تذكرت مقولة الخليفة الراشد القوي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حادثة ابن عمرو بن العاص والي مصر، وأنا أستمع لمحدثي وهو أحد الموظفين في قطاع من القطاعات.
حديثه كان في جوانب "الإدارة المثالية" وأنه يتفق مع ما أقوله دائماً، بأنك لو كتب الله لك العمل تحت قيادة مسؤول إداري محنّك وكفوء، وذكي في تعاملاته مع الموظفين، ويدير الأمور بعدالة وإنسانية، فإنك في خير كبير بفضل من الله.
والعكس بالطبع صحيح، ومن هذا المنطلق يسأل صاحبي هذا عن كيفية التعامل مع المسؤول الذي يتعمد إهانة الموظفين أو الحط من كرامتهم!
والحق هنا يقال، بأن مثل هذه السلوكيات غير مقبولة إطلاقاً في أي بيئة عمل، أو أي مكان، بل هو أمر منهي عنه في ديننا وموروثاتنا، إذ مكارم الأخلاق هي أساس التعامل بين البشر. أولم يقل رسولنا الكريم صلوات الله عليه: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق؟!
لربما هذه السلوكيات كانت موجودة كظاهرة فيما مضى من عقود، خاصة وأن علم الإدارة الحديث لم تكن فنونه وآدابه واستراتيجياته منتشرة بشكل كبير، واقتصرت على الدراسات والكتب. لكن اليوم يجوز القول بأنها ظاهرة في طريقها للاضمحلال، فالناس وعت بشكل كبير بشأن معادلة الحقوق والواجبات، والكثير أدرك بأن تولّي مسؤولية إدارة الناس لا يعني ظلمهم والتحكّم فيهم بالقوة أو التلذّذ بإهانتهم، لأننا في المقابل سنجد قوانين رادعة، وسنجد مواقع إدارية أعلى ترفض ما يحصل، بل وتُحاسب عليه.
لذلك دائماً أقول لأي شخص، وخصوصاً الموظفين، عليك مسؤوليات يجب أن تؤديها بشكل كامل، ولك في المقابل حقوق مكفولة بحكم اللوائح والقوانين، وأهمها حقّ التعامل معك بطرق لا تمسّ كرامتك وإنسانيتك.
وأقول أيضاً بأن لدينا بالتأكيد نماذج لمسؤولين هم في أعلى درجات الرّقي والتعامل الإنساني، يضعون الله نصب أعينهم، ويرفضون ظلم الناس والتجبّر عليهم، وحتى لو قصّر الناس وأخلّوا بواجباتهم، يتحرك المسؤولون هؤلاء بجدية وأساليب إدارية ذكية وراقية لمساعدة الموظفين على تصحيح أوضاعهم وعملهم، وبطرق تُبرز لهم التقدير وترفع من كرامتهم ومقدارهم.
هنا نصيحة لكل مسؤول ينسى أنه مؤتمن على مواقع العمل، وأن من مسؤوليته الحفاظ على كرامة موظفيه، فيقوم بالتعامل معهم كأنهم يعملون لديه، وأنه يحق له معاملتهم بسوء، وحتى ممارسة التعذيب النفسي والإداري عليهم. النصيحة بأن اتقوا الله، فالظلم ظلمات، ومن يرد الظلم بشكله الأبلغ هو الله سبحانه وتعالى، هو من خلق بني آدم وكرّمهم، بالتالي لن يقبل بأن يُهان من أكرمهم، وفي لحظات وبقدرة قادر هو يأخذ الحق ويحكم بأن تدور الدوائر.
صاحبي يسأل: وما الحل لو حصل؟! وجوابي بأن قياداتنا العليا هي التي تضرب أبلغ الأمثلة في التواضع والعدالة وصون كرامة الناس، وعليه فهي لن تقبل بأحد يحوّل أي مكان لوسط يُهان فيه الناس وينتقص من كرامتهم. وأيضاً لدينا جهات مسؤولة عن القوانين الإدارية واللوائح، وهي واجبها أن يلجأ لها أي شخص يتعرّض لهكذا معاملة.
قد تخطئ كموظف، قد تُخلّ بواجباتك، وقد تتعرّض لجزاءات وإجراءات، لكن تأكد أنها إن طُبّقت عليك، فإنها لن تنتقص من كرامتك، وعليه لا يجب القبول بممارسات تتعدّى الصلاحيات الإدارية، لا يجب القبول بسلوكيات تتعدّى على البشر في كرامتهم.
قلت بأنه ذكّرني بمقولة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب، والتي قالها لوالي مصر عمرو بن العاص، حينما جاء قبطي لخليفة المسلمين يشتكي على ابن الوالي، وأنه تسابق معه وغلبه، فأخذ ابن عمرو بن العاص يضربه بالسوط ويقول: أتغلبني وأنا ابن الأكرمين؟! فاستدعى الفاروق عمرو بن العاص وابنه، وأمر القبطي بأن يضرب من ضربه بالسوط أخذاً لحقه وصوناً لكرامته. وحينها التفت لمن ولاّه مسؤولية مصر، التفت عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص وقال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!
مهما كانت الأمور، ومهما كانت الظروف، ومهما استدعت منا أساليب مختلفة للتعامل، لابد أولاً وأخيراً أن نضع كرامة الآخرين في مقام أول، لابد من صونها ولابد من احترام البشر.
0 تعليق