«ما كلام الأنام فى الشمس إلا أنها الشمس ليس فيها كلام»، هكذا لخّص أمير الشعراء أحمد شوقى أسطورة أم كلثوم التى نحتفل فى مصر والوطن العربى بمرور خمسين عامًا على رحيلها، وقبل أيام شاركت فى فيلم وثائقى عنها وعن دورها الوطنى الناصع، وإذا بى أقرأ من خلال سيرتها التحولات التى شهدها الوجدان المصرى منذ عشرينيات القرن الماضى، بالطبع لن ينسى عشاقها ما قامت به من أجل دعم المجهود الحربى بعد هزيمة يونيو، وكيف جابت العواصم العربية لتغنى من أجل قضية تحرير التراب الذى تحقق باقتدار فى أكتوبر المجيد سنة ١٩٧٣.
هى عنوان العذوبة والرقة والأسى فى حياة عشاقها، الريفية الفقيرة التى جابت الموالد والأفراح فى كل أقاليم مصر وهى تلبس زى الرجال «الجبة والعقال»، وبعد أن استقرت فى القاهرة صارت عنوانًا للحداثة فى زى وعمل المرأة، احتلت مكانة فى المجتمع وأجبرت الجميع على احترام المرأة المغنية التى كان ينظر إليها المجتمع نظرة لا تليق، أصبحت مطربة الملوك والأمراء والعامة، أسهمت فى انسجام المجتمع، وارتبط بها الفلاحون والصعايدة والبدو وأبناء المدن الساحلية وكل الأقطار العربية، بسبب فنها فى المقام الأول، ولأنها تلبى حاجة عند كل واحد على حدة.
هذا الإجماع أزعج أصحاب النفوس المريضة الذين أرادوا تشكيل الوجدان الجمعى على مقاسهم، فمنذ إطلاق حسن البنا دعوته إلى إنشاء الفن البديل أو الفن الإسلامى فى الأربعينيات، تم استهداف أم كلثوم بشكل ممنهج استمر إلى وقت قريب، ولكن ذروته جاءت فى سنوات الثمانينيات والتسعينيات مع تنامى المد السلفى، لم يهاجم شخص على المنابر مثل أم كلثوم. الشيخ كشك والمحلاوى ويعقوب، ومن على شاكلتهم، هم وراء كل الشائعات التى طالت صوت مصر الناصع، منذ اتهامها باغتيال اسمهان، مرورًا بالشائعات الساذجة التى طالت حياتها الشخصية، والتى وصلت إلى اتهامها بأنها يهودية تزوجت من مسرحى يهودى رغم معرفة مصر كلها بأصلها وفصلها.
بالطبع انحيازها لثورة يوليو وأهدافها هو ما جعلها فى مرمى الإخوان ومن معهم، ليس فى مصر فقط ولكن فى بعض الأقطار العربية التى يعشق أهلها الست. على اليوتيوب يوجد فيديو شائع لشخص كويتى يتهمها بأنها حولت مصر إلى غرزة حشيش، وبرلمانى يمنى فى الماضى حمّلها مسئولية ضياع فلسطين والجولان، وحين ذهبت إلى السودان سنة ١٩٦٨ لإقامة حفل لدعم المجهود الحربى استقبلها المتشددون بحملة فى جريدة الميثاق، لسان حال الجماعة المحظورة، بسبب إيمانها بالقومية العربية والعروبة، أولئك الذين يروجون لدولة الخلافة ويكرهون الفن والمرأة ولا يعترفون بالحدود الوطنية، أم كلثوم عبّرت بصوتها عن الأشواق وبشّرت بالنصر على أعدائنا، ودعمت نظامًا وطنيًا وانحازت للقضايا العربية العادلة، بفنها وحضورها الطاغى، مستثمرة محبة العرب لها وحاجتهم إلى مشاعرها الطازجة.
فى سياق آخر ستجد بين الحين والآخر من يقارن بينها وبين السيدة فيروز، وهى المقارنة التى ابتدعتها الصحافة الفنية لزيادة التوزيع. نحن أمام صوتين نادرًا ما يجود الزمن بهما، والمقارنة ليست فى محلها، «الكلثوميون»، وأنا منهم، يحبون فيروز أيضًا ويعرفون قدرها ومقامها، تستمع إليها كما كتب حسين شبوكشى «ومزاجك رايق»، أما أم كلثوم فتستمع إليها لكى «تروق مزاجك»، فيروز تغنى للبدايات الوردية وللحبيب المثالى، تريد أن يستمع إلى صوتها وهو أمامها، أم كلثوم مثل كل المصريين تواسى نفسها بالغناء، وتغنى للحب الصعب والمؤلم الملىء بالتجارب المريرة، هى تنهل من تراث يحمل طبقات من الأزمنة والمشاعر المنسية داخل جمهورها، تغنى وهى متماسكة بقدمين ثابتتين.
على المستوى الفنى، عبّر صوت أم كلثوم عن كل مدارس التلحين، فهى بدأت مع الشيخ أبوالعلا محمد الذى مثّل مدرسة القرن التاسع عشر، ثم النجريدى الطبيب الهاوى الذى قربها من إيقاع العصر، ثم محمد القصبجى العبقرى صاحب الطموح الفنى المتجاوز، ولن ننسى الدور الذى يغفله كثيرون لداود حسنى الذى قام بتدريبها وضبط أدائها من خلال الأدوار التى لحنها لها، وكان من حظها وجود أحمد رامى إلى جوارها، ليس فقط كشاعر غنت له أجمل الأغنيات، ولكن أيضًا كناصح ومعلم، لعب معها الدور الذى لعبه أحمد شوقى مع محمد عبدالوهاب، ولن ننسى الشيخ زكريا أحمد أقرب من لحن لها إلى قلبى، والذى تشعر مع ألحانه لها بسعادتها، لأنه يلعب على المنطقة الفطرية التى جاءت بها من السنبلاوين، زكريا بروح الحى القاهرى وتراث البداهة وخبرة المشايخ ومدرسته التشخيصية قبض على أم كلثوم المصرية الفلاحة التى تغنى وهى «سايبة إيدها»، ثم تأتى مرحلة السنباطى الوقورة الجميلة التى غيرت كثيرًا فى مسيرتها، والتى كثرت فيها القصائد لكبار الشعراء، وبعد الثورة لم تتوقف عن استثمار الروح الصاعدة مع النظام الشاب، فتعاونت مع بليغ والموجى وسيد مكاوى والطويل، نوابغ هذا الزمان، ثم التقت عبدالوهاب وقدمت معه ما أطال عمرهما معًا.
أم كلثوم أرّخت بصوتها التحولات التى شهدتها صناعة الغناء فى مصر منذ عشرينيات القرن الماضى، والتى أسهمت ثورة ١٩١٩ فى انفجارها، ليس فقط فى فن الغناء، ولكن فى كل مناحى الحياة.
0 تعليق