تضخم أنفى، وكلما استيقظت انتفخ أكثر، ولم يعد مناسبًا وصفه بالدمل. تغير شكلى ووضعت النسخة القديمة منى فى دولاب ذكرياتى.
تعاملت بروح رياضية مع أختى وهى تخوّف أبناءها بى إذا لم يأكلوا طعامهم، ثم بدأت تستعملنى فى الظلام لتنفيذ تهديدها، فينهون أطباقهم وواجباتهم بسرعة.
تجنب إخوتى ملامسة أنفى حتى لا تنتشر العدوى، وحذّرتهم من أن ميراثى فى البيت مثل ميراثهم وأكثر، ثم فرشت وسادتى على الرصيف أمام البيت ونمت.
منحنى بعض المارة نقودًا، وتعاطفت امرأة معى، والتقطت الصور لإرسالها إلى جمعيتها، معتذرة لضرورة خلعى ملابسى، كى تبدو صورة المشرد أكثر صدقًا، ثم أعطتنى وجبة كباب وكفتة؛ لتطييب خاطرى.
شكرتها، ولم أشم أى رائحة لوجبتها، وظننت أنفى سيطول أكثر، بسبب كذبى على أولاد أختى وتخويفهم، وادعاء أننى مشرد فى الصور، ثم أتحول من بشر إلى رجل من خشب. لكن ما حدث أن الدمل تقلص، حتى اختفى، وتغيرت أشياء لا أستطيع تحديدها، حين بدأ الناس يطوقون رقبتى بالورد، ويقبلون يدىّ، ويجلبون أطفالهم الصغار، لأشم روائحهم، بعضهم رائحته مثل المسك، وبعضهم رائحته تشبه البالوعة.
شممت طفلة، وقلت لأمها أن ترعاها جيدًا، فجسدها يفوح كأنه فواحة عطور لم تعرفها الأرض، ظنتنى لصًا وابتعدت بابنتها، لكنها عادت بعد يومين تمنحنى قطعة ملابس من زوجها وتطلب أن أشمها، سألتها: لماذا لم يستحم منذ زمن؟، إنها نتنة. فقالت: «صدقت، نتن حتى لو استحمى كل يوم».
أحضرت عشيرتها، ينحنون أمامى ويمدون رءوسهم فى أنفى، يؤمنون بأن بعض البشر مختصون بكشف الأسرار، وتمييز الطيبين عن الأشرار، وأنهم يُرسلون كل بضع سنوات، كى تطمئن بهم القلوب، وتنكشف الأستار.
أقاموا لى على الرصيف خيمة وأنوارًا، زارتها عشيرتهم وحدهم، ثم بدأت الحكاية تشيع، ويأتى الجميع.
أُصبت لأيام بآلام فى صدرى، منعوا بسببها الزيارة، ووصفونى بأننى أتألم من الآثام التى تستنشقتها أنفى، ويجب أن أرتاح قليلًا، حتى تتبخر الروائح وتعود للكون ويحملها الأشرار الذين يُعذبون بها لبقية حياتهم، وأن دورى ليس تطهيرهم، لكننى أخلص البشرية من الجهل وأضع علامات طهارة على الأرواح النقية ليعرفها الجميع، وحينها تظهر الحقائق، ويتعامل الجميع على المكشوف دون حجج أو إنكار.
شعرت بأن فيلًا يجلس فوق صدرى، لا أستطيع أن أتنفس، ربما الفيل له زلومة كبيرة، فالروائح تتضخم، وتصبح مرعبة، فقدت شهيتى للطعام، وروائحه بدت زنخة. أشهى الوجبات مذاقها أقرب للقمامة، روائح الصوانى التى يُقبل بها الزوار، تبدو كأطعمة متعفنة. بقيت لأيام أتناول زنجبيل العشيرة الذى يعدونه بطريقتهم لشفاء الصدور، وحذّروا المترددين أن معاصيهم جلبت أوجاعًا إلى صدرى.
تعافيت بعد أيام، لكن الفيل الذى يطبق على صدرى رفع زلومته يرش الأشياء كلها بسائل غير معروف، فتغيرت الروائح إلى الأبد. سِرت فى المدينة مثل كشاف ليلى يتوقد لشم السائرين، أتنفس ملابسهم وشعورهم ورائحة جلودهم، حتى رأيت رجلًا يسرق ورائحته تفوح ببيض فاسد، وفى الأتوبيس الرجل الجالس إلى جوارى رائحته مؤرقة، يتناثر منه توتر، يحرك فىَّ رغبة كى أركض إلى أى مكان. وعند نهاية الشارع عبرت بامرأة شقراء لها رائحة كيميائية، ربما غش بها مركز التجميل صبغتها، لكنها حين استدارت رأيت المرأة تتحلل، وفى اليوم التالى قرأت بالجريدة خبر انتحارها.
الفيل يمد قدميه ويدوس على صدرى، أشعر بثقل، تنمو معه غابات فوق مجرى تنفسى، كى يأكل الفيل، ويرش الماء.
