محمد سعيد حارب.. صانع أشهر مسلسل كرتوني خليجي

عكاظ 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تُعد أفلام الكرتون واحدة من وسائل التسلية اللطيفة للصغار والكبار معاً، كما أنها باتت أحد مصادر تثقيف وتربية الأطفال وغرس المفاهيم الجميلة في عقولهم الطرية. وقد مرّ هذا الفن المنتمي لأسرة الفنون التشكيلية والمرتبط بعلاقة وثيقة بالسينما والتلفزيون والحاسوب بتطورات كثيرة على مدى عقود من الزمن منذ ظهور أول فيلم للرسوم المتحركة في أوروبا سنة 1908، وصولاً إلى انتشارها وتطورها تقنياً في الولايات المتحدة منذ عام 1911 على يد «وينسر مكاي» و«جون راندلوف بربي» و«ماكس فليتشر» وغيرهم، ثم قيام الأمريكي والت ديزني في عام 1923 بإدخال الصوت على هذه الأفلام، ومن ثم إنتاجها بالألوان لأول مرة في عام 1932، علماً بأن اليابان دخلت هذا المجال أيضاً منذ عام 1917 حينما أنتجت 12 عملاً خلال سنة واحدة من خلال أحد مؤسسي الإنمي ويدعى «جوتشي كوتشي»، قبل أن يضفي اليابانيون خلال الحرب العالمية الثانية الطابع العسكري على أفلامهم المتحركة لبث روح الشجاعة ونبذ الخوف في مقاتلة الأعداء.

وفي التسعينات وما بعدها حدثت طفرة في هذا المجال باستخدام الفن الرقمي وتقنية الكمبيوتر ثنائي الأبعاد ومن ثم ثلاثي الأبعاد، لتصبح الرسوم المتحركة صناعة مؤثرة قائمة بذاتها وتدر مليارات الدولارات، خصوصاً مع تعدد الوظائف التي تؤديها ومنها التربويّة، والاقتصاديّة، والتوجيهيّة، والروائيّة، والإعلامية، والترويجيّة والترويحية، وحتى العسكريّة. والحقيقة أنه إذا كان إنشاء شركة ديزني هو أهم منعطف في تاريخ صناعة الرسوم المتحركة، فإن إصدار شركة بيكسارPixar أول فيلم كرتون ثلاثي الأبعاد بعنوان «حكاية لعبة» في عام 1995 هو ثاني أهم منعطف لأنه أسس لبداية حقبة جديدة مذهلة في هذا المجال، ومستمرة حتى يومنا هذا.

على المستوى العربي، نجد أن أولى محاولات إنتاج الأفلام المتحركة بدأت في مصر سنة 1935 على يد أنطوان سليم الذي كان متأثراً بشخصية والت ديزني وأعماله، وذلك من خلال فيلم روائي قصير بعنوان «برسوم يبحث عن وظيفة»، لكن مصر رغم كونها رائدة عربياً في هذا المجال، إلا أنها فشلت في فرض اسمها على خارطة صناعة الأفلام المتحركة، واكتفت باستيراد الأفلام من الخارج وترجمتها إلى العربية المصرية وعرضها في دور السينما والقنوات التلفزيونية. أما دول الخليج العربية فلم يبدأ اهتمامها بهذه النوعية من الافلام إلا في سبعينات القرن العشرين من خلال «مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك» لدول مجلس التعاون. وشهدت السنوات الأخيرة توجهاً جاداً من قبل بعض الشباب الخليجي المتعلم والمؤهل لخوض تجربة صناعة أفلام الكرتون من خلال شركاتهم الخاصة، وبدعم وتشجيع من الجهات الرسمية.

كانت تلك مقدمة وتمهيد للحديث عن شاب من دولة الإمارات العربية المتحدة هو المخرج والممثل والمدبلج والشاعر الغنائي محمد سعيد حارب، الذي يعد اسماً رائداً في بلده، وصاحب أحد أشهر مسلسلات الكرتون الخليجية وأكثرها رواجاً ومشاهدة، بل هو صاحب تجربة ثرية وملهمة في هذا الحقل. لذا ارتأينا أن نسرد قصته لأنها إحدى قصص النجاح والريادة في الخليج والجزيرة العربية، ناهيك عن أن صاحبها من الشباب الذي يؤمن بصناعة المستحيل.. هكذا كتب معرفاً بنفسه على حسابه بمنصة X: «فكرة صناعة المستحيل تعبر عن رحلتي في الحياة. دائماً ما آمنت بأنه لا توجد حدود لما يمكن تحقيقه، وهذا ما تجسده دولة الامارات تماماً؛ كمكان يصبح المستحيل فيه واقعاً وتتحقق فيه الأحلام».

وُلد «محمد سعيد محمد حارب» بإمارة دبي في عام 1978 ابناً لوالده سعيد محمد حارب الذي شغل منصب أمين عام مجلس الإدارة بمجلس دبي الرياضي منذ نوفمبر 2014، ثم صار عضواً في مجلس الإدارة في الهيئة العامة للرياضة منذ فبراير 2018. وفقد محمد والدته وهو في سن الثامنة عشرة.

بعد أن أنهى تعليمه العام بمدرسة الاتحاد الخاصة في دبي، كان تائهاً لا يدري إلى أين يتجه، فاستأذن والده وسافر إلى الولايات المتحدة لدراسة الهندسة المعمارية بسبب حبه الشديد للرسم. وهناك التحق بكلية العمارة في جامعة «نورث إيسترن» البحثية الخاصة بمدينة بوسطن. وذات مرة اكتشف عن طريق الصدفة وجود صف في جامعته لتدريس الكارتون من خلال التخصص في «إعلام عام ورسوم متحركة»، فاتخذ دون تردد القرار الذي غير مجرى حياته واستوعب طموحه وشغفه.

لم يكن ذلك القرار سوى ترك كلية العمارة والانتقال إلى حيث يمكن أن يشبع ويصقل هواية كانت قد بدأت معه في دبي وهي هواية رسم الصور والشخصيات والتفنن في نقش ملامحها، ولاسيما صور العجائز اللابسات للبرقع الإماراتي التقليدي. وفي كليته الجديد وُلدت لديه فكرة شخصية «أم سعيد»، ثم تطورت الفكرة لاحقاً حينما طلب منه أستاذه ابتكار شخصيات عربية من التراث لا يعرفها أحد ولم يسبق تناولها من قبل، وبعيدة عن الشخصيات التقليدية في التراث العربي مثل السندباد وعلاء الدين وعلي بابا وجحا. هذا الاهتمام من أستاذه شجعه على التفكير والعمل إلى أن اهتدى إلى فكرة ابتكار أربع شخصيات نسائية تمثل مسنّات من الإمارات، ولكل منها ملامح تميزها عن الأخريات وأسلوبها الخاص وطريقة تفكيرها واهتماماتها المغايرة. ومن رحم هذه الفكرة صنع حارب -بعد تخرجه وعودته إلى بلاده- أول مسلسل كارتوني إماراتي وخليجي باستخدام التكنولوجيا الرقمية ذات الأبعاد الثلاثة، وهو مسلسل «فريج» من بطولة أربع عجائز هن: أم سعيد (العجوز الحكيمة الرزينة ومدمنة القهوة، وأدى دورها الممثل الراحل ماجد الفلاسي)، وأم سلوم (العجوز السمينة ذات الشخصية الضعيفة التي تنسى بسرعة ولا تتذوق الشعر، وجسد دورها الفنان عبدالله حسين)، وأم علاوي (العجوز المتعلمة، التي تتحدث بطلاقة وتفهم كثيراً في الثقافة ولكن عربيتها مكسرة لأنها عجمية، وأدت دورها الفنانة أشجان)، وأم خمّاس (العجوز التي لا يهمها شيء وليست لها مبادئ ومتعجرفة وتستخدم قوتها الجسدية، والتي مات أزواجها الثلاثة السابقون لأسباب غامضة، وجسد دورها الفنان سالم جاسم).

