أنا ومن هم من فئتي العمرية ننتمي إلى جيل يعرف بجيل (X) وهو جيل تميز بكونه جسراً بين العالم التقليدي والتكنولوجي الحديث، فقد عشنا طفولة وشباباً كانت الأجهزة الكهربائية والإلكترونية التي نستخدمها في حياتنا اليومية تعد على أصابع اليدين، فما نستمع إليه يأتينا من الراديو والمسجل، والمحادثات أكبر تكنولوجيا فيها كانت بواسطة الهاتف الأرضي، وإلا فهي مكتوبة تأتي بالتلكس، أو رسائل ورقية تقليدية، أما المرئي فلم نعرف شاشة غير شاشة التلفزيون، وهذا جهاز فيه قناة أو اثنتان حكومية، تعمل بجدول برامج فصلي وثابت ومعلن، وساعات البث محدودة، ثم نحن أنفسنا شهدنا في التسعينيات وبداية الألفية ثورة الإنترنت وابتكارات التكنولوجيا، فاستخدمناها وتكيفنا معها، وفي السنتين الأخيرتين شهدنا ثورة الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها، وتكيف كثير منا معها، أما الفترة التي كنا فيها طلبة في الجامعات كانت الفترة التقليدية، ندخل إلى القاعة منضبطين في جلوسنا، نستمع إلى المحاضرة، ونكتب ما يقول الأستاذ مستخدمين الورقة والقلم، أقصى ما يشتت انتباهنا هو ما نسترقه من محادثة سريعة مع زميل أو ورقة كتب فيها عبارة قصيرة، وكذلك عندما انتقلت إلى التدريس في الجامعة وجدت الطلبة على هذا الحال.
أما هذه الأيام فقد تغير الحال بشكل كبير مع ثورة التكنولوجيا، وأصبح الهاتف امتداداً للأصابع، والعلاقة بينه وبيننا علاقة مدمن بما أدمن عليه، وما يشتت الطالب خلال المحاضرة أصبح عشرات التطبيقات داخل جهاز واحد، وبمجرد محاولتك منع الطلبة من استخدامه خلال المحاضرة - وهو أمر حتمي لا مفر منه - حتى ترى عيوناً متعبة وأيدٍ ترتجف وكأنك طلبت منهم قطع أجهزة التنفس الاصطناعي التي لا يمكنهم العيش بدونها، فهذا الإدمان أصابنا جميعاً، يمكن أن نلاحظه ونحن في اجتماع رسمي أو على طاولة الطعام.
بالنسبة للطلبة مع أنه تحدٍ كبير، إلا أنه في الوقت نفسه فرصة، فهذا التعلق بالهاتف يمكن استثماره بتفعيل التكنولوجيا في التعليم، فيمكن جعل الهواتف جزءاً من المحاضرة، وكل ما على الأستاذ فعله هو إعداد أنشطة تعليمية تنفذ بواسطة الهواتف يقدمها على شكل رموز QR Code تأخذ إلى أنشطة تفاعلية، وقد استخدمت ذلك مراراً، واللطيف في الأمر ما أن أطلب من طلبتي التقاط الهاتف لمسح الرمز، حتى أجد ابتسامة ارتسمت على وجوههم، وأشعر أنني أطلقت سراحهم بعد أن كانوا أسرى الجزء التقليدي من المحاضرة.
في الواقع لم تعد الهواتف مجرد أجهزة، أنها كائنات لديها جاذبيتها الخاصة، تعرف كيف تستدرجنا، وكيف تنتقم إذا حاولنا عزلها، ولا بد أن يدرك أساتذة الجامعات أو حتى المدرسين في المدارس أننا في عصر لا يمكن أن نقدم فيه محاضرة دون مساحات لهذه الكائنات الجديدة لتتنفس، وإن لم نفعل فستتسلل إلى أصحابها في الخفاء وتدير اللعبة بطريقتها.
* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية
0 تعليق