أحتاج لعمل أشعة، وسيظهر فيها التخشب الذى أحسه فى صدرى، يتشابك فوق نفسى، أميل لتحديد المادة قبل أن أراها، إنها من الخشب حيث تنتمى الأفيال، ويمكن لجسدى أن يظل حيًا ما دام جذع شجرة ينمو بداخله.
استطاع إخوتى أن يملأوا الخيمة بروائحهم معتذرين عن عدم تقديرهم موهبتى، وموافقتهم على عودتى إلى المنزل، لأتلقى فيه هدايا وزيارات المحبين. شممت إخوتى، فسألتهم: لماذا يتركون فى جيوبهم لحمًا خارج الثلاجة منذ أيام؟
أشعر بالتسمم، لذلك طلبت من الحراس إبعادهم. وقد صار لى حراس ورعاية دولية منذ زارنى قائد قبيلة آسيوى ومنحنى نجمة المختارين. تكررت حالات ضيق التنفس التى تصيبنى، وصاحبها إغماء، لم يحاول أحدهم أن يسعفنى منه، لأنهم اعتبروا ما يحدث مشيئة الرب، وأننى أذهب فى رحلة روحية، وسأعود حينما تتم.
عدت كل مرة أكثر اختناقًا، وصدقتهم أن آثام البشر تطبق على صدرى، لأن روائحهم فى الغالب فوق تحملى، ثم امتد الإحساس إلى تنميل فى أطرافى.
لو أن خشبًا ما ينمو فى صدرى، فهو شجرة وجذورها تتعفن وتفوح بالطين والحشائش والماء. يصفق الزوار حينما يتحشرج صدرى بصفير، يقولون إنها المعجزة المنتظرة، ويسجدون للرب لأنه لم يترك الإنسان بلا علامات، وإنه يرسل المساعدة كلما ضاقت الأيام.
تنصحنى سيدة عجوز فى الأتوبيس، لا تعرفنى، بالكف عن تدخين السجائر، فصدرى يشخلل، ولا يناسب ذلك سنى. شممت المرأة، رائحتها مثل القطن كأنها وسادة، فاحتضنتها، وأرحت رأسى على كتفيها. تفاجأت، لكنها راحت تطبطب على كتفى.
افترستنى الروائح، أدخل المطاعم، فتنقلب فى صدرى الفواكه مع رائحة بيض فاسد، وزناخة لحم لم تطهره النار، تتداخل جميعها فى أنفى، وأجلس لتناول الطعام مع الأصدقاء، مغلقًا أنفى بمشبك غسيل، منحته لى إحداهن، لأنها من هواة جمع المشابك من الطريق، التى تسقط سهوًا فى أثناء نشر الغسيل.
تطفو وتخفت روائح الورد والشمس والنور، لم أسمع مسميات لها قبلًا، لكن بعض الروائح كأنها نور قوى، وبعضها باردة وناعمة مثل نجمة فى ليلة شتوية، اكتشفت روائح لم يسبق لى تصورها، حتى إننى اهتديت لها حين شممتها أول مرة.. رائحة الخوف، أو رائحة الانتصار، أحددها بدقة الآن، وأحاول وصفها بما يعرفه الناس من روائح الخميرة والسكر، أو الخل، ورائحة الزيت المغلى، ورائحة ساعة الظهيرة، ورائحة النوم. بدت الروائح مثل ثرثرة طويلة لا تسكت داخل أنفى.
جذور شجرة الخشب تنمو فى صدرى أكثر، وأشم الناس، فلا أصنفهم بأسمائهم، إنما كدروع، وفرائس، ومطاردين.
يقشر أنفى البرفان مثل قشرة الموز، وعلى بُعد عدة أمتار مررت بجوار شحاذ، رائحته دماء طازجة، لا تجف. كررت المرور ليلًا، وظلت رائحة الدم الحى تتدفق منه إلى أنفى.
يمضى الفيل ويحطم الأرض الهشة تحته، أتصور رئتى أفرع شجرة رقيقة لا تحتمل قدميه، حين يدهسها تفقد حياتها بالتدريج. تظهر رئتى فى الأشعة مثل شجرة صغيرة، لكنها بأفرع متكسرة.
أخبرت الشحاذ بأننى أتناول الطعام وهو فاسد، لأنى أعجز عن تمييز رائحته، وفقدت بسبب ذلك حاسة التذوق أيضًا. سألنى: ما الذى أرغب فيه قبل أن يقتلنى؟ تمنيت جسد زوجة، أشمها لليلة واحدة، وأنام فى حضنها، ولا أحد يعرف رائحتها غيرى.
ضحك الشحاذ، وقال إنى شممت ما يكفى من الزوجات، وروائحهن لم يشمها أزواجهن أنفسهم.
ورفع يده بسكين كبير فى مواجهتى. شعرت بأن الغابة بالكامل تستسلم للفيل وهو يحطمها غضبانًا، ثم أطفأ الفيل النفس الأخير، ومضى بخفة.
من المجموعة القصصية «لعنة ميدوسا»
0 تعليق