أصبحت بطلات مسلسل «فريج» الأربع رموزاً لعجائز جئن من الماضي إلى الحاضر ليعشن في حي تراثي منعزل داخل مدينة دبي العصرية، فيحاولن بأساليبهن الخاصة حل مشاكلهن مع بيئة صاخبة لم يعتدن العيش بها. وبهذا أعدن للمشاهد ذاكرته وحياته القديمة، وجذبن الكبار والصغار على حد سواء منذ إطلاق المسلسل حصرياً على قناتي دبي وسما دبي الفضائيتين الإماراتيتين، في رمضان 2006، حيث نافس به مخرجنا برامج أخرى كثيرة على الشاشة الفضية، بل خلق لنفسه من ورائه شهرة وانتشاراً لم يكن يحلم بهما، ليس على المستوى المحلي وإنما أيضاً على المستويات الخليجية والعربية والعالمية. ودليلنا أن صحيفة عالمية الانتشار مثل «نيويورك تايمز» تناولت لأول مرة الحديث عن مسلسل كرتوني من منطقة الشرق الأوسط، فخصصت لمسلسل «فريج» ولمخرجه مساحة كبيرة مليئة بالتفاصيل والخلفيات وآراء المشاهدين. ومما كتبته الصحيفة: «إن مسلسل (فريج) أصبح من الأعمال التلفزيونية الرائدة في منطقة الشرق الأوسط، وهو عمل جسد خيال مبدعه في سياق اجتماعي فريد، وركز على نواحٍ اجتماعية مختلفة كما سلط الضوء على تقاطع الماضي مع الحاضر، من خلال أسلوب جديد ومرح. وكأننا نرى سعيد حارب، يسلك مساراً مبتكراً لأعمال كرتونية رائدة مثل (ذا سيمسونز) و(المنتزه الجنوبي). كما حاول حارب إضفاء الطابع العالمي على المسلسل مع المحافظة على شهرته في دبي. وعلى الرغم من أن الفكرة خطرت للمبدع عندما كان يدرس في الولايات المتحدة فإنه لم يحاول من خلال (فريج) تقليد النمط الأمريكي في طرح الموضوعات الحساسة والمثيرة للجدل».

عدا عن هذا التقدير العالمي لمخرج ومؤلف المسلسل، تم تكريم حارب في البحرين في سبتمبر 2007 من قبل رئيسة جامعة الخليج العربي د. رفيعة غباش، وحاز على تكريم رفيع المستوى من سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الذي أنعم عليه بلقب شخصية العالم الشابة، وفاز مسلسل «فريج» بجائزة الدولة الخاصة في مهرجان هامبورغ لأفلام الكارتون، كما فاز بجائزة المهر من مهرجان دبي السينمائي الدولي عن أفضل موهبة إماراتية. واستضافته جامعة نيويورك لإلقاء محاضرة عن تجربته ومسيرته المهنية الشاقة وكيفية صناعة الفيلم الكرتوني في الإمارات، فقدم أمام طلبتها موجزاً عن حياته ثم أتبعه بعرض فيديو عن صناعة الفيلم الكرتوني منذ رسم الشخصيات وكتابة القصة والسيناريو وتركيب الصوت والموسيقى والإضاءة، وأخبرهم عن استعداداته حول إخراج وتمثيل مسلسل كارتوني جديد من النوع الخيالي يحمل اسم «مندوس»، وهو عمل رأى بالفعل النور عام 2015. إلى ذلك احتفى منتدى الإعلام العربي في دبي بحارب واستضافه في إحدى دوراته السنوية لتقديم تجربته الفريدة أمام آلاف الضيوف.

العودة من بوسطن

بالعودة إلى سيرة حارب، نجده ينهي دراسته في بوسطن خلال ست سنوات (من 1995 إلى 2001) ويعود إلى دبي في عام 2003 للبحث عن عمل، فيعمل أولاً في شركة تملكها عائلته في مجال تصميم الشعارات (اللوغو) للأسماء التجارية، ومنها انتقل للعمل بوظيفة فنية براتب 7000 درهم شهرياً بمدينة دبي للإعلام المحتضنة لأكثر من 800 شركة إعلامية ونحو 120 قناة تلفزيونية، حيث التقى صدفة بمدير مهرجان دبي السينمائي الدولي عبدالحميد جمعة الذي كان على علم بمشروع تخرجه من بوسطن، فطلب منه الاستمرار والتطوير، وساعده في الحصول على قرض بثلاثة ملايين درهم من مؤسسة الشيخ محمد بن راشد لدعم مشاريع الشباب. وهكذا بدأ في عام 2005 بالبحث عن الشركة التي ستساعده في رسم أفكاره، وذهب لهذا الغرض إلى الهند، وهناك عاش لمدة ستة أشهر حتى وقع اختياره على شركة هندية مقرها مومباي، ثم أسس شركته الخاصة تحت اسم «لمّا ترى بيكتشرز» (Lammatara Pictures) لإنتاج مسلسل «فريج»، فأنجز المهمة في عام 2006 من خلال فريق عمل مكون من 500 شخص موزعين على دولتين.

اتجه حارب بعد ذلك إلى تأسيس شركة تسويق واستشارات استراتيجية لتقديم مجموعة كبيرة من الخدمات للسينما والتلفزيون والموسيقى والفنون والأحداث المباشرة، تحت اسم «NearEast entertainment»، شراكة مع شيفاني بانديا مالهوترا، مديرة مهرجان دبي السينمائي الدولي. ومن خلال هذه المنصة قدم في عام 2019 فيلمه الكوميدي الأثير «راشد ورجب» الذي يروي قصة شاب إماراتي وعامل توصيل مصري يتمنيان تبادل حياة بعضهما البعض، ومع تبادل الأدوار يمران بمواقف طريفة. والفيلم من تأليف شادي ألفونس وفهد البتيري وإخراج محمد سعيد حارب وبطولة الممثل الإماراتي مروان عبدالله مانع، والممثل المصري الكوميدي شادي الفونس، والمذيعة شيمة وهيفاء العلي وسميرة الوهيبي. هذا علماً بأن المهتمين بصناعة الفيلم في نيويورك أشادوا بهذا الفيلم ورتبوا له عرضاً خاصاً في نيويورك سنة 2019 بحضور حارب.

شاعر غنائي

من الأمور الأخرى التي قد لا يعرفها الكثيرون عن مخرجنا أنه شاعر غنائي وتعاون مع عدد من المطربين الشباب من جنسيات عربية مختلفة مثل: محمد الوسمي، وأصيل هميم، وبلقيس، وأيمن الأعتر، وروان بن حسين، ونور عرقسوسي، ويارا، وحنان رضا، وأدهم. وحول هذا، أخبرنا حارب في حديث صحفي لجريدة «الرؤية» الإماراتية (18/‏2/‏2022) بقوله، إن دخوله في مشاريع عمل لإنتاج الأفلام والمسلسلات يستغرق مدة زمنية طويلة، وهو ما يدفعه لعمل مشاريع صغيرة أثناءها ككتابة الأغاني لأنها تنعشه وتمده بالنشاط والحافز للاستمرار.

وفي اللقاء الصحفي ذاته أعرب حارب عن امتعاضه من ظاهرة استنساخ الأعمال الفنية، مشيراً تحديداً إلى مسلسل كرتوني كويتي اقتبس عن «فريج» الكثير من تفاصيله، بدءاً من فكرة العجائز الأربع اللائي يرتبطن بعلاقات صداقة قوية تنشأ عنها حكايات يومية تعيدنا إلى أصيل تراثنا، مروراً بالحلول الكرتونية وحتى اللزمات المرتبطة ببعض الشخصيات، مضيفاً: «يكاد يكون الجديد الوحيد في هذا العمل مقارنة بـ(فريج) هو استبدال اللهجة الإماراتية المحلية بنظيرتها الكويتية». واستبعد حارب الدخول في نزاع قضائي لإثبات تهمة التعدي على حقوقه، ومبدياً استغرابه من استسهال البعض وقدرتهم على سرقة جهود غيرهم.

ومن الأعمال الأخرى التي أخرجها مخرجنا فيلم «بطل الحلبة»، وهو فيلم يحمل رسالة تحدٍّ وأمل ومثابرة من خلال حكاية شاب طموح يُدعى «مصعب» (يجسد شخصيته الفنان ياسين غزاوي)، الذي يحلم بأن يصبح بطلاً في المصارعة الحرة، إلا أن كل من حوله يسخر من بنيته الجسمانية الضعيفة ولكنه يصر على تحقيق حلمه بمساعدة مدربه «علي» (يجسد شخصيته الفنان محمد لطفي) في إطار من التشويق المتنوع ما بين الدراما والأكشن والكوميديا.


إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق