استمر إقليم البحرين يلعب دوراً محورياً في الدولة العباسية لموقعها الجغرافي وأهميتها الاقتصادية وقربها من حاضرة الخلافة العباسية، علاوة على تحكّمها بطرق المواصلات وحركة التجارة البرية والبحرية، فمن خلال سواحلها تعبر البضائع القادمة من الشرق بحراً باتجاه البصرة وبغداد، وفي نواحيها وأطرافها الشمالية تمر وفود الحجيج القادمة من العراق والمشرق باتجاه مدن الحجاز فضلاً عن عبور القوافل التجارية بين العراق والمشرق وأسواق ونواحي شبه الجزيرة العربية. اهتمت الخلافة العباسية بشكل كