بايدن كان آخر أنفاس النظام الدولي الليبرالي بعد الحرب الباردة

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
‏دانيال مكارثي*‏ - (ريسبونسيبل ستيتكرافت) 17/1/2025
‏سواء كان الأمر يتعلق بالنيوليبرالية أو بفكر المحافظين الجدد، ساعد رؤساء الولايات المتحدة الأربعة الأخيرون في تبديد السلام. والآن تبدأ حقبة جديدة.‏اضافة اعلان
*   *   *
سيكون المكان الذي يحجزه جو بايدن في التاريخ مميزًا بأنه الرجل الذي انهار في ظله النظام الدولي الليبرالي. ‏
‏سبق وأن عانت الولايات المتحدة من التضخم من قبل. ولذلك، بينما سيتم تذكر إخفاقات بايدن المحلية، فإن هذه الإخفاقات لن تبرز لأنها ليست فريدة في نهاية المطاف. ومع ذلك، في السياسة الخارجية كتب بايدن نهاية فصل- ليس في قصة أميركا فحسب، ولكن في قصة العالم كله أيضًا. ‏
بعيدًا عن تجسيد "الأمل والتغيير"؛ الشعار الذي انتُخب عليه هو وسبق وأن انتُخب عليه باراك أوباما في العام 2008، جسد بايدن العجز والركود اللذين وسما السياسة الخارجية للغرب بعد حقبة الحرب الباردة.‏
‏في العام 2008 طالب الناخبون بشيء جديد ووثقوا ‏‏في‏‏ أن برنامج أوباما سيحققه. وتم بيع مشاريع تغيير النظام في "الحرب العالمية على الإرهاب" في عهد جورج دبليو بوش للجمهور على أنها ‏‏"نزهة"‏‏ وتحرير للسكان الأجانب الذين يحيّون جنودنا بالورود. وبعد سبع سنوات من الحرب الأفغانية، وبعد خمس سنوات في العراق، كان من الواضح أن بوش ومن تبعوه ليس لديهم مخرج من هذه الصراعات، التي لم تكن تُخاض من أجل الانتصار- حيث يصعب حتى تحديد ماهية النصر- ولكن ببساطة من أجل تأجيل الهزيمة. ‏
كانت هذه "حروبًا أبدية" مفتوحة النهاية. وتم منح أوباما، وبايدن إلى جانبه، تفويضًا لإنهائها ورسم مسار مختلف. وقد فشلا في تحقيق ذلك، وحافظا بدلًا منه على الاتجاه الكارثي الذي تم تحديده في أوائل التسعينيات.
فشل رؤساء ما بعد الحرب الباردة ‏
‏لم يكن جورج بوش الأب قادرًا على إنهاء حرب الخليج في العام 1991، التي استمرت في عهد بيل كلينتون بفرض مناطق حظر الطيران والعقوبات على العراق، بينما كانت واشنطن مستغرقة في سلسلة من أحلام المحافظين الجدد والمخططات لتغيير النظام في العراق. ‏
في ذلك الحين، كان غزو العراق في العام 2003 تصعيدًا جذريًا لحرب ‏‏ كانت جارية بالفعل‏‏. ومع ذلك، بعد الإطاحة بصدام حسين، لم تنته الحرب في الحقيقة. كانت أهداف واشنطن المتمثلة في بناء الدولة، والتغيير الإقليمي، وتعزيز الديمقراطية والليبرالية، غير محددة وغير واقعية لدرجة أنه لم يمكن -حتى لحرب يفترض أنها ناجحة- سوى أن تكون مقدمة لمزيد من الصراع.‏
‏كان العراق رمزًا واضحًا لمدى انحراف السياسة الأميركية وضلالها، ولكن كان بالوسع رؤية نفس عقلية مضاعفة الالتزامات سيئة المشورة وهي تطبق على نطاق أوسع أيضًا. بعد كل موجة من توسيع حلف شمال الأطلسي، على سبيل المثال، ‏‏كانت روسيا تصبح أكثر تهديدًا بدلًا من أن تصبح أقل تهديدًا‏‏. وإذا كان الغرض من توسيع "الناتو" هو جعل ‏‏أوروبا‏‏ أكثر أمانًا، فإن التناقض بين البيئة الأمنية للعام 1992 وبيئة العام 2025 يصدر حكمًا دامغًا- خاصة لدى مقارنته بالنجاح الأكثر محدودية الذي حققه حلف شمال الأطلسي في كبح الاتحاد السوفياتي حتى زواله.‏
‏كما لو أنهم كانوا موضوعين على الطيار الآلي، ومن دون أي اكتراث بالنتائج، اتبع رؤساء الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة ‏‏و"منظومة" السياسة الخارجية في واشنطن‏‏ أجندة شاملة اعتمدت النيوليبرالية (وفلسفة المحافظين الجدد). وتضمنت هذه الأجندة توسيع المؤسسات الدولية، وتعزيز التكامل الاقتصادي العالمي، وانتقاد الحركات القومية بجميع أشكالها، ونشر القوات العسكرية الأميركية لتعمل كرجال شرطة وعمال اجتماعيين في مناطق الاضطرابات في أي مكان وفي كل مكان، ودعم سياسة "‏‏تغيير النظام"‏‏ بأي وسيلة ضرورية في البلدان المستهدفة. ولم يتطلب هذا التوجه استمرار نفس جهاز الاستخبارات والمراقبة الأميركي الذي ساد في الحرب الباردة فقط، وإنما قام بتضخيمه.‏
‏عندما كان عضوًا في مجلس الشيوخ، كان بايدن منسجمًا تمامًا مع إجماع واشنطن، مع استثناءات قليلة وضعت قدرته على التفكير المستقل على المحك. فقد صوت ضد التصريح بحرب الخليج في العام 1991، على سبيل المثال، لكنه ‏‏أيد بحماس غزو العراق‏‏ في المناقشات السياسية التي جرت في العامين 2002 و2003. ثم أعرب في العام 2006 ‏‏عن معارضته‏‏ لـ"زيادة عديد" القوات إلى العراق.‏
ربما يكون ‏التفسير الأكثر وضوحًا لهذه الانحرافات هو أن بايدن كان يلعب السياسة فقط: كان قد ترشح للرئاسة أول مرة في العام 1988، بعد كل شيء، وربما بدت معارضة بوش في العام 1991 خطوة ذكية قبل محاولة مستقبلية للوصول إلى البيت الأبيض. وفي المقابل، كانت معارضة خطط بوش الثاني لخوض حرب جديدة في السنوات التي أعقبت 11 أيلول (سبتمبر) مباشرة مكلفة سياسيًا. وبحلول العام 2006، تغير المنطق السياسي مرة أخرى، وكان من الحكمة للمنافس المحتمل على ترشيح الحزب الديمقراطي للعام 2008- وهو ما حاول بايدن بالفعل تحقيقه- أن يعرض نفسه على أنه مناهض للحرب نسبيًا.‏
كانت هذه، بالطبع، هي الدورة التي تغلب فيها أوباما، الذي لم يدعم حرب العراق، على هيلاري كلينتون المتشددة (وبايدن "المناوِر") ليفوز بترشيح الحزب الديمقراطي. في ذلك الحين، كانت المؤسسة السياسية تعتبر بايدن اختيارًا لمنصب نائب الرئيس الذي سيوازن بطاقة الحزب -حيث يمنح أوباما عديم الخبرة، الذي يبدو مثاليًا، شخصية خبيرة طويلة الخدمة لتكون رفيقًا في الترشح لمنصب النائب؛ شخصية تثق بها نخب السياسة الخارجية في واشنطن بطريقة لم يكن يتمتع بها الوافد الجديد من إلينوي.‏
‏وما كان يجب أن يقلقوا: فقد سحب أوباما قواته فعليًا من العراق، لكنه حافظ في العديد من النواحي الأخرى على اتجاه السياسة الخارجية الأميركية الذي تم تحديده في أوائل التسعينيات. وبذلك أبقى النظام في مكانه، حتى بينما فتح العلاقات مع ‏‏إيران‏‏ ‏‏وكوبا‏‏. ‏
تجلى مدى ضآلة التغيير الذي أحدثه أوباما لحزبه -ناهيك عن واشنطن- في حقيقة أن خليفته في ترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة كانت مؤيدة حرب العراق نفسها التي كان قد هزمها في العام 2008. كانت هيلاري كلينتون، وليس الأمل أو التغيير، هي إرث باراك أوباما.‏
بداية نهاية (هذا) التاريخ ‏
‏بعد خسارة كلينتون في العام 2016 أمام جمهوري خارجي، دونالد ترامب، لم يتبق للحزب الديمقراطي ونخب السياسة الخارجية في واشنطن سوى مكان واحد للالتفات إليه. كان ‏‏جو بايدن‏‏ رمزًا للسياسة الماضية، لكن هذا بالضبط كان ما أرادته واشنطن: العودة إلى ما كان يعتبر طبيعيًا منذ التسعينيات. وقد لعب بايدن وأوباما معًا دور غورباتشوف أميركا -القادة الذين كان المطلعون يأملون في أن يسمحا بتغيير كاف للحفاظ على ديمومة الوضع الراهن. ‏
‏ولكن، مثل غورباتشوف، ترأس بايدن بدلاً من ذلك انهيار هذا الوضع.‏ ‏انسحب بايدن من أفغانستان، ثم اتبع نفس الرؤية الإستراتيجية التي كانت قد فشلت هناك في أوكرانيا. لم يكن هناك تعريف واقعي للنصر في أفغانستان، ولم يكن لدى بايدن أي تعريف للنصر في أوكرانيا أيضًا. وبدلاً من وضع هدف يمكن تحقيقه، روجت نخب واشنطن في كلا الصراعين لأحلام مثالية: أفغانستان ديمقراطية وليبرالية؛ وأوكرانيا مع استعادة شبه جزيرة القرم وعضوية الناتو؛ ‏‏وروسيا‏‏ ضعيفة وخائفة للغاية بحيث لا تسبب مشاكل لأي أحد.‏
‏وهكذا، ورط بايدن أميركا في حرب جديدة مفتوحة، وكانت سياساته منحرفة -حتى بشروطها الخاصة. إذا كان من المفترض أن يكون هدف الدعم الأميركي هو كسب الحرب لأوكرانيا، أو على الأقل توفير أقصى قدر من النفوذ، فإن تقديم أقصى قدر من المساعدة مقدمًا كان هو الشيء المنطقي الذي يجب القيام به. ‏
‏ولكن، بدلاً من ذلك اتبع بايدن نمطًا من التصعيد التدريجي، حيث منح أوكرانيا أسلحة أكثر قوة ومجالاً أكبر لاستخدامها فقط عندما كانت أوكرانيا تضعف -كما لو أن هدف الإدارة الواعي كان إطالة أمد الحرب لأطول فترة ممكنة، بغض النظر عن التكلفة في الأرواح الأوكرانية أو خطر اتخاذ الصراع منعطفًا نوويًا.‏
وبينما كان بايدن يطيل أمد حرب واحدة، اندلعت حرب أخرى في ‏‏الشرق الأوسط‏‏، مع هجوم "حماس" على ‏‏إسرائيل‏‏ ورد إسرائيل غير المتواني وبعيد المدى. وفي هذا الصراع أيضاً، كانت إدارة بايدن في حالة حرب مع نفسها، حيث كانت تحاضر في إسرائيل بينما تقوم أيضًا بتسليح إسرائيل ولم تمارس أي تأثير فعال لدفعها إلى وقف الحرب. وكان نشر القوات الأميركية على ‏‏"رصيف"‏‏ في غزة لأغراض إنسانية –حيث عمل الجنود كعمال اجتماعيين مرة أخرى- عديم الفائدة كما هو متوقع، لكنه كان لحسن الحظ قصير الأمد، وانتهى قبل أن يموت الأميركيون في الزي العسكري في منطقة حرب يفعلون فيها كل شيء ما عدا القتال.‏
‏كان بايدن نفسه هرِمًا، ولكن الأهم من ذلك، هو أن هذا كان حال النظرة العالمية التي يمثلها. منذ سنوات جورج بوش الأب وكلينتون، مرورًا بإدارتي جورج دبليو بوش وأوباما، ثم مرة أخرى مع بايدن في البيت الأبيض، كانت لدى واشنطن طريقة واحدة للعمل، هي محاولة هندسة نظام عالمي وتفضيل إطالة أمد الصراعات إلى أجل غير مسمى بدلاً من الاعتراف بأن الأهداف المثالية لا يمكن تحقيقها.‏
عندما حاول دونالد ترامب الابتعاد عن السياسة الخارجية الأيديولوجية الليبرالية إلى سياسة أكثر واقعية ومستعدة للتفاوض، قطعت ‏‏وسائل الإعلام‏‏ وواشنطن الرسمية أشواطًا غير عادية لإيقافه. في فترة ولايته الأولى، تم إحباط سياسة ترامب الخارجية من داخل إدارته على يد المسؤولين غير المنتخبين، ‏‏وحتى المعيّنين الرئاسيين‏‏، الذين سعوا إلى منع أي انحراف عن المسار المحدد لـ"المناورة". ‏
‏لكن انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أعطت الناخبين الأميركيين خيارًا بسيطًا، حيث وضعت ترامب وسياسته الخارجية مقابل مؤسسة موحدة، حيث لم تكتفِ كامالا هاريس بكسب دعم الديمقراطيين الليبراليين فحسب، وإنما حصلت أيضًا على دعم جمهوريين من المحافظين الجدد مثل ليز تشيني. وقد اختار الأميركيون ترامب بأعداد أكبر من أي وقت مضى، مما منحه النصر في كل ولاية متأرجحة.‏
سواء كان ذلك في صناديق الاقتراع أو في السجل الكارثي لإدارة بايدن، تم إخضاع النظام القديم لاختباراته النهائية، وفشل. كان بايدن هو شاهد القبر لعصر المحافظين الجدد والنيوليبرالية اللتين حددتا السياسة الأميركية لعقود، وأضاعتا السلام بعد الحرب الباردة. ‏

‏* دانيال مكارثي‏ Daniel McCarthy: نائب رئيس "الشبكة الجماعية" في "معهد الدراسات المشتركة للكليات" ومحرر مجلة ISI Modern Age. ينشر في صحف ومجلات "ذا سبيكتيتور"، "ذا نيويورك تايمز"، "يو. أس. توداي"، من بين منشورات أخرى.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: It's over: Biden is last gasp of failed post-Cold War internationalism

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق