"مزارعون أطفال".. براءة مسلوبة بموافقة الأهل وضعف في الحماية

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
عمان- السادسة صباحا، تنتظر غيداء (اسم مستعار)، البالغة من العمر خمسة عشر عاما، قدوم "الشاويش" الذي يجمع العمال متوجهين إلى المزرعة التي يعملون بها. تترك وراءها أحلامها، مدرستها، وطفولتها لتقضي سبع ساعات في قطف الثمار، التعشيب، وأعمال زراعية أخرى شاقة.اضافة اعلان
تعرضت غيداء لإصابات عمل متعددة، تسببت لها بنزيف، كسور، وأمراض صدرية وتنفسية مزمنة، لكنها ما تزال تستمر بالعمل مقابل أجرة يومية قدرها 10 دنانير، لتكون المعيلة الوحيدة لعائلتها الفقيرة المكونة من سبعة أفراد.
بصوت خافت، تصف والدة غيداء معاناة ابنتها ذات الوجه المرهق وتشققات يديها، تفاصيل يومها المتعب. تعرضت غيداء لحادث أثناء العمل أدى إلى جرح قطعي كبير في يدها بسبب "أداة قطع ثمار البصل الحادة"، ما تسبب بنزيف حاد لم تجد له علاجا سوى "قطعة قماش بالية".
العديد من الأطفال من الأسر الفقيرة يتركون تعليمهم وطفولتهم ويلجأون إلى الأعمال الشاقة في المزارع، متعايشين مع الظروف الصعبة بموافقة أولياء أمورهم. 
يتعرض هؤلاء الأطفال لإصابات جسدية مختلفة نتيجة طبيعة هذه الأعمال، ويلجأ بعض الأهالي أحيانا إلى تجنب إخبار الطبيب بالسبب الحقيقي للإصابة حتى لا يدرج ذلك في التقرير الطبي. 
ويمنع القانون الأردني تشغيل الحدث الذي لم يكمل سن السادسة عشرة بأي شكل من الأشكال، وفقا للمادة 73 من قانون العمل رقم 8 لسنة 1996، كما يمنع تشغيله في الأعمال الخطرة أو المرهقة قبل بلوغ الثامنة عشرة، بحسب المادة 74 من القانون نفسه.
وبحسب القرار الصادر عن وزير العمل الخاص بالأعمال الخطرة، بمقتضى أحكام المادة (74) من قانون العمل رقم (8) لسنة 1996 وتعديلاته، "لا يجوز تشغيل الحدث في الأعمال الزراعية التي تتطلب الحصاد اليدوي، استعمال أدوات حادة، خلط أو رش المبيدات والأسمدة الزراعية، وغيرها من الأعمال الزراعية الشاقة".
ورغم ذلك، أظهرت آخر الإحصائيات الصادرة عن المسح الوطني لعمل الأطفال في الأردن عام 2016 أن عدد الأطفال العاملين في الأعمال الخطرة بلغ 44.971 طفلا، يعمل 27.5 % منهم في قطاع الزراعة والحراجة.
أمراض تنفسية مزمنة مقابل أجرة العمل
تعمل وئام، البالغة من العمر 14 عاما، في إحدى المزارع بمحافظة الأزرق بمعدل 7 ساعات يوميا. تعاني من ضيق في التنفس واختناق في بعض الأحيان، وأصبحت مريضة بالتهاب الجيوب الأنفية، ما يسبب لها صداعا مزمنا نتيجة استنشاقها للمبيدات الحشرية المستخدمة في الزراعة أثناء عملها.
والدة وئام تشعر بالحزن لما أصاب ابنتها التي تضطر للعمل في المزرعة لإعالة الأسرة، حيث تعاني من حساسية مفرطة بسبب استعمال مادة "الكبريت" ذات الرائحة النفاذة التي تُرش على الطماطم، وتبقى آثارها على الملابس حتى بعد غسلها، ما يسبب لها مشاكل تنفسية مزمنة وأعراضا طويلة الأمد.
وفي هذا السياق، أظهرت آخر إحصائية للمسح الوطني لعمل الأطفال في الأردن لعام 2016 أن نسبة الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عاماً ويعملون في المزارع والحدائق والمشاتل تبلغ 21.8 %، وأن 2.6 % من الأطفال العاملين يتعرضون لمخاطر الإصابة الناتجة عن المواد الكيميائية، مثل المبيدات الحشرية والغراء.
آثار مدمرة على الصحة تظهر لاحقا 
الباحث والخبير في الشؤون الزراعية، حسان العسوفي، أوضح أن المبيدات الحشرية والمواد الكيميائية المستخدمة في المزارع تنقسم إلى نوعين: المبيدات الحادة ذات التأثير المباشر، والمبيدات ذات التأثير المزمن، التي يظهر تأثيرها على المدى البعيد بسبب تراكمها في أنسجة وخلايا الجسم، وتظهر آثارها في مراحل متقدمة من العمر.
وأشار العسوفي إلى أن المبيدات المستخدمة في حدائق المنازل الصغيرة تكون ذات درجة سمية منخفضة جداً، ولا تؤثر بشكل مباشر إذا تم استخدامها بشكل صحيح. أما المبيدات المستخدمة في المزارع الكبيرة فتكون ذات درجة سمية عالية، ما يتطلب الحذر الشديد عند استخدامها.
وأضاف العسوفي أنه من غير الدقيق إلقاء اللوم على مادة معينة، مثل الكبريت، باعتبارها وحدها ضارة، لأن جميع المواد الكيميائية المستخدمة في الزراعة قد تسبب أضراراً إذا لم تستخدم بالطريقة الصحيحة وبجرعات مناسبة، مشيرا إلى أن الاستخدام الصحيح لهذه المواد يساهم في تحسين نوعية الإنتاج.
اختصاصي الأمراض الصدرية الدكتور عبدالرحمن العناني قال إن هناك أطفالا يعملون في المزارع يترددون على العيادة التي يعمل بها يعاني معظمهم من أمراض صدرية وأهمها الربو الشعبي والانسداد الرئوي "بمعنى أن القصبات تبقى ملتهبة طوال الوقت"، نتيجة تعرضهم للمواد الكيميائية والمبيدات الحشرية.
وأضاف العناني أن الرئتين قد تصابان بالتليف نتيجة تعرضهما لهذه المواد السامة الموجودة في المبيدات الحشرية والمواد الكيميائية، وهناك زيادة في الإصابة بسرطان الرئة على المدى البعيد. لأن الأطفال يستنشقون تلك المبيدات باستمرار لعدم ارتدائهم الكمامات وغيرها من وسائل الحماية.
أطفال المزارع بلا تعليم ومستقبل مجهول
"لما نروح نعشب وأشوف طفلتي كيف تعانيان من الشوك والغبار والحجارة، ينحرق قلبي عليهما، نفسي اشاهدهما مثل البنات بالمدارس وعندهما أبسط الحقوق"، هكذا تعبر والدة الطفلتين نور وروان(13 و15 عاما)، عن آلامها عند مشاهدتهما وهما تعملان في المزرعة، بعدما تركتا الدراسة منذ العام 2020، أبان ظهور جائحة كورونا وتحول التعليم عن بعد.
وتقول والدتهما إن ابنتيها عندما عادتا للمدرسة تعرضتا للتنمر من زميلاتهما في الصف بسبب عدم قدرة والديهما على شراء ملابس جديدة لسوء الأحوال المادية، لذا فضلتا العمل في المزرعة لتوفير المال لشراء احتياجاتهما، على أن يعودا للمدرسة.
وبررت والدتهما أن السبب الرئيسي لعمل طفلتيها في المزرعة وترك تعليمهما، الفقر والحاجة بسبب عدم عمل رب الأسرة بشكل رسمي ووجود دخل ثابت تحت ظل ارتفاع تكاليف المعيشة، "أنا وصلت الصف الرابع ووقفت، وكذلك زوجي ما عنده شهادة، كل وظيفة نتقدم لها يتم رفضنا بسبب عدم وجود شهادة دراسية"، تقول والدتهما.
يعد الفقر أحد أبرز مسببات عمل الأطفال في العديد من الأماكن، بما في ذلك المزارع. فقد أظهرت آخر أرقام دائرة الإحصاءات العامة الأردنية لعام 2017 أن نسبة الفقر في الأردن تقدر بـ 15.7 %، في حين بينت دراسة لليونيسف الصادرة عام 2017 أن نسبة الفقر متعددة الأبعاد بين الأطفال تصل إلى 20 %.
وفقا للتقرير الإحصائي للعام الدراسي 2022-2023، الذي نشرته وزارة التربية والتعليم على موقعها الإلكتروني، بلغ عدد الذكور المتسربين من الصف الأول حتى الصف العاشر 5968 طالبا، بينما بلغ عدد الإناث 4386 طالبة.
يذهب المحلل والخبير الاقتصادي حسام عايش أن جزءا من العاملين في القطاع غير الرسمي من الأطفال يتسربون من المدارس أو يعملون بعد انتهاء الدوام، مما يجعل تحصيلهم العلمي غير مجد للوصول إلى مستويات علمية أعلى، وبالتالي تكون النتيجة ترك الدراسة.
ويضيف أن هناك قضايا اجتماعية مثل التنمر على الطلاب من الأسر الفقيرة وضعيفة الحال، مما يدفعهم إلى الفرار من المدرسة والبحث عن بيئة مختلفة. كما أن بعض الأطفال يرون أن العائد من بقائهم في الصفوف الدراسية أقل من العائد الذي يحصلون عليه من العمل وهم في هذا العمر.
ويؤكد عايش أن عمالة الأطفال في المجتمع تعتبر أحد الأشكال الدالة على عدم توفر العملية الاقتصادية لعائد يتناسب مع احتياجات الناس وتكاليف المعيشة، وأن هناك خللا في منظومة الحياة الاجتماعية بمعناها الواسع، مشيرا إلى ضرورة وجود إدراك مبكر لأضرار عمالة الأطفال.
عمالة الأطفال والقانون الأردني
أستاذ القانون الإداري والدستوري، الدكتور حمدي القبيلات، قال إن المشرع الأردني أحاط الأطفال بمنظومة قانونية متكاملة تكفل حقوقهم وتحمي طفولتهم، مما يعني أن الطفل حتى سن الـ 16 ممنوع من العمل، ويسأل صاحب العمل عن المخالفة باعتباره مخالفا لقانون العمل.
كما يتحمل ولي الأمر المسؤولية في حال عدم التحاق الطالب بالمدرسة وتفرغه للعمل. أما من تجاوز سن الـ 16 فيجوز تشغيله بموافقة رب العمل بشرط ألا يكون العمل من الأعمال الخطرة. ويتم متابعة ذلك من خلال مفتشي وزارة العمل للتحقق من الالتزام بالقانون بشأن عمالة الأطفال.
وأوضح القبيلات أن العقوبة وفقا للمادة 77 من قانون العمل هي أن "يعاقب صاحب العمل أو مدير المؤسسة عن أي مخالفة لأي حكم من أحكام هذا الفصل أو أي نظام أو قرار صادر بمقتضاه بغرامة لا تقل عن مئة دينار ولا تزيد على خمسمائة دينار، وتضاعف العقوبة في حالة التكرار، ولا يجوز تخفيض العقوبة عن حدها الأدنى للأسباب التقديرية المخففة".
كما بين القبيلات أن القانون جاء منسجما مع أهم الاتفاقيات الدولية في مجال مكافحة عمل الأطفال، ومنها اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، واتفاقيات العمل الدوليتين الأولى 138 الخاصة بالحد الأدنى لسن الاستخدام، والثانية رقم 182 الخاصة بحظر أسوأ أشكال عمل الأطفال.
ووفقاً لقانون حقوق الطفل رقم 17 لسنة 2022، بين قبيلات أن "للطفل الحق بالرعاية وتهيئة الظروف اللازمة لتنشئته تنشئة سليمة تحترم الكرامة الإنسانية في بيئة أسرية يتحمل الوالدان فيها المسؤولية الأساسية في تربية الطفل وتوجيهه وإرشاده ورعايته ونمائه" (المادة 5/ب).
كما نص نظام عمال الزراعة لعام 2021 في المادة 6 على أنه "لا يجوز بأي حال تشغيل الحدث الذي لم يكمل السادسة عشرة من عمره في الأعمال الزراعية، ولا يجوز تشغيل الحدث الذي لم يكمل الثامنة عشرة من عمره في الأعمال الزراعية الخطرة أو المرهقة أو المضرة بالصحة، وتحدد هذه الأعمال بقرار يصدره الوزير".
دور وزارة العمل وقسم التفتيش
بيّن الناطق الإعلامي باسم وزارة العمل، محمد الزيود، لـ "الغد" أن الوزارة قامت بـ 1605 زيارات تفتيشية على 710 منشآت في القطاع الزراعي لعام 2024، وتم ضبط 16 طفلا عاملا بين ذكور وإناث.
وأضاف أنه لا يوجد ضعف في الرقابة من قبل الوزارة، حيث يشكل التفتيش على عمل الأطفال 15 % من المستهدف لبنود التفتيش الكلي، وهذه نسبة مرتفعة ولا تعني ضعفا في الرقابة. وأكد أنه لا يجوز الحكم على زيادة أو نقصان نسبة الأطفال العاملين دون الاستناد إلى مسوحات أو دراسات حقيقية موثوقة، لأن المشاهدات الفردية لا تعتمد لإصدار أحكام حول الأعداد والمساحات الوطنية.
وأكد الزيود أنه لا يمكن اعتبار ابتعاد المزارع عن مراكز المحافظات سببا في وجود أطفال عاملين في المزارع، لأن الوزارة تقوم بالزيارات التفتيشية التي تشمل كافة الأماكن القريبة والبعيدة.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق