«وفى البداية كان الغنا موالا.. وأصبح حكاية شعب وسط الغنا يتقال»
من أين نبدأ الحكاية.. الغنوة أم الموال أم ما وراء كل منهما.. الحكاية اليوم تأخذنا إلى عالم آخر يبحر في أعماق وجذور الثقافة المصرية وهي الغناء الشعبي.. وإذا بدأنا الحديث عن الشعب فهو وبمنتهى البساطة الغناء الخارج من الجماعة الشعبية، معبرًا عن المجتمع الذي خرج منه، ويتاسب مع السياق.. وزي ما عمنا أحمد فؤاد نجم ما قال: «عاشق أغاني.. جعان يغنى شبعان يغنى»؛ ولهذا كان الغناء مرتبطا ارتباطا وثيقا بالاحتفالات المرتبطة بعادات دورة الحياة بالميلاد والسبوع والأعياد والأفراح والطلاق وحتى الموت كان له بكاؤه الغناء.. ونلاقي الشاعر يبوح ببديع القول «أمانة يا قبر ما يكون فيك حصي ولا طوب جايلك ولد زين من ميلة الزمان معطوب جايلك ولد زين يا قبر خايل في لف العمامة أمانة عليك يا قبر لتكون حنين...»، وحتى في ليالي المحن والشغل.. ووسط الغيطان كانت الأغاني التسلية الوحيدة لعمال البناء وعمال التراحيل.. ففي كل حي وقرية ونجع أو حتى مدينة كانت بتبني هتلاقي للغناء الشعبي حكاية وموال.
عزف منفرد لفلاح فصيح
على بعد خطوات من التاريخ وفي إحدى القرى المصرية القديمة تعلو أصوات أنين أحد الفلاحين هو يشكو أحد الظالمين ليصدر غناءً فصيحًا يحكي عنه التاريخ فيما بعد بشكاوى الفلاح الفصيح، والذي أبدع فيها ليصمت الحاكم عن رده للظلم الذي وقع عليه ليظل يستمع إلى شكواه التي ظل يبدع فيها في كل مرة يأتي إليه... فتارة يقول: «أنت يا من نصبت لتقيم العدل قد تحالفت مع الظالم» وتارة أخرى: «والناس تحترمك رغم أنك معتد. لقد نُّصِبت لتنصف المظلوم ولكن انظر ها أنت تغرقه بيدك».. كيف لتلك الفصاحة التي عبرت عن أوجاع المظلوم لتشهد الحاكم على نفسه وأن ما يفعله ما هو إلا استمرارًا لمسلسل الظلم.. وفي كل مرة يذهب الفلاح يعتصره الألم .. ليعود مرة أخرى ويقدم شكواه: «.... انظر إن الاله قد فوضتك لتنصرني على من ظلمني ولكنك لا تنصت.. فاعلم أنى لن أقصدك بعد الآن وإنى ذاهب لاشتكى إلى الإله».
هذا العزف المنفرد لشكاوى الفلاح الفصيح جعله يمر عبر التاريخ ليصبح أيقونه الفصاحة في رد الظلم عن المظلوم ومعاقبة الظالم الغاشم، ولتصبح منه فيما بعد حكايات وأساطير واغاني وأمثال .. كالمثل القائل الشكوى لغير الله مزلة.. «وهو ما قاله الفلاح الفصيح».. فاعلم أنى لن أقصدك بعد الآن أني ذاهب لأشتكي إلى الإله" وأيضًا «فوضت أمري إليك يارب» وهو ما قاله الفلاح الفصيح في شكواه التي جعلت الحاكم يؤجل رفع الظلم عنه حتى يُشجيى قلبه بما يقوله الفلاح .
فهل توقف الثقافة المصرية والشعبية عند شكاوي وأوجاع الفلاح الفصيح بل كانت المعابد والجدرايات أكبر دليل على وجود الموسيقى والغناء في الثقافة المصرية القديمة والتي رُسمت للمصريين وهم يعزفون على الآت الموسيقية ويغنون، وهو المر الذي لا يتوقف فقط على الاحتفالات أو عند الحاكم ولكنه كان يرتبط بمواسم الحصاء ومواكبها التي تظهر فيها المصريات وهم يحملون سلال الفاكهة.
في تأصيل الأغنية الشعبية
قد يبدو غريبًا حينما نتحدث عن الفروق الجوهرية بين الأغنية الشعبية والأغنية الشائعة فهذا الخلط الكبير بين الأمرين قد يظهر حقائق قد تدهش القارئ، فهناك من يطلق على أغاني «المهرجانات» بغض النظر عن هذا المصطلح بأنها أغاني شعبية، وأنها رائحة وأن من يقومون بأداء تلك الأغاني هم مطربون شعبيون وهذا الكلام عارِ تمامًا من الصحة، بل قد يتجاوز كل التوقعات، فالأغنية الشعبية بمفهومها العلمي هي الأغنية التي تخرج من الجماعة الشعبية وهي في أغلب الأحيان مجهولة المؤلف والمغني، وقد تكون الجماعة الشعبية اشتركوا في خروجها وتم تناقلها من جيل إلى جيل، بل إنها من نوع الثقافة التي تنتقل عبر الفئات المجتمعية المختلفة أي من الممكن أن تنتقل من الطبقات الاجتماعية الدنيا إلى الطبقات العليا، مثلها مثل أغاني الأفراح أو الميلاد والطهور وليلة الحناء والعزال والتنجيد وغيرها من الاحتفالات حتى الموت كان له حضورًا في الغناء.. لكنه عزف على أوتار الحزن، فد صاحب الغناء باعتباره لون من ألوان التعبير عن حياة الإنسان ولهذا ارتبط ارتباطًا وثيقًا بعادات دورة حياة الإنسان، فظهر الغناء الشعبي بسيطًا ورقيقًا وجرئيًا – في بعض الأحيان- ومعبرصا عن ثقافة المجتمع الذي نشأ وظهر فيه .. فنجد الجرأة في بعض أغاني الافراح لاسيما ماي تعلق بليلة الحناء والدخلة، وأيام تنجيد العروس ونجد لكل يوم من تلك الأيام الأغاني التي ظهرت وعبرت عنه .. فتغني المرأة في يوم تنجيد عفش العروس التي تغني للمجد حتى يتقن صنعته وحرفته وأن يهتم بالعروسة وعفشها فتظهر أغنية "يامنجد على المرتبة عروستنا حلوة مؤدبة.. " ومثلها مثل أغنية سقف الأوضة بيلعب ليه.. وأغاني ليلة الدخلة والتي تعلن عن بكارة العروسة والتي يطمن فيها والد العروسة بأن ابنته عفيفة وشريفه والتي تتجسد في اغنية .. قولوا لأبوها ان جعان يعتشي .. أي بمعنى أن يطمأن قلبه ويرفع راسه بين الناس ويسير وسطهم بكل فخر واعتزاز .. وغيرها من الأغاني التي خرجت تعبر عن تلك الفرحة الكبيرة في مختلف أيامها بدء من تجهيز عفش العروسة وحتى ليلة الدخلة وفي الصباحية، ويعتبر الغناء الشعبي ليس فقط تعبيرا عن الفرحة في كل مراحل حياة الإنسان بل صاحبه في العمل وأثناء وحلال فترى البحث عن العمل والاحتفاء به.
عاشق أغانى.. جعان يغنى .. شبعان يغنى
وبالعودة إلى التسمية والمصطلح والفروق الجوهرية بين الغناء الشعبي والغناء الشائع فالأغاني الشائعة هي ظاهرة تصاحب بعض الأغاني أو بعض المطربين وتكون لفترة معينة ثم تنتهي ولا يتم تناقها من جيل إلى جيل وهو ما نراه بشكل كبير في أغاني المهرجانات، والتي حاول البعض – للأسف – تأصيلها على نحو ما باعتبارها أغاني شعبية، وهو أمر غير صحيح فكم ذكرنا بأن الأغاني الشعبية هي الأغاني التي خرجت معبره عن الجماعة الشعبية وأن الغناء الشعبي تعبير عن الانفعالات النفسية للفرد والجماعة ولهذا تأتي الأغاني مصورة لميول الشعوب وطبائعها المختلفة ومعبرة عن البيئة التي خرجت منها وقد تجسد في بعض الأحيان الظرف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لتلك الجماعة.
صورة صادقة
فالأغنية الشعبية ترسم صورًا واضحة صادقة لحياة الشعوب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فجاءت من الريف إلى الحضر ومن الطبقات الاجتماعية الدنيا إلى الطبقات العليا ففي أغلب الأحيان تنتقل الأغاني الشعبية من أسفل إلى أعلي أي من الطبقة الدنيا إلى الطبقة العليا.
وفي بعض الأحيان يعتبر فئة المثقفين من الطبقة المتعلمة أن تلك الأغاني هي أغان دون المستوى لأنها لا تنمني على الطبقة العليا أو لأنها لم تخرج من صفوة المجتمع أو من الطبقة المثقفة، على غير أنها تعتبر من الفنون المجتمعية لأنها خرجت من الجماعة الشعبية ومعبرة عن ثقافتهم وتعبيرًا عما يشعرون به من مشاعر إنسانية في لحظة زمنية ما، وقد يرى بعض الطبقات المتعلمة أو المثقفة أن تلك الأغاني هي أغاني لا تحمل الصبغة الرفيعة أو صفة الفن الرفيع باعتبار أنها لم تخرج من تلك الطبقة.
أغانى الأفراح خرجت من شاعر مجهول لتتحدى الزمن حتى وقتنا الراهن
وهو التوجه الذي قد يجب أن يتغير في الوقت الراهن باعتبار ان الاهتمام الآن متوجه إلى الثقافة الشعبية وما يصاحبها من فنون ودراستها لأنها هي المعبر الرئيس عن الهوية المجتمعية وهو ما يهتم به دارسي الفولكلور «المورث لثقافي الشعبي» والذي يتضمن الأغاني الشعبية باعتبارها احد الفنون القولية مثلها مثل الدراما الشعبية والأدب الشعبي والرقص الشعبي وغيرها من الفنون الأخرى مثل فنون التشكيل الشعبي والمرتبطة بصناعة الفخار وغيرها.. والغريب أنك حينما تجد أي حرفة أو مهنة من المهن الشعبية ترتبط ارتباط وثيق بالغناء الشعبي، فالحرف الشعبية كانت ولا تزال تحتاج إلى وقت طويل للانتهاء منها ما يجعلها تصلب صبر وجهد وفن أيضًا مثل حرفة التكفيت على النحاس أو النسيج والذي يصاحبه غناء فردي وجماعي أيضًا مثل الغناء الذي يصاحب عمال البناء أو عمال التراحيل أو الصيادين.. وغيرها.
رحلة في الغناء
تأخذنا رحلة الغناء الشعبي المصري إلى زمن كانت فيه الكلمة واللحن أدوات للتواصل والتعبير، فمن الأفراح، والليالي الملاح وساعات السمر بعد يوم طويل من التعب تأتي الأغاني لتروي قصص الحب والفراق والأبطال، وينسج الشاعر من السيرة حكايات وحكايات عن أبطال أبو زيت الهلالي والزناتي خليفه ويونس وناعسة وحسن ونعيمة وشفيقة ومتولي، وغيرها من السير والموايل الشعبية التي حملت معها خلاصة التجربة الإنسانية.
الغناء الشعبى ارتبط بحركة عمال البناء فى المدن وعمال التراحيل فى القرى
أول ما نبدي القول نصلي على الهادي
لم يكن الغناء الشعبي المصري ليس مجرد ترفيه، بل هو تأمل في الذات، وفي العلاقات التي تربط الناس ببعضهم البعض، وفرصة في تأمل عظمة الخالق وحكمته في تقرير مصائر العباد ولهذا ارتبطت السيرة الشعبية في بداياتها بالصلاة على الهادي الكريم ، ويقول الشاعر في بداية كل قصة أو حكاية «بالصلاة على الحبيب»، حتى في الغناء الشعبي نجد الصلاة على الحبيب المصطفى، فتلك اللحظة التي تتوقف فيها الحياة لبرهة، لتستمع إلى صوت ينبع من أعماق الروح، يخرج من خلاله أعذب القصص وأحكمها، فمع صوت الرواي أو الشاعر تتذكر من أنت ومن أين أتيت وتتعرف على حكمة الخالق وقدرته في صنيعه، فيمكن من خلال أغنية بسيطة أن تغيّر مسار حياة إنسان؟ ونحن في انتظار أن يهل الهلال حتى نستمتع إلى الرواي وهو يقول: «أول ما نبدي القول نصلي على الهادي».. لتبدأ معه حكاية من حكايات الأبطال وسيرة من سيرهم التي تمتلئ بالحكمة والموعظة والشجاعة والخيانة والصدق والغدر والحب والكره والسيطرة وحب المال، ومعه قصة لمن ضل طريقه، ومن وجد ضالته وقد تجد فيها نفسك وجزء من روحك، وتخرج منها وكأنك أبحرت في عوالم بعيده لم تكن لتصل إليها أو تسمع عنها إلا من خلال صوت الشاعر وهو يحكي حكاية من حكايات الزمن والناس والشخوص.
