أفول التكتلات وهيمنة الفرادنية

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يقول الفيلسوف الإغريقي أرسطو: «الإنسان مدني بطبعه»، بمعنى أنه لا يستطيع العيش بمعزل عن الجماعة، لأن العزلة تجعله عرضة للأخطار، بينما تمنحه الجماعة قوة وحماية. وهذا القانون الطبيعي الذي يحكم حياة الأفراد ينطبق تمامًا على الدول، فحين تشعر بالخوف أو التهديد، فإنها تبحث فورًا عن تجمع أكبر تحتمي به، سواء كان ذلك سياسيًا أو اقتصاديًا أو عسكريًا. التكتلات الدولية لم تنشأ من فراغ، بل جاءت استجابة لحاجة الدول إلى ضمان أمنها، وتأمين مصالحها، وتعزيز مكانتها بين الأمم.

منذ نشأة الدول الحديثة، كانت فكرة التحالفات والتكتلات أساسية في تشكيل النظام العالمي، فالأمم المتحدة على سبيل المثال نشأت بعد الحرب العالمية الثانية في محاولة لإنشاء مظلة سياسية تقي الدول ويلات الحروب والصراعات، والجامعة العربية أيضا جاءت لتجميع الدول العربية تحت راية واحدة تضمن نوعًا من الوحدة والمساندة المشتركة. دول مجلس التعاون الخليجي أيضا قامت على المبدأ ذاته وهو تشكيل تكتل خليجي إقليمي لحماية مصالحها وتعزيز أمنها المشترك فيما بينها، وحديثا نشأ الاتحاد الأوروبي بعد سلسلة من الأزمات والحروب ليعزز التعاون الاقتصادي والسياسي بين دول القارة لتمنع تكرار مآسي الماضي.

التكتلات الاقتصادية، مثل مجموعة بريكس، جاءت أيضا كرد فعل على هيمنة النظام المالي التقليدي، حيث سعت دول مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا إلى خلق منظومة اقتصادية تضمن لها مكانًا أكثر استقلالية في الاقتصاد العالمي مثلها مثل منظمة الآسيان التي سعت منذ تأسيسها إلى توحيد الصوت الآسيوي في وجه القوى العالمية الكبرى.

كل هذه التكتلات لم تكن رفاهية سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، بل جاءت استجابة طبيعية لحاجة الدول إلى الحماية والتوازن والشعور بالأمان والاطمئنان، لكنها اليوم تواجه تحديات كبرى تهدد وجودها وتفتح الباب أمام عالم تسوده الفردانية حيث تبرز بعض القوى الفردانية المهيمنة على المشهد العالمي، فيما تتراجع فاعلية التجمعات التي لطالما شكلت درعًا لأعضائها.

مشهد التكتلات والتجمعات العالمية يختلف اليوم عن المشهد ذاته في الماضي فكثير من هذه التكتلات وإن كانت لا تزال قائمة فهي بالاسم فقط، لكنها لم تعد بالقوة نفسها. الأمم المتحدة، التي يُفترض أنها تضمن الاستقرار العالمي، أصبحت غير قادرة على فرض قراراتها أمام القوى الكبرى التي تستخدم الفيتو لمصلحتها والجامعة العربية تُصدر قرارات، لكنها في كثير من الأحيان لا تُنفذ أو لا تؤخذ بجدية وبعض منها غير ملزم للأعضاء.

في المقابل، نشهد على الجانب الآخر تصاعد قوة الدول الفردية المهيمنة، الولايات المتحدة ما زالت تفرض نفوذها سياسيًا وعسكريًا على كل دول العالم دون استثناء خصوصا خلال المرحلة الترامبية، الصين أصبحت قوة اقتصادية هائلة، وروسيا تتصرف وفق مصالحها دون اكتراث بالقرارات الدولية. هذه الدول تفرض واقعًا جديدًا، حيث يبدو أن التكتلات لم تعد قادرة على مجاراة النفوذ الفردي المتصاعد فنحن اليوم أمام عالم تتحكم فيه القوى الكبرى وحدها، بينما تتراجع فاعلية التكتلات التي شكلت لعقود موازين القوى في العالم.

السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل ستستمر هذه التكتلات أم أنها وصلت إلى مرحلة الشيخوخة وبدأت تفقد أهميتها حتى مع أعضائها أنفسهم؟ إذا نظرنا إلى التاريخ، سنجد أن العديد من التكتلات التي بدت في زمنها قوية ومؤثرة لم تستطع الصمود مع تغيّر الظروف؛ فتكتل مثل تكتل الدول الاشتراكية، الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي، انهار تمامًا مع سقوط الاتحاد نفسه، وذهبت دوله لتبحث عن مصالحها بعيدًا عن الفكر الجماعي الذي كان يجمعها. حركة عدم الانحياز، التي كانت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تمثل قوة متوازنة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، فقدت تأثيرها مع انتهاء الحرب الباردة، ولم تعد تُذكر إلا في المؤتمرات الدبلوماسية الرمزية.

اليوم، تبدو التكتلات الدولية في وضع مشابه. صحيح أن بعضها لا يزال قائمًا، لكنه يواجه صعوبات حقيقية في الاستمرار بنفس القوة والتأثير. الاتحاد الأوروبي يعاني من التحديات الداخلية، خاصة بعد خروج بريطانيا، والحديث عن خلافات بين دوله الأعضاء. الأمم المتحدة تفقد قوتها أمام الدول الكبرى التي تتلاعب بقراراتها حسب مصالحها. الجامعة العربية لم تعد تملك التأثير الحقيقي لحل الأزمات العربية. حتى مجموعة بريكس، رغم صعودها الاقتصادي، إلا أن تباين مصالح أعضائها قد يحدّ من قدرتها على التحرك كقوة موحدة حتى تجمع دول مجلس التعاون الخليجي يعاني من انقسامات بين أعضائه.

في المقابل، نشهد تصاعد نفوذ الدول الكبرى التي بدأت تحل محل هذه التجمعات، الولايات المتحدة، رغم المنافسة التي تواجهها، لا تزال القوة الأكثر تأثيرًا سياسيًا وعسكريًا. الصين تتوسع اقتصاديًا بشكل غير مسبوق وتفرض نفوذها في آسيا وإفريقيا، روسيا تتحرك منفردة لتحقيق مصالحها دون الحاجة إلى تحالفات قوية، وكأننا نعود إلى عصر القطب الواحد، أو ربما إلى عالم تحكمه ثلاث أو أربع قوى كبرى، بينما تبقى بقية الدول مجرد لاعبين ثانويين في مشهد تهيمن عليه المصالح الفردية بدلًا من التعاون الجماعي.

فهل ستتمكن هذه التكتلات من إعادة ترتيب صفوفها واستعادة تأثيرها؟ أم أننا بالفعل نشهد نهاية عصر التكتلات وبداية عالم تتحكم فيه الهيمنة الفردانية وحدها؟ سؤال سيجيب عنه المستقبل القريب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق