قد تكون مواقف ترامب في السياسة الخارجية مصدر مشاكل بالنسبة لإسرائيل. في أيلول (سبتمبر) الماضي، قال إنه يجب إبرام صفقة مع إيران. وفي الشهر التالي، أكد أنه سيوقف المعاناة في لبنان. هذه التصريحات، إضافة إلى تردده في تقديم الدعم العسكري والمالي الأميركي للخارج، تشير إلى احتمال حدوث تغيير جذري في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل.اضافة اعلان
***
لم يكن فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية ليأتي في وقت أكثر ملاءمة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. بعد مرور أكثر من 13 شهراً على الهجوم الذي شنته "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تقف إسرائيل اليوم على أعتاب تحقيق انتصار حاسم. ومنذ بداية العام، تمكنت من شق صفوف "حماس" و"حزب الله" وتصفية لفيف من كبار قادتهما. كما نفذت ضربات دقيقة وموجهة ضد أهداف استراتيجية إيرانية. وعلى المستوى الداخلي، استعاد نتنياهو شعبيته بعدما انهارت إلى أدنى مستوياتها عقب الهجوم المذكور.
يرى نتنياهو وحكومته في الوضع الحالي فرصة نادرة لإعادة تشكيل شاملة للشرق الأوسط. وعلى الرغم من الضغوط الدولية المطالبة من أجل هدنة، ما يزال نتنياهو، مدعوماً بتأييد قوي من جناحه اليميني المتطرف، مصراً على تكثيف سعيه إلى تحقيق "النصر الكامل" مهما طال الأمد. وإضافة إلى مواصلة الحرب في غزة وتعزيز الوجود الأمني الإسرائيلي المطول في شمال القطاع، تتضمن هذه الرؤية فرض نظام جديد في لبنان، وتحييد وكلاء إيران في العراق وسورية واليمن، وتقويض التهديدات النووية الإيرانية، والقضاء بصورة نهائية على أي إمكانية لحل الدولتين، كما يأمل بعض أعضاء الائتلاف الحاكم.
وفي الوقت ذاته، يعتقد نتنياهو أن السعودية وغيرها من دول الخليج ستوافق، عاجلاً أم آجلاً، على التطبيع مع إسرائيل. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يبدو رئيس الوزراء واثقاً كل الثقة من أن الولايات المتحدة ستقف إلى جانبه وتدعمه.
هذا المخطط مغر ويستند إلى منطق معقول إلى حد بعيد. في نهاية المطاف، لا يغيب عن أحد في القدس موقف ترامب الداعم لإسرائيل، وتجاهله للمعايير والمؤسسات الدولية، وتصرفه بحذر في الأمور الحساسة بعكس سلفه الديمقراطي. وقد أبرقت إدارة الرئيس المنتخب بالفعل خططها لإعادة إحياء حملة "الضغط الأقصى" تجاه إيران، مع إعطاء الأولوية لتوسيع "اتفاقات إبراهيم".
لكن هذه الافتراضات، سواء بشأن ما يمكن تحقيقه بقوة السلاح أو مقدار الدعم المتوقع من الإدارة الأميركية في عهد ترامب، مبالغ فيها بشكل خطر. لا يمكن للنجاحات التكتيكية في ميادين المعارك، في غياب أي ترتيبات سياسية أو دبلوماسية، أن تضمن الاستقرار والأمن المستدامين، وسرعان ما قد تجد إسرائيل نفسها غارقة في صراعات عديدة، ومسؤولة عن أوضاع أعداد كبيرة من المدنيين في غزة ولبنان.
كما يتطلب كسب تأييد العالم العربي أكثر من مجرد هزيمة "حماس" و"حزب الله". وسيظل هذا الهدف بعيد المنال ما دامت الحكومة اليمينية الحالية في السلطة. وفي المقابل، يبقى ترامب شخصية يصعب التنبؤ بتصرفاتها، ومن غير المستبعد أن تجد إسرائيل نفسها يوماً معزولة عن الساحة الدولية بعد أن راهنت على دعمه. وفي إطار سعيه المستمر إلى تحقيق النصر الدائم، قد يكتشف رئيس الوزراء أن سياساته هي التي أضعفت إسرائيل.
