ليس من المبالغة في شيء القول بأن إسرائيل خططت منذ وقت مبكر للاستفادة بكل السبل الممكنة من وضع الأقليات الإثنية والدينية والعرقية التي تشكلها الأقليات التي يضمها المجتمع الإسرائيلي، ليس فقط إثنيا وسكانيا ولكن سياسيا واجتماعيا أيضا، خاصة وأن المجتمع العربي في فلسطين قبل قيام إسرائيل كان -كما هو معروف- مجتمعا متفاعلا بين أبنائه وطوائفه ولم يوظف نظرية المؤامرة إلا مع تشكيل الأطر الإدارية والتنظيمية مع تشكيل الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي ظهرت في المجتمع الإسرائيلي أواخر القرن التاسع عشر وحاولت استثمار حالة التسامح في المجتمع العربي في ذلك الوقت المبكر وتوظيفها لخدمة الأهداف الصهيونية والإسرائيلية المستترة إلا على مستوى دوائر معينة ولم تثر مخاوف أو تطرح شكوكا في هذا الوقت المبكر خاصة في وقت تمتعت فيه الحركة الصهيونية بدعم وتأييد الغرب على نطاق واسع والقوى المؤثرة فيه لتنفيذ تكتيك التحرك على مراحل والاستفادة من ذلك لصالح الحركة الصهيونية حتى يشتد عودها في أسرع وقت ممكن وتستطيع الوقوف في مواجهة عسكرية بالتنسيق مع الجيش الإسرائيلي لخدمة تطبيق أفكارها على المستويات المختلفة ومن ذلك على سبيل المثال قيام مناحيم بيجين زعيم منظمة شتيرن الإرهابية باغتيال الكونت برنادوت في فلسطين عام 1949 وكان ممثلا للأمم المتحدة وذلك بالتنسيق بسبب مواقفه من الأهداف الصهيونية في ذلك الوقت المبكر.
وبالرغم من أن الاهتمام الإسرائيلي بربط أو محاولة ربط الأقليات غير اليهودية بالمجتمع الإسرائيلي بمختلف الوسائل، بما في ذلك الوسائل الثقافية والاجتماعية ومحاولة اختلاق نماذج أو صيغ قديمة للتفاعل وتحقيق أشكال ما للتفاعل الاجتماعي والثقافي لإكساب هذا البعد أهمية خاصة على أكثر من مستوى والاستفادة من البعد الاجتماعي له أيضا، فإنه من المثير للدهشة ظهور الاهتمام الرسمي الإسرائيلي هذه الفترة من خلال الاهتمام الشديد بالعلاقة مع الأقليات في إسرائيل والدول المجاورة لها، مثل الأقلية الدرزية وغيرها، والعمل بسرعة من أجل محاولة وضع إطار لعلاقة حماية أو دفاع عن هذه الأقليات سواء لتحديد طبيعة العلاقة في إطار المجتمع الإسرائيلي وإظهار شكل متوافق عليه بين الجانبين تتحدد في إطاره العلاقة مع المجتمع الإسرائيلي بوجه عام، وكذلك على المستوى الخارجي، وإكساب هذه العلاقة قوة ومعنى في مواجهة أية تطورات على المستوى الداخلي وكذلك الخارجي الإسرائيلي وذلك في إطار صيغة تخدم إسرائيل ومصالحها في المقام الأول وتعزز علاقاتها مع الأقليات المختلفة تحت كل الظروف بالطبع.
وإذا كانت العلاقة مع الأقليات والقدرة على تجاوز ما قد تتعرض له من مشكلات وتحديات وعقبات مختلفة ومتجددة أحيانا تتوقف في الواقع على عوامل عديدة وتتقاطع أيضا مع عوامل مختلفة إلا أنها تنضج في التربة بفعل عوامل مباشرة وغير مباشرة وتتفاعل أيضا مع عوامل عديدة منظورة وغير منظورة فإنه من الطبيعي أن تتفاعل كل هذه العوامل مع بعضها البعض وتتداخل فيها مصالح وأطماع فردية وجماعية قد تعبر عن نفسها بطرق مختلفة، وهو ما قد تصاحبه خلافات بسبب مواقف الأطراف المختلفة وتقاطع المصالح فيما بينها بشكل أو بآخر.
ومن ثم فإنه يمكن القول إن هذه المرحلة هي بالفعل مرحلة دقيقة وقابلة لظهور مشكلات مختلفة ومن المهم أن تتحقق أكبر وأوسع درجة من التفاهم بين الأطراف حفاظا على المصالح المتبادلة المعنية خاصة فيما يتصل بالمحافظة على المصالح المشتركة والمتبادلة وبما يحافظ كذلك على قوة المجتمع وتماسكه لأن البديل قد يثير مشكلات عديدة، سلبية ومؤثرة في حياة المجتمع وربما قدرته على البقاء أيضا بكل ما يعنيه ذلك من نتائج.
على صعيد آخر، فإنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى حقيقة أن طبيعة هذه المرحلة تتوقف على مجمل الظروف التي يمر بها المجتمع والتحديات التي مر بها أو تعرض لها ومدى تأثيرها على أوضاعه والحالة الراهنة في سوريا الشقيقة تعبّر إلى حد كبير عن طبيعة الوضع فيها وما قد تتعرض له في الفترة القادمة وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب من أهمها أولا، أن إسرائيل مهجوسة بالعلاقات مع الدول المجاورة لها وخاصة سوريا ولبنان والعراق والأردن، وفي ظل الظروف التي مرت بها سوريا منذ رحيل الرئيس السوري الأسبق حافظ الأسد وحتى تدهور سوريا تحت حكم بشار وهروبه من دمشق في ديسمبر الماضي في سوريا ومتابعة إسرائيل لكل ما يجري في سوريا وتدهور أوضاعها بشدة في الفترة من2011 حتى 2025 فإنه من الطبيعي أن تضع إسرائيل في اعتبارها الاستفادة إلى أقصى مدى من الأوضاع السورية بما في ذلك الأراضي التي ضمتها إسرائيل من سوريا عام 1980 من الجولان ولم تعترف بها الأمم المتحدة وقد تحدث عنها الرئيس السوري أحمد الشرع مؤخرا وذلك في مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل هو أمر من المرجح الحديث عنه مرة أخرى خلال زيارة الرئيس ترامب للسعودية في منتصف هذا الشهر وكذلك زيارته للإمارات ودولة قطر.
وعلى ذلك حرصت إسرائيل على الدفع بالعلاقات مع الطائفة الدرزية في سوريا خطوات إلى الأمام أو الإعداد لذلك، ومما له دلالة أن يتبع نتنياهو سياسة مزدوجة مع سوريا ففي حين أعلن بوضوح عن نيته وعزمه حماية الطائفة الدرزية فإنه حذر الرئيس السوري أحمد الشرع من التقاعس عن القيام بواجبه في حماية الدروز في سوريا وكأنه هو المسؤول عنهم، وتعد سلسلة الغارات الإسرائيلية يوم السبت الماضي وكذلك مهاجمة القصر الجمهوري في دمشق تحذيرا ضد أي تقاعس في هذا المجال وهو أمر أدانته العديد من الدول العربية باعتباره انتهاكا وتعديا على سيادة واستقلال سوريا. وهو أمر يدخل أيضا في إطار العمل على إضعاف سوريا عسكريا وضرب قدراتها بشكل أو بآخر وهو أمر قد لا يتوقف سريعا برغم الانتقاد الدولي الواسع للممارسات الإسرائيلية هذه.
ثانيا، أن الإصرار الإسرائيلي على فرض الحماية على الطائفة الدرزية لن يكون نهاية المطاف في الواقع خاصة في ظل ما أعلنت عنه إسرائيل من استعدادات للتدخل في جنوب سوريا والدفاع عن الطائفة الدرزية وبذلك نقلت إسرائيل المبدأ بعد طول انتظار، -مبدأ حماية الأقليات الدروز بدءا بالطائفة الدرزية- إلى المجال العملي في ظل ظروف مواتية بعد طول انتظار وهو ما يمكن مناقشته بالتنسيق مع حكومة الشرع في المستقبل عندما تتوفر الرؤية الأمريكية المواتية وتتهيأ الظروف على الجانبين.
وإن كان من المعروف أن حكومة الشرع تعارض هذا الأمر بوضوح. وعلى أية حال فإن هذا سيعني بشكل ما أن العلاقات السورية الأمريكية سوف يعاد صياغتها خلال الفترة القادمة وبما ينطبق على الجانبين السوري والأمريكي وبما يتوافق عليه الجانبان أيضا، خاصة بعد انسحاب جزء من القوات الأمريكية من سوريا مؤخرا. من جانب آخر فإن إسرائيل ليست صديقة لسوريا وحالة الحرب لا تزال قائمة ولم تنته بينهما حتى الآن منذ عام 1973 وعلى ذلك فإن الوضع القانوني يكتنفه الكثير من المشكلات خاصة بالنسبة للأرض التي ضمتها إسرائيل والصعوبات بين البلدين، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار تصريحات وزير مالية إسرائيل بتسلئيسل سي موتريتش قبل أيام والتي قال فيها إن الحرب ستنتهي بعد «تفكك سوريا وتهجير الفلسطينيين وهزيمة حماس» على حد قوله.
وإذا كانت هذه أمنية إسرائيل في ضرب سوريا ومحاولة المساس بها فإنه لا يمكن إغفال أمنية إسرائيل في إضعاف سوريا وضرب قدراتها لأن إسرائيل تدرك قدرة سوريا من قبل ولذا فإنها ستعمد إلى إضعافها في الفترة القادمة بكل السبل الممكنة، ومن جانب آخر فإنه يمكن افتراض أن إضعاف سوريا يأتي أيضا من خلال فرض سيطرة إسرائيل على الأقليات السورية واختلاق فتن داخلية لإضعاف تماسك المجتمع السوري في هذه المرحلة بالذات والحيلولة دون نهوضه مرة أخرى على النحو المأمول. يضاف إلى ذلك أن حماية إسرائيل للأقلية الدرزية وغيرها سوف يثير على الأرجح مشكلات عديدة بين سوريا وإسرائيل في المستقبل يمكن أن تفتح المجال لخلافات أكبر وأوسع مما يتصوره الكثيرون.
0 تعليق