أعود للكتابة بعد إجازة شهر، ليتصادف أننا في أسبوع نحتفي فيه بيوم الصحافة العالمي ويوم الصحافة البحرينية، وهنا أتوقف قليلاً لأستذكر محطات عديدة أولها بدأ منذ ثلاثة عقود بالضبط، أي منذ كنت طالباً في المدرسة.
بداية حب هذه «الحرفة»، ولن أقول «مهنة»؛ لأن الفارق كبير وشاسع جداً، بل هو بون يقارب بُعد السماء السابعة عن الأرض السابعة. البداية كانت عبر مجلة شبابية شهيرة، وأعني هنا «مجلة ماجد» التي كبرت معها أجيال، وبفضلها تحول كثير من الناشئة لـ«مندوبين» و«مراسلين» ومساهمين بالنشر عبر إقامة المقابلات مع الشخصيات المختلفة في أوطانهم، وما يميزهم كان إبراز «بطاقة المندوبين»، والتي يومها كنا نعتبرها توازي بطاقة الصحفيين المحترفين.
هواية الكتابة، تصقلها قراءات وتمعن في فنون رسم الكلمات، وانتقاء الألفاظ الجزلة، والتأثر بأساليب سردية ذكية ومبتكرة، وهنا لن أنسى طيبي الأثر، الراحلين الكبيرين الدكتورين نبيل فاروق «مبتكر شخصية رجل المستحيل»، و«العراب» أحمد خالد توفيق، إذ من قراءة رواياتهما وسلاسلهما التاريخية المخلدة، بدأت تتشكل موهبة الكتابة والمحاكاة والسعي باتجاه الإبداع.
وما الصحافة إلا عالم يوظف الكلمات، ومساحة تبرز وتسطع فيها الكتابات المؤثرة. وهنا كان الشغف يزداد حينما تؤمن بأهم شيء؛ بأن الكتابة ليست ترفاً، بل «رسالة إنسانية» من خلالها نوصل نبض الناس، وتناقش القضايا، وننتقد الأخطاء، ونبحث عن الحلول والمقترحات، ومن خلالها تدرك معنى «الإحساس بالإنجاز»، حينما تنفض حروفك الغبار، وتحرك كلماتك الجبال، إن هي حققت الصدى، ولاقت التحرك المطلوب.
وكلما تقادم الزمن، زاد الحنين للماضي، وأقولها بكل صراحة، إذ صحافة الأمس بوعورة طرائقها، وعسارة أن تُحسب عليها، وتحدي تحقيق التأثير وصناعة التغيير، هي ليست ذاتها صحافة اليوم، ولتفكيك هذه الجملة وتحليلها وبيان المقصد قد أحتاج لصفحات كتاب ضخم، لأن السطور لا تتحمل هنا، ففارق «الحرفة» و«المهنة» يدركه من يستوعب المخرجات فيما سبق وفيما أعقب.
وليست انتقاصاً من نتاجات تقادم الزمن، لكنه الحنين لزمن كان فيه التعويل على تأثير القلم أكبر، كان الارتكاز على قوة تداعيات العمل الصحفي أوقع وأقوى، وهنا نتحدث عن هوامش بالضرورة تغيرها الأزمان والأولويات، لكن تظل هناك حقبة ذهبية وفترة مزدهرة لكل فن إنساني يمارس على هذه الأرض.
حروف القلم أخطر من الرصاص، ولهذه المقولة شواهد في كل مكان، وكم من قصص تكشف الدور المؤثر التي قامت به الصحافة في رسم تاريخ حضارات وأمم، وكيف كانت الصحافة المخلصة لوطنها، المتحركة وفق المبادئ والقيم والواجب، كيف كانت تمثل ترسانة سلاح مدججة، لكنها لا تحتاج لذخيرة سوى الأحبار وقبلها الضمائر والإخلاص لأهداف هذه «الحرفة».
ولأنها بهذا التأثير، يحكي التاريخ في الماضي والحاضر عن مساعي ومحاولات للتأثير على الصحافة أو إخماد صوتها، خاصة ممن لا يريدون لها أن تلعب دورها وتلتزم برسالتها النيرة، وعليه ستجدون إحصائيات توثق عدد شهداء هذه المهنة حول العالم، خاصة ممن يغطون معاناة البشر والإنسانية في «بؤر الحروب» أو «خراب الكوارث».
هناك وجهان لكل لوحة، والبشر يحبذون دوماً رؤية الوجه المشرق، لكن الحقيقة تثبت بأنه لولا الجانب المظلم لما كان للإشراق قيمة.
في البحرين، نذكر لملكنا المعظم الغالي انطلاق مشروعه الإصلاحي بجرأة وشجاعة، مستنداً على أهم الأسس التي نقدسها في عملنا الصحفي وكتابتنا، وهي الحرية والمصداقية والنزاهة وإيصال صوت الناس. وكيف معه تعاظم الوجه المشرق لصحافتنا، وتمثلت بأدوار وطنية خالصة، حولت ما نكتبه بالفعل إلى رصاص يحمي الوطن ويتصدى لكائديه، وحولت الكلمات إلى أداة بناء وإسناد لأجل البحرين الغالية وشعبها الطيب. وأيضاً نذكر لسمو ولي عهدنا رئيس مجلس وزرائنا الغالي دعمه واهتمامه وتقديره الدائم لصحافتنا الوطنية ودورها وتأثيرها.
وهنا التعويل دوماً على غد أكثر إشراقاً، ومستقبل يمنح الصحافة مزيداً من الإسناد والدعم لتمارس دورها المطلوب، ولتكون بالفعل نبضاً للناس وصوتاً لهم. ولتكون قوة للوطن، ودرعاً ضد من يرون كلماتها رصاصاً وليست أحباراً.
0 تعليق