المخطط الأكبر
تتزامن عودة ترامب إلى السلطة مع تغير الديناميات الإقليمية أخيراً لمصلحة إسرائيل. فبعد الهجوم الشنيع الذي نفذته "حماس" وأثار صدمة كبيرة، رد الجيش الإسرائيلي بسلسلة من العمليات المكثفة في غزة أسفرت، على مدى أكثر من عام، عن تحطيم الهيكل القيادي لـ"حماس" وإضعاف قدراتها العسكرية بصورة شبه تامة، وقد دُمرت الكتائب الـ24 التي كانت تتفاخر بها الحركة قبل بداية الحرب بالكامل، إضافة إلى أجزاء واسعة من شبكة الأنفاق التابعة لها. ومع مقتل يحيى السنوار في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تقلصت إلى حد كبير فرص "حماس" في ارتكاب مذبحة أخرى بهذا الحجم.
كما ألحقت إسرائيل أضراراً مماثلة بـ"حزب الله" الذي كان يعد سابقاً الذراع الأقوى والأكثر تأثيراً في "محور المقاومة" الإيراني. إضافة إلى اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصرالله، وعدد كبير من كبار قادته، نفذت القوات الإسرائيلية توغلاً برياً في لبنان ترتب عنه استنزاف هائل في مخزون الحزب من الصواريخ والقذائف. وبالتزامن، قامت الطائرات الإسرائيلية بطلعات جوية متواصلة فوق سورية وقصفت البنية التحتية للحوثيين في اليمن على مسافة تتجاوز الـ1000 ميل، وكذلك استولت وحدات الكوماندوز التابعة للجيش الإسرائيلي على أصول استراتيجية في لبنان وسورية.
وفي إيران، تكبدت المجمعات العسكرية خسائر فادحة جراء الضربات الإسرائيلية الدقيقة التي استهدفتها في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي في إطار إحدى العمليات. وقد أطلقت إسرائيل ثلاث موجات من الهجمات بالطائرات تمكنت خلالها من تدمير مختبر أبحاث للأسلحة النووية ومنشآت لإنتاج الصواريخ الباليستية ومنظومات دفاع جوي، وقاذفات أرض أرض في مناطق عدة داخل البلاد.
جاءت هذه المكاسب العسكرية التي حققتها إسرائيل قبل الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي على حساب تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة. فعلى الرغم من دعم إدارة بايدن لإسرائيل عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً والذي توج بزيارة تاريخية كانت الأولى لرئيس أميركي إلى إسرائيل أثناء الحرب، عبرت الإدارة خلال مناسبات عدة عن استنكارها للطريقة التي تدير بها إسرائيل الحرب، وكثيرًا ما نشبت خلافات مباشرة بين الرئيس بايدن ونتنياهو تتالت فصولها مع عدم رغبة حكومة الأخير في الدخول في مفاوضات لوقف إطلاق النار، وإحجامها عن توسيع نطاق توزيع المساعدات الإنسانية إلى غزة.
من وجهة نظر نتنياهو، ما كان فوز نائبة الرئيس كامالا هاريس في الانتخابات الأميركية ليحمل نتائج إيجابية، والأرجح أنه كان سيتسبب بمزيد من التشنجات مع واشنطن، وربما بمزيد من القيود على الدعم الأميركي لإسرائيل. وعلى النقيض من ذلك، يفترض نتنياهو وحلفاؤه أن إدارة ترامب القادمة ستخص إسرائيل بدعم أميركي غير مشروط. وقد أضفت هذه الفرضية زخماً جديداً على الطموحات الأكثر توسعية، بل والرؤى الخلاصية أو المسيانية للجناح اليميني الإسرائيلي الصاعد الذي يأمل بأنه بمجرد أن يهزم الجيش الإسرائيلي خصومه فسيتنبه المعارضون إلى عبثية محاولاتهم القضاء على إسرائيل، ويتجهون بدلاً من ذلك نحو إبرام اتفاقات سلام معها، وعندئذ ستكون لإسرائيل فرصة إحكام قبضتها على الضفة الغربية وقطاع غزة، على أمل أن يعيش الجميع، أو على الأقل اللاعبون الإقليميون الرئيسون، في سعادة دائمة، كما يتوقع بعض شركاء نتنياهو في الائتلاف.
وعلى صعيد الآليات المتبعة، تعتزم زمرة نتنياهو مواصلة سحق "حماس" حتى القضاء التام عليها، بغض النظر عما قد يترتب على ذلك من دمار لغزة. كما يراهن قادة إسرائيل على دعم الرئيس ترامب الذي نصح نتنياهو في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بـ"القيام بما يتعين عليك القيام به" لإنهاء المهمة.
في المقابل، لم تبذل الحكومة الإسرائيلية أي جهد فعلي يذكر للتخطيط لمرحلة بعد الحرب في غزة، مكتفية بإحباط محاولات إعادة السلطة الفلسطينية للقطاع، مما يشير إلى أن الجيش الإسرائيلي سيظل هناك إلى أجل غير مسمى، وفي الوقت نفسه يضغط أعضاء الحكومة بصورة مكثفة لتعطيل جهود إعادة إعمار غزة، مع الإصرار على توسيع المستوطنات اليهودية في القطاع وتقديم مطالبات بضم الضفة الغربية.
تسعى إسرائيل بالفعل إلى استغلال القضاء على قيادة "حزب الله" من أجل إعادة رسم الخريطة الاستراتيجية للبنان. وتشكل المخاوف من كيفية تعاطي الرئيس ترامب المتقلب مع هذه القضية، التي يبدو أنه يعتبرها مصدر إزعاج، حافزاً لها لتسريع العملية وإتمامها قبل توليه منصبه. وفي هذا الإطار، أعلنت إسرائيل موافقتها على نسخة معدلة من قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1701) الذي أُقر في العام 2006 وكان من المفترض أن ينهي الأعمال العدائية بين "حزب الله" وإسرائيل، جزئيًا عبر إجبار الحزب على التراجع إلى شمال نهر الليطاني. وهو قرار إذا تم انتهاكه يضمن لإسرائيل حرية العمل العسكري داخل لبنان. وعلاوة على ذلك، تأمل إسرائيل في أن يسهم تعزيز قدرات الجيش اللبناني في فرض سيطرته الكاملة على جنوب لبنان مستقبلاً.
يرتكز هذا المشروع الجريء على توسيع دائرة تحالفات الفريق الإسرائيلي، كما كان الحال مع القرصنة الحوثية في البحر الأحمر التي دفعت الولايات المتحدة إلى التعاون مع المملكة المتحدة إلى توجيه ضربات صاروخية ضد معاقل الحوثيين في اليمن. وتعي الحكومة الإسرائيلية تماماً أهمية الدعم الدولي واسع النطاق الذي تلقته خلال الهجوم الصاروخي الإيراني المباشر عليها في نيسان (أبريل) الماضي والذي تجسد في توفير مظلة واقية ضمت فرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
وتأمل إسرائيل في البناء على هذه السوابق لتوسيع نطاق تعاونها الدولي في مواجهة التحديات الإقليمية، مع التركيز على دور الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة كركيزتين أساسيتين في استراتيجياتها المتعلقة بمهمة دولية محتملة في غزة. وفي هذا السياق، تشترط الإمارات مشاركتها في أي تحرك دولي في القطاع بتلقي دعوة رسمية من الفلسطينيين. أما في ما يخص إيران، فتفضل إسرائيل عدم التحرك بصورة منفردة في هذا الملف. وعلى الرغم من أن السيناريو الذي يتوقع مواجهة عسكرية ضد إيران بقيادة أميركية، وهو ما قد يؤدي إلى تدمير برنامج طهران النووي والإطاحة بالنظام الإسلامي، لم يحظ بتأييد واسع من صناع القرار الإسرائيليين الرئيسين، إلا أنه ما يزال يثير نقاشات حادة ومثيرة للجدل في أوساط اليمين المتطرف.
وفي الفصل الأخير من استراتيجيتها، ترجو حكومة نتنياهو أن تسهم التوترات القائمة في المنطقة في دفع القوى الإقليمية الأخرى نحو التوصل إلى تسوية دائمة مع إسرائيل. وفي تقدير الحكومة الإسرائيلية، يمثل ترامب -الذي أقام علاقات قوية ومثمرة مع السعوديين وجيرانهم الخليجيين خلال ولايته الرئاسية الأولى- ورقة رابحة في يد إسرائيل لدعم مصالحها في المنطقة. ويعتمد المتشددون في الائتلاف الحاكم، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، على هامش الحرية الذي تمنحه واشنطن للحكومة الإسرائيلية، معتبرين أن ذلك سيفقد الفلسطينيين دعم رعاتهم التقليديين ويضيق خياراتهم ويضعهم في موقف صعب يُضطرهم إلى القبول بالشروط الإسرائيلية التي تقتصر على منحهم بعض الحقوق المدنية، في مقابل تجاهل حقوقهم السياسية وعدم المساس بالمستوطنات الإسرائيلية.
الحرب من أجل مزيد من الحروب
لفهم سر القوة التي تحظى بها طموحات ائتلاف نتنياهو اليميني في الوقت الحاضر، لا بد من فهم الصورة المرسومة لترامب في أذهان الإسرائيليين. والحقيقة أن كثيراً من الإسرائيليين يتوقعون أن تقدم الإدارة الأميركية الجديدة، بقيادة رجل وصفه نتنياهو ذات يوم بأنه "أعظم صديق لإسرائيل في تاريخ البيت الأبيض"، دعماً غير مشروط لدولتهم. وقد عززت ترشيحات ترامب لفريقه في السياسة الخارجية هذه التوقعات، إذ ضم هذا الفريق شخصيات بارزة مؤيدة لإسرائيل، من طراز السيناتور ماريو روبيو وزيراً للخارجية، والحاكم السابق مايك هاكابي سفيراً لدى إسرائيل، والنائبة إليز ستيفانيك سفيرة لدى الأمم المتحدة.
خارج الولايات المتحدة، يراهن المسؤولون الإسرائيليون على أن تصادفهم مقاومة محدودة من العواصم الأخرى في مساعيهم إلى زيادة الضغوط على إيران، بخاصة بعد حصولهم على الضوء الأخضر من ترامب. في آب (أغسطس) الماضي، حذرت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة طهران وحلفاءها من أنهم سيتحملون المسؤولية إذا ما عزمت إيران على التصعيد. كما صدرت إشارات مطمئنة من شركاء إسرائيل الإقليميين الذين يواجهون بدورهم تهديدات من العدوان المدعوم من إيران. ولاحظ المسؤولون الإسرائيليون أن "اتفاقات إبراهيم" صمدت أمام تحديات الحرب التي شهدها العام الماضي، وأن التواصل المستمر بين المسؤولين الأميركيين والسعوديين يبعث على التفاؤل بإمكانية إقناع الرياض في النهاية بالتوصل إلى اتفاق.
وإضافة إلى هذه الاعتبارات الخارجية، يتعامل نتنياهو في هذه الآونة مع ضغوط شديدة داخل ائتلافه الذي يشكل دعمه أساس استمراره في منصبه، ويأتي في طليعة ممارسي هذه الضغوط سموتريش وبن غفير؛ العقائديان اليمينيان اللذان لطالما عُرفا بتوجهاتهما المتطرفة التي تشذ عن السياسة التقليدية، واللذان يستشرسان اليوم في دفع إسرائيل نحو سياسة شاملة تستهدف إبادة جميع أعدائها. بعد أسبوع من الانتخابات الأميركية، أعلن سموتريش أن عودة ترامب إلى السلطة تبشر بأن "العام 2025 سيكون بعون الله عام السيادة الإسرائيلية في يهودا والسامرة"، في إشارة إلى الضفة الغربية. ويبدو أن تعنت سموتريش وبن غفير، الذي يتناغم مع غريزة البقاء السياسي لدى نتنياهو، بات حجر عثرة أمام المؤسسة الأمنية الإسرائيلية التي تفضل أن ينهي الجيش الإسرائيلي عملياته العسكرية بأسرع وقت ممكن.
وقد لاقت هذه الحجج قبولاً واسعاً إلى حد ما في الداخل الإسرائيلي مع تبني عدد متزايد من الإسرائيليين وجهة النظر القائلة إن السياسات الأمنية المتبعة قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، مثل استراتيجية "جز العشب" التي تقوم على مبدأ احتواء الجماعات المتطرفة من خلال مناورات عسكرية دورية، لم تعد كافية. وبالنسبة لكثيرين منهم، قد تكون الحرب الشاملة اليوم في ظل التعبئة الوطنية الكاملة، الحل الأمثل لضمان الأمن واستدامته. وقد تَعزز هذا التوجه خلال الأشهر الأخيرة بعد سلسلة النجاحات التكتيكية التي حققها الجيش الإسرائيلي وزادت من إصرار الجمهور على مزيد من الحسم الميداني. وكان ما أنجز عسكرياً ضد "حماس" و"حزب الله" خلال الأشهر الماضية، وإن تناقض مع تحذيرات مسؤولي إدارة بايدن من حتمية فشل العمليات البرية في غزة ولبنان، قد قدم دعماً قوياً للمطالبين بتدمير كامل للمنظمتين، بغض النظر عن الكلفة الباهظة في الأرواح المدنية أو التأثير السلبي على آمال السلام المستقبلية.
ونظراً إلى غياب المعارضة الفعالة داخل الكنيست، استطاع نتنياهو مواصلة الحرب من دون مواجهة تحديات حقيقية، فيما وجد كثير من المسؤولين، بمن فيهم المدعي العام ومدير جهاز الـ"شاباك"، أنفسهم في موقف دفاعي. بالنسبة لرئيس الوزراء، تسهم العمليات القتالية المتواصلة في تحقيق هدف مزدوج هو إعادة بناء قوة الردع الإسرائيلية المنكسرة، وتشتيت الانتباه عن سوء تعامله مع أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وما تلاها. وبناء على ذلك، لم تفلح حتى احتجاجات عائلات الأسرى الإسرائيليين في غزة في إحداث تأثير يُذكر على أي مستوى. وعلى مدى أشهر طويلة، استمرت هذه العائلات، بتشجيع شخصي من بايدن وتأييد شعبي واسع، في المطالبة بصفقة لتبادل الرهائن. لكن نتنياهو لم يرضخ لجيوب المقاومة هذه، بل وأخمدها بدعم من جناحه اليميني واعتراض بعضهم على شروط "حماس" في صفقة التبادل. ومع عودة ترامب الآن إلى الواجهة السياسية، يُتوقع أن تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً أقل على إسرائيل لإنهاء حملاتها العسكرية.
لكن نتنياهو وحلفاءه يستخفون بحجم المشكلات التي تقوض هذه الطموحات الكبرى. من جهة، لا يمكن أن تختفي إيران ووكلاؤها بين ليلة وضحاها. وقد سبق وأن أثبتت "حماس" و"حزب الله" والحوثيون قدرتهم على الصمود وإعادة تنظيم صفوفهم. وهم ما يزالون يمتلكون إلى الآن قدرات نارية هائلة تتيح لهم قصف إسرائيل يومياً بالصواريخ والقذائف الباليستية والطائرات المسيرة والتسبب بمقتل مدنيين وتدمير ممتلكات. وحتى لو لم تنجح هذه الجماعات في اختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية، فيكفي أنها عاثت دماراً في إسرائيل وأرغمت قاطنيها على التوجه إلى الملاجئ بصورة مستمرة، مما شل حياتهم اليومية.
إن أي كلام عن مشارفة هذه الفصائل على الاستسلام لا يعدو كونه وهماً لا أساس له. أما توقع أن الإيرانيين واللبنانيين والفلسطينيين واليمنيين سينتفضون في الحال ويقلبون الطاولة على قامعيهم الغاشمين، فهو أقرب إلى الأمنيات منه إلى التحليل السياسي الرشيد. وبالقدر نفسه من الأهمية، فإن أي خطط إسرائيلية طموحة في المنطقة لن تُبصر النور من دون دعم حاسم من واشنطن. ومع بلوغ الاعتماد الإسرائيلي على الولايات المتحدة أقصى درجاته، تبدو فرضيات إسرائيل بشأن استمرار دعم ترامب لها ساذجة وغافلة عن الواقع. لم يكن استنجاد الرئيس المنتخب بـ"الأميركيين العرب" و"الأميركيين المسلمين" لتعزيز فرص فوزه في الانتخابات أمراً عابراً، وقد يُنذر بإعادة تقييم محتملة لمستقبل السياسة الأميركية.
في ضوء مواقف ترامب المعروفة والناقدة للتدخلات العسكرية الأميركية في الخارج، قد تتبنى إدارته المقبلة سياسة أكثر تحفظاً في تقديم الدعم غير المشروط لإسرائيل. في النهاية، كان ترامب قد اختتم ولايته الأولى بمواقف تنتقد نتنياهو بشكل لاذع، وتبين بوضوح عدم رغبته في أن تواصل إسرائيل تصعيد أعمالها العدائية. وعندما التقى الزعيمان في فلوريدا في تموز (يوليو) الماضي، طلب ترامب من نتنياهو إنهاء الحرب قبل مغادرة بايدن منصبه. وعلى الرغم من أن مؤيدي بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية هم من أبرز أنصار ترامب، فإنهم قد يُذكرون قريباً بأن ترامب لا يشعر بأي التزام حقيقي تجاه أجندتهم. ويجب التذكير بأن "السلام من أجل الازدهار"، خطة السلام الإسرائيلي - الفلسطيني التي طرحها ترامب في العام 2020، أيدت إنشاء دولة فلسطينية، وهو ما لاقى هجوماً عنيفاً من قادة المستوطنات الذين اعتبروها "تهديداً لوجود دولة إسرائيل".
قد تكون مواقف ترامب في السياسة الخارجية عموماً مصدر إشكال كبيراً لإسرائيل. في أيلول (سبتمبر) الماضي، صرح للصحفيين بالقول: "علينا إبرام صفقة" مع طهران، ثم عاد في الشهر التالي ليؤكد أنه "سيوقف المعاناة والدمار في لبنان". وتشير هذه التصريحات، إضافة إلى تردده الواضح في تقديم الدعم العسكري والمالي الأميركي للخارج، إلى إمكانية حدوث تغير جذري في السياسة الأميركية تجاه إسرائيل التي وصلهتا أخيراً من البنتاغون بطارية "ثاد" متطورة لاعتراض الصواريخ الباليستية و100 جندي أميركي لتشغيلها. ولكن، حتى لو لم يقم ترامب بسحب الموارد التي أرسلها بايدن إلى إسرائيل، فإن ميوله الانعزالية قد تنذر بتقليص الدعم الأميركي لها مستقبلاً، مما سيؤثر بصورة مباشرة في قدرة جيشها على المناورة بحرية.
وفي المقابل، بدأت القوى الدولية الأخرى تفقد صبرها إزاء الشراسة الإسرائيلية. وفي خطوة غير مسبوقة، اتخذت كل من فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، التي لم تشارك في المظلة الدفاعية عن إسرائيل ضد الهجوم الصاروخي الإيراني الثاني في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، إجراءات لتقييد صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، معبرة عن قلقها الشديد بشأن الامتثال للقانون الدولي. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أيضاً، هددت إدارة بايدن بتحجيم عمليات نقل الأسلحة إلى إسرائيل إذا لم تتحسن آلية تسليم المساعدات الإنسانية إلى غزة، لكنها لم تتخذ أي إجراءات ملموسة حتى الآن.
كما أعربت مؤسسات دولية عدة، والتي لطالما كانت غير ودية تجاه إسرائيل، مثل الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، عن إدانتها واستنكارها التصرفات الإسرائيلية الحالية. ووافقت المحكمة الجنائية الدولية في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي على إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب مزعومة في غزة. وقد تترتب على هذا الضغط الدولي المتصاعد آثار سلبية على الاستقلال العملياتي للجيش الإسرائيلي وقدرة الإسرائيليين على ممارسة التجارة والسفر إلى الخارج.
وإضافة إلى هذه الاعتبارات، يبرز الوضع الداخلي الإسرائيلي الذي قد يعتبره نتنياهو أكثر استقراراً وملاءمة له مما هو عليه فعلياً. فبعد أكثر من عام من المعارك العنيفة والمستمرة، أصبح الجمهور الإسرائيلي المنهك على دراية تامة بأن أكثر من 100 رهينة ما يزالون محتجزين في غزة، وعشرات الآلاف ما يزالون مشردين من ديارهم. وبات غضب جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، الذين أمضوا مئات الأيام في الخدمة العسكرية بعيداً من عائلاتهم ومصادر رزقهم، واضحًا تجاه أولئك الذين يتهربون من تحمل المسؤولية، وغالبيتهم من اليهود المتشددين (الحريديم) الذين يمثلهم في الكنيست أعضاء بارزون من ائتلاف نتنياهو. وفوق هذا كله، فإن حماسة كثير من جنود الخدمة الفعلية لتنفيذ أوامر الحكومة بدأت في الانحسار.
وبالتوازي مع ذلك، تم تداول أنباء عن تورط كبار موظفي نتنياهو في عمليات ابتزاز ضد ضباط في الجيش الإسرائيلي وتزويرهم للبروتوكولات الرسمية بهدف التغطية على تجاوزات الحكومة. كما وُجهت اتهامات إلى أحد المتحدثين باسمه بتعريض الأمن القومي للخطر بعد الاشتباه في تسريبه وتزويره معلومات استخباراتية سرية بغرض التأثير في موقف الحكومة حيال ملف صفقة الرهائن. وفي ما يخص رئيس الوزراء نفسه، فإنه من المتوقع أن يمثل أمام المحكمة بتهم فساد بعد استنفاده جميع الطعون القانونية، على أن يُدلي بشهادته قبل نهاية العام.
وفي خطوة سياسية بحتة، أقال نتنياهو في الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي غالانت، وهو جنرال سابق وأكثر المحاورين موثوقية لدى إدارة بايدن، واستبدله بسياسي لا يمتلك المؤهلات العسكرية. وكان الهدف من هذه الخطوة بكل وضوح هو استرضاء شركائه في الائتلاف الحريدي وثنيهم عن تنفيذ تهديدهم بالخروج من الحكومة ما لم يُعجل بإصدار التشريع الذي يُعفي مناصريهم من الخدمة العسكرية، وهو ما يرفضه غالانت ويعارضه جزء كبير من الجمهور الإسرائيلي جملة وتفصيلاً. وقد أسهمت أولوية نتنياهو هذه التي حافظت على بقائه ضمن المشهد السياسي على حساب الأمن القومي والتماسك الاجتماعي، في إحباط معنويات شريحة واسعة من الشعب الإسرائيلي الذي يشكل العمود الفقري للجيش والمجتمع والاقتصاد الحديث.
الصدام مع الواقع
على الرغم من انتصاراتها الميدانية، تواجه إسرائيل تهديداً حقيقياً. ما تزال قدرتها على إنهاء الصراعات الجارية بنجاح مرهونة إلى حد كبير بالكيفية التي سيدير بها نتنياهو علاقاته مع الرئيس الأميركي المقبل. وفي غياب أي اعتبار لمسألة إعادة انتخابه، قد يكون ترامب أكثر ميلاً إلى الاستجابة لغرائزه التي تفضل التعاملات المباشرة والمقايضات الشخصية.
في ضوء هذه المعطيات، سيتعين على نتنياهو اتخاذ قرارات مصيرية، متجاوزاً أي ضغائن ربما ما يزال ترامب يكنها له، وأن يناور بذكاء لتحقيق أهدافه الاستراتيجية. ومن المفارقات أن التحدي الأكبر الذي قد يُبتلى به في هذه المرحلة هو الأحزاب اليمينية نفسها التي تدعم استمراره في السلطة.
في الوقت الحاضر، تتصدى القوات الإسرائيلية لخطر متنام جراء انغماسها في معارك غزة ولبنان، حيث تلوح في الأفق بوادر تحول هاتين الجبهتين إلى مستنقع حرب شبيه بمستنقع فيتنام. من جهة، يهدد "حزب الله" بشن هجمات جديدة على تل أبيب إذا استمرت إسرائيل في قصف بيروت. ومن جهة، تتوعد إيران بالانتقام والرد العنيف. وفي خضم هذه المرحلة المأزومة، تظهر حاجة الجيش الإسرائيلي حالياً إلى تعزيزات بشرية وموارد إضافية تسد النقص الحاد في الذخيرة الهجومية والدفاعية، فيما ما يزال مصير الرهائن في غزة مجهولاً وعدد من بقي منهم على قيد الحياة غير واضح. كما ما يزال النازحون من الشمال عاجزين عن العودة إلى قراهم على الرغم من استمرار التوغل العسكري الإسرائيلي في لبنان.
وقد أبلغ القادة العسكريون الإسرائيليون نتنياهو بأنهم حققوا جميع أهدافهم العسكرية في غزة ولبنان، وهم يؤيدون الآن تقديم تنازلات لإعادة الأسرى من غزة وإخماد النزاع في لبنان، مؤكدين ثقتهم التامة بقدرة الجيش الإسرائيلي وجهاز "الشاباك" على حماية إسرائيل من أي هجمات عدوانية قد تنفذها "حماس" أو "حزب الله" مستقبلاً. ويتماشى هذا التقييم بشكل وثيق مع توجهات كل من ترامب، الذي يتطلع إلى تهدئة سريعة للوضع، وبايدن الذي يركز على ضرورة التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق نار في غزة وحل للصراع في لبنان قبل انتهاء ولايته.
من زاوية معينة، يبدو أن نتنياهو يسعى أيضاً إلى التحرك في هذا الاتجاه. وهو يبذل من انتهاء الانتخابات الأميركية جهوداً حثيثة في سبيل إتمام اتفاق وقف إطلاق نار مع "حزب الله" ليقدمه إلى ترامب كهدية، كما تفيد التقارير. ويقوم المنطق هنا على أن تنفيذ هذه الخطوة الآن سيتيح لإسرائيل التركيز على التهديد الأكبر المتمثل في إيران، ويفتح المجال أمامها لحشد دعم ترامب الذي اشتهر بانسحابه من الاتفاق النووي الإيراني في العام 2018 للضغط على طهران بصورة أكثر فاعلية. لكن أي خطوة لنتنياهو من هذا القبيل ستلقى معارضة شديدة من سموتريش وبن غفير اللذين يتدخلان بانتظام في مفاوضات الرهائن، ويهددان بالإطاحة به إذا ما وافق على أي هدنة، حيث تتناقض مناوراتهما الرامية إلى فرض سيطرة إسرائيلية طويلة الأمد على غزة والضفة الغربية مع أي محاولة لتقليص الوجود العسكري الإسرائيلي في تلك المناطق. كما تضع إسرائيل، بقيادة نتنياهو، على مسار تصادمي مع ترامب.
بدوره، سيشعر الرئيس المنتخب بالإحباط عندما يكتشف أن أي تقدم في العلاقات مع السعودية سيظل بعيد المنال ما دامت الحكومة الإسرائيلية الحالية في السلطة. لن يقبل سموتريش وبن غفير أبداً بالمطالب التي تطرحها الرياض والتي تشمل اتخاذ خطوات ملموسة نحو إقامة دولة فلسطينية. فمن وجهة نظرهما، لا يمكن لأي اعتبارات استراتيجية تتعلق بـ"اتفاقات إبراهيم" أن تقارن بتعزيز السيطرة الإسرائيلية التامة على "أرض الآباء" التي تظل الهدف الأسمى بالنسبة لهما. وفي المقابل، قد لا تكون السعودية مستعدة لاستعداء إيران، كما يتضح من الاستقبال الودي الذي لقيه وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، في دول عربية مثل الأردن ومصر وقطر وعمان، والسعودية بطبيعة الحال.
في هذا السياق المعقد، سيكون على نتنياهو أن يقرأ ما بين السطور بتمعن ويقتنص اللحظة لإنهاء الحروب التي تخوضها إسرائيل قبل أن تتحول إلى عبء يفوق فائدتها ويؤدي إلى تصدع العلاقات مع ترامب -وهو خطر لا يقل أهمية عن أي تهديد آخر. وإذا تمكن رئيس الوزراء من الصمود أمام ضغوط شركائه في الائتلاف، فقد تتاح له فرصة إنهاء الصراعات ومنح ترامب البداية الجديدة الخالية من القضايا العالقة والأزمات المتجددة، التي لطالما تاق إليها.
لكن الوقت ليس في مصلحته. وإذا اختار المماطلة فسينتهي به الحال في مواجهة مهمة شبه مستحيلة تتمثل في محاولة إرضاء ترامب من جهة، وسموتريش وبن غفير من جهة أخرى. على نتنياهو أن يدرك أن إسرائيل على مشارف مرحلة مليئة بمزيد من الاضطرابات والتحديات.
*شالوم ليبنر: زميل أول غير مقيم في "مبادرة سكوكروفت لأمن الشرق الأوسط" التي تشكل جزءاً من برامج الشرق الأوسط في "المجلس الأطلسي". عمل في السابق في مكتب رئاسة الحكومة في القدس لمصلحة سبعة رؤساء وزراء متعاقبين بين العامين 1990 و2016.
0 تعليق