء هذه الإبادة الجماعية: الاحتكار العالمي لتجارة جوزة الطيب، التي يبدأ معها، غوش بتصوير لعنة الموارد التي تجعل من الجزيرة موقعًا لإحدى أولى الحروب الاستيلائية ــ ونقطة انطلاق للمشاكل الكبرى فـي عصرنا: الأزمة البيئية والجرائم الاستعمارية. من باندا بيسار إلى ستاندينغ روك وحتى أعماق غابات الأمازون، يجمع المؤلف قصص الدمار والمقاومة مثل قطع اللغز. بين مذكرات السفر والتحقيق التاريخي، يسلط كتابه الضوء على الدور المركزي الذي تلعبه قصصنا الجماعية فـي إصلاح العالم.
يكرر أميتاف غوش الشعارات المعروفة لمرحلة ما بعد الاستعمار: الارتباط بالرأسمالية وفكر السوق، والشعور الغربي بالتفوق، والنقاط العمياء فـي عصر التنوير والحداثة، وما إلى ذلك. لكن شيئًا فشيئًا، وببعض الحركات الدائرية، يضيف طبقة أعمق. يتميز الفكر الغربي، وقبل أي شيء، برؤية آلية للعالم: الرؤية التي ترى أن كلّ شيء خارج الإنسان هو «مورد»، لأنه صامت، غير متحرك، وبالتالي تابع، وقابل للتلاعب والاستغلال. وفـي التاريخ، يتجلى هذا مرارا وتكرارا فـي ما يسميه الهوس بالإبادة و«تحويل الأرض إلى بيئة صالحة للعيش»: على سبيل المثال، إبادة السكان الأصليين فـي أميركا، وبناء اقتصاد (رأسمالي) يعتمد بالكامل تقريبا على الوقود الأحفوري، والذي يهدد فـي الوقت عينه بقاء البشر والأرض نفسها. وبالنسبة له، فإن مشكلة المناخ الحالية وتآكل التنوع البيولوجي هي نتيجة لهذا النهج الغربي القاسي (الذي يُعتمد اليوم فـي كل مكان تقريبًا فـي العالم)، والذي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعدوان ضد الشعوب الأصلية (ماضيا وحاضرا). أطروحة لها بالتأكيد حجج صحيحة، على الرغم من أنها فـي الوقت نفسه أحادية الجانب إلى حدّ كبير، كما لو لم تكن هناك ثقافة أخرى لديها مثل هذه النظرة الوحشية للطبيعة والأشخاص الآخرين.
ومن حيث البنية ووجهات النظر، هناك بالتأكيد وحدة فـي هذا الكتاب، ولكن حجج غوش تميل غالبًا إلى التعرج والانحراف إلى مسارات جانبية. وأحياناً يبالغ بوضوح فـي بيع نفسه. على سبيل المثال، نحو النهاية، هناك هجوم عنيف (بحق) ضد الفاشية البيئية (أشكال الأصولية البيئية، بالنسبة للكاتب هي تلك الموجهة ضد المجتمعات الأصلية)، ولكن من هناك يقع فـي حجة تبسيطية إلى حدّ ما ضد العلم بشكل عام.
الجزء الأكثر إثارة للجدل فـي هذا الكتاب هو حين يدافع عن إعادة تقديم رؤية عالمية حيوية: فـي إشارة إلى الطريقة التي يتفاعل بها السكان الأصليون مع بيئتهم، وخاصة مع الطبيعة الحية. ثمة بالتأكيد عناصر صالحة لهذا أيضًا، لكن غوش يعمم بطريقة تجعله يعزو إلى الطبيعة، إلى الكوكب (وليس من المستغرب أنه يلتزم بنظرية غايا لوفلوك) وإلى الكون شخصية مقدسة ومستقلة تقريبًا. إن كل «الأشياء» تحكي قصتها الخاصة، هذه هي أطروحته، وهي عبارة مبررة من الناحية الرمزية، لكنه ينسى بوضوح أن القصص دائمًا ما يصنعها البشر/يفسرونها، وبالتالي فهي ليست كافـية فـي حدّ ذاتها. إنه خطأ فلسفـي يكمن جزئيًا وراء ما يشدّ السرد فـي الكتاب: الإشارة إلى القوة الصامتة/السرية للطبيعة (استنادًا إلى كتاب الكاتب الهولندي لويس كوبيروس «قوة الظلام»، 1900). ربما يجد القارىء بعض المشاكل الفكرية مع هذا الكتاب، ولكن فـي الوقت عينه يجب أن نعترف بأنه يحتوي على أفكار قيمة. وأقصد: قراءة هذا الكتاب تحفز النفس بالعديد من الأفكار المثيرة للاهتمام والمهمة حول الاستعمار، وتغير المناخ، والتفكير الميكانيكي الغربي، وما إلى ذلك، ولكن علينا أن نحافظ أيضًا على مسافة نقدية منه.
0 تعليق