ليالي السمر
ليالي السمر لم تكن تقتصر على رواة السيرة في أوقات الفراغ فلم يكن الفلاح المصري يعرف طريق إلى الراحة، فاغلب القرى كانت تذهب إلى النوم في الساعات المبكرة من الليل وفي أغلب الأحيان كانت بعد صلاة العشاء أو صلاة التراويح في ليالي شهر رمضان، وكانت السهرات تقتصر على الموالد والاحتفالات الشعبية والأفراح إذا كان صاحب الفرح من كبار القرية كالعمدة أو الخولي أو شيخ الغفر أو بعض الفئات المتعلمة والتي يملكون أراضي وأطيان.. والفلاحين الذين يعلمون بالأجرة كان لهم العمل منذ ساعات الفجر وحتى قرب المغرب فكانت ساعة العصاري والتي تكون الشمس في أوجها هي ساعة الراحة والنوم ليعود مرة أخرة لاستكمال رحلته في البحث عن الرزق.
ولهذا كانت الموالد الشعبية والتي يتجمع فيها رواة السيرة والمغنين والمطربين والغوازي هي الليالي الترفيه للفلاحين وعمال التراحيل، وحتى كبار البلد أو القرية، حيث لا وجود راديو أو إذاعة أو تليفزيون ولا حتى ذكاء اصطناعي وثورة في تكنولوجيا المعلومات جعلتنا ننظر إلى العالم من خلف الشاشات بل نتخلى عن الإنسان وأحيانًا ونستبدله بـ "المساعد الإلكتروني" تم تخليقه خصيصًا لكي نزيد من عزلتنا ولهذا السبب كان له الأثر الأكبر وغيرها من التغيرات التي طرأت على المجتمعات، سواء كانت المجتمعات الغربية أو العربية في التخلي عن الفعل الجمعي الذي كان ينتج عنه تراث وإرث وموروث ثقافي يمكن تناقلة عبر الأجيال؟ هذا هو التساؤل الأهم والذي سنواجهه.
الموروث الثقافي وتحدي الزمن
ففي كل مرة نحاول أن نخوض في الموروث الثقافي والتراث الثقافي.. وماذا سيترك الجيل الحالي من موروث، سواء كان فنونًا قولية أو حركية أو فنونًا تشكيلية تعبر من الهوية المجتمعية.. والأمر ليس مقصورًا على مصر فقط وإنما قد طال العالم كله.. فنحن في عصر الرقمنة التي لا ترحم، عصر تختفي فيه الصحف الورقية ويختفى معه بائع الجرائد والذي كان يعلو بصوته في ندائه الشهير «أخبار أهرام جمهورية، مسا، اقرأ الحادثة»؛ ليكون مصدر إلهام لكباء الشعراء ويصنع معه الأغنية الشهيرة «أخبار- أهرام جمهورية» ويأخذ هذا النداء الشاعر فتحي قورة ليصبح من أشهر الأغاني التي خرجت من نداءات الباعة الجائلين.
عبقرية سيد درويش ظهرت عندما خالط الطبقات العاملة
لنعود الأغنية الشعبية التي صاحبت الجماعة الشعبية كيف ظهرت وكيف استمرت وكيف لاتزال تذهلنا حتى يومنا الراهن من فرط انغماسها في الموروث الثقافي وما تحمله معها من أشكال الحياة اليومية وطبيعة المجتمع والظرف الاجتماعي والسياسي والاقتصادي أيضًا في تلك الفترات القاحلة، والتي أنتجت معها إرث ثقافي غزير يحتاج إلى مجلدات لعمل الدراسات الميدانية عليه، سواء على مستوى الجمع الميداني من حملة التراث في القرى والنجوع أو على مستوى الدراسة والبحث وقراءة أخرى للتاريخ من خلال هذا الإرث الشفاهي التي تحمله وتتوارثه الجماعة الشعبية.
0 تعليق