تُستخدَم كلمة «الجماليات» عادةً في علم الجمال التقليدي للإشارة إلى القيم الفنية والجمالية المتعلقة بالفن أو العمل الفني artwork من حيث إبداعه وتَلقيه ونقده، ولكن الكلمة أصبحت تمتد الآن إلى مجال الجماليات في الحياة اليومية، كما سبق أن أوضحت في أكثر من مقال.
وأنا أستخدم الكلمة هنا في سياق هذا المجال الأخير؛ لأن الفانوس وإن لم يكن «عملًا فنيًّا» من أعمال الفنون الجميلة، إلا أنه يظل عملًا أو «شيئًا مصنوعًا» artifact له جمالياته الخاصة التي تنتمي إلى سياق الحياة اليومية في شهر رمضان تحديدًا. ولكن قبل التطرق إلى هذا الموضوع، أود التأكيد أولًا على أنه ينتمي إلى جماليات طقوس شهر رمضان بوجه عام، وهي طقوس تعبر عنها الشعوب المسلمة على أنحاء شتى في أساليب الحياة في المأكل والمشرب والإعداد لأهلة الشهر الكريم والاحتفاء بها. ومع ذلك، يمكن القول بأن ما يجمع بينها هو فكرة التجمع والمشاركة الفيزيقية والروحية بين الناس، سواء في مآدب الطعام أو في صلاة التراويح أو في عملية الاحتفاء بالطقس نفسه.
ومع ذلك، يظل للفانوس رمزية جمالية خاصة في موروثنا العربي الثقافي والاجتماعي، فهو حاضر بقوة سواء على مستوى المتخيَّل الأسطوري أو الواقعي المتمثَّل في أشياء واقعية رمزية؛ ومن ذلك على سبيل المثال: «الفانوس السحري» الذي نجده في الحكايات مثل «ألف ليلة وليلة» وغيرها، بل إن هناك فيلمًا مصريًّا كوميديًّا قديمًا بهذا العنوان نفسه، وهو الفانوس الذي إذا عثر عليه أي شخص ودعكه بأصابعه، يخرج بذلك العِفريت أو الجان من القمقم المحبوس فيه ليحقق للشخص كل ما يتمناه جزاءً لتحريره من محبسه؛ وبذلك ترتبط الدلالة الرمزية للفانوس هنا بحالة تحقيق الأماني والأحلام. وهناك مصباح أو «فانوس علاء الدين» الذي يتطابق مع الرمز السابق نفسه وإن كان من خلال سردية معينة، وهي سردية تشير في النهاية إلى قدرة علاء الدين وإصراره على الاحتفاظ بالفانوس الذي يعني احتفاظه بالأمنيات المتحققة في مواجهة الساحر الشرير الذي يريد استعادة الفانوس.
ومثل هذه هي السرديات التي أصبحت شائعة في التراث العربي والعالمي، وكانت ملهمة للكثير من الروايات الأدبية والأفلام السينمائية. وهناك أيضًا «الفانوس البحري»: ومنه ما يُسمى «الفنار» الذي هو بناء معماري يعلوه فانوس ضخم يرسل إشارات ضوئية لكي ترشد السفن في أثناء الإبحار وتساعدها في تحديد مواقعها البحرية، وهو عادةً ما يكون قائمًا عند رأس ميناء بحري. وهناك ما هو أصغر من ذلك، وهو الفانوس البحري الذي يوضع عند رأس الجزر والشعاب المرجانية الناتئة القريبة من الشواطئ؛ لكي يحذٍّر السفن والقوارب من الارتطام بالصخور أو الشعاب، ومن ثم يهديها إلى الطريق الآمن. ومنه ما هو مجرد فانوس للإضاءة متفاوت القوة والحجم، يوضع على رأس مقدمة السفن كي ينير طريقها في أثناء الإبحار الليلي.
