يمكنك إذا أردت العودة لتاريخ مصر عام ١٩٣٠ أن تجد الكثير من الوثائق الاقتصادية والتاريخية والحربية، التى تعكس بشكل أو بآخر جانبًا من التاريخ، وبوسعك أن تعرف بسهولة أن أزمة الكساد المالى العالمية أدت إلى إفلاس نحو خمسمائة بنك فى مصر، هذه الجوانب من التاريخ متاحة، ومرصودة، وموثقة، ولكنك لن تجد شيئًا أى شىء، إذا أردت أن تتعرف على طبيعة العلاقات الغرامية فى ذلك الوقت، لن تجد سوى اللغة التى كان المغرمون يكتبون بها لبعضهم البعض.
فقط لغة تلك الرسائل وحدها تكشف لك عن الجانب الذى لا يسجله أحد، أى عن طبيعة علاقة الحب بين الرجل والمرأة، وتطور تلك العلاقات، والقيود التى كبلتها. لغة رسائل العشق من تلك السنوات، أى منذ مائة عام تقريبًا، تكشف بوضوح قاطع مدى التطور والاختلاف فى نظرة الرجل للمرأة، فى مخاطبته إياها، فى تعبيره عن حبه لها، فتصبح رسائل الغرام مقياس حرارة لتاريخ العاطفة.
وانظر رسالة العشق هذه التى يعود تاريخها إلى عام ١٩٣٤، وفيها يكتب محمد إلى حبيبته فاطمة: «حبيبتى الوحيدة الآنسة فاطمة.. أبلغك بأننى بيد السرور تشرفت وتسلمت كتابك الكريم ورسولك الصادق الأمين فأكبرته حين قرأته.. الوفاء كل الوفاء.. هذا ما طالعته من وجهك الوضاء، وبعد هذا سترين الوفاء يعم، فتسير السفينة بحمولتها تمخر عباب البحر».
تقرأ الرسالة ولا تدرى هل تتأسى أم تضحك أم تتعجب من القيود التى كبلت العاشق المسكين؟، أو أنها كانت لغة ذلك العصر، وهذا الأقرب للحقيقة، وفى كل الأحوال فإنها مؤشر لحرارة العلاقات الغرامية، ومؤشر إلى نظرة التقديس التى كان الرجل يحيط بها المرأة على الرغم من تشبثه بتفوقه على المرأة.
اختفت تلك اللغة تمامًا، والأصح أن نقول اختفت تلك العاطفة، فلم يعد ممكنًا الآن أن تخاطب فتاة تحبها بقولك: «تسلمت بيد السرور كتابك الكريم». القضية الرئيسية هنا أن اللغة وتحديدًا لغة العشاق تكشف عن المدى الشاسع الذى يفصلنا عن ذلك الزمن، بحكاياته وعشاقه. وما زلت أذكر إلى الآن أننا فى الستينيات كنا نشترى كتيبًا صغيرًا اسمه «الرسائل الغرامية» لنقتبس منه عندما نكتب إلى الحبيبة، وكان بعض الرسائل يبدأ بعبارة مثل: «أكتب لك على الورقة البيضاء علامة الحب والصفاء»، أو: «أكتب لك على الورقة البنية دليلًا على صفاء النية»، ثم اختفى ذلك الكتيب الصغير شيئًا فشيئًا، وصرنا نقول للبنت ببساطة: «أنا معجب بك جدًا»، و: «أنا أحبك»، دون «تسلمت بيد السرور كتابكم الكريم».
فى كل الأحوال لا شىء يكشف عن تاريخ حرارة وتقدم وتدهور العلاقات الغرامية سوى اللغة، اللغة وحدها هى التى يظهر فيها تاريخ العاطفة عندما نقارن بين لغتنا الآن ولغة العشاق منذ مائة عام.
0 تعليق