هذه الدلالات المتعلقة بمعاني تحقيق الأماني، والإنارة، والهداية إلى الطريق- هي جميعًا دلالات مترابطة، وهي بلا شك تشكل الخلفية الواسعة لرمزية فانوس رمضان. ومع ذلك يظل فانوس رمضان له خصوصيته وخلفيته المتعلقة بفكرة الاحتفال الديني في شهر رمضان. فانوس رمضان هو رمز احتفالي مصري أصيل، فهو جزء أصيل من الاحتفالات الدينية الرمضانية التي أدخلتها الدولة الفاطمية بمصر (وهي احتفالات تشمل إعداد الأهلة وتناول صنوف معينة من الطعام والحلوى المخصوصة). وعلى الرغم من شيوع الاحتفالات الرمضانية في كثير من بلدان العالم العربي، فإن أقربها إلى الاحتفالات المصرية تُوجَد في بلاد الشام. أما الرمزية الاحتفالية للفانوس فإنها شائعة في مصر تحديدًا، وهي تُوجَد على استحياء في غيرها، ولكنها موجودة في البلدان القريبة، خاصةً في فلسطين. ولقد احتفى المصريون بشهر رمضان، فخصصوا له الأغاني الشهيرة التي غناها السابقون واللاحقون من كِبار المطربين، وكثير منها مخصص لفانوس رمضان أو يأتي على ذكره بإعزاز.
فما ذلك الفانوس؟ الفانوس الرمضاني التقليدي مصنوع من الصفيح الأبيض المُعشَّق بالزجاج الملون غالبًا بالأصفر والأخضر والأزرق، وهو يُضاء بالشمع، وهو الفانوس الذي كنا نتجول به بعد الإفطار الرمضاني في الحواري التي يسكنها الجيران بانتظار نفحة رمضانية منهم، بينما نتغنى بالأغنية الشهيرة «وحوي يا وحوي، إياحة». وفي تفسير تلك الحالة الاحتفالية، أقتبس هنا بتصرف شيئًا مما قاله الدكتور كمال مغيث في هذا الصدد:
«كنا نحمل فوانيسنا الصغيرة المتواضعة، ونشعلها بالشمع ونمر على البيوت ونحن ننشد «وحوي يا وحوي.. إياحة، حالو يا حلو رمضان كريم يا حالو»، وكان هؤلاء الأقارب يجودون علينا ببعض التمرات، أو ببعض ثمار الفاكهة، لا أكثر من ذلك. وقد حاولت أن أفهم معني هذه الكلمات. كلمات: «وَحوي يا وَحوي إياحة»، لاهتمام أصيل يدفعني لمحاولة فك رموز الثقافة المصرية؛ فتبين لي: أن اسم «إياحة» هو اسم التدليل للأميرة «إياح حُتب» التي شجعت ابنها الثاني أحمس ودفعته إلى الانتصار على الحثيين.
وحيث إن كلمة «إياح» معناها «قمر»، وحُتب معناها «الزمان»؛ فإن هذا الاسم يعني «قمر الزمان»، بينما تعني كلمة «وَحوي»: مرحباً أو أهلاً. وتقديرًا للتضحيات وللدور البطولي لـ «إياحة»؛ فقد خرج المصريون القدماء حاملين المشاعل والمصابيح وهم يهتفون لها: «وَحوي يا وَحوي إياحة»، أي: مرحبًا يا قمر، أو أهلًا يا قمر .وهكذا أصبحت «وحوي إياحة» أو «أهلًا يا قمر»، تعويذة المصريين وشعارهم لاستقبال كل قمر يحبونه، خاصًة: قمر رمضان».
هكذا يمكن أن تبين كيف تحمل اللغة والرموز شيئًا من موروثنا الثقافي وتحتفي به، وهي حالة نتحسر عليها اليوم بعد أن اجتاحت شركات العولمة إرثنا الثقافي، فصدرت لنا الفوانيس الصينية البلاستيكية الرخيصة التي قضت على صناعتها المحلية، وجعلت من الفانوس لعبة من الألعاب في أشكال شتى، ما باعد بينه وبين أصله الثقافي الاحتفالي. ومَن يقرأ مقالي هذا من العارفين بفلسفة التأويل، سيدرك أن هذا المقال ينبع من روح التأويل عند جادامر، خاصة في مقاله الطويل للغاية عن «احتفالية المسرح» من كتابه «تجلي الجميل» الذي قمت بترجمته سنة 1999.
0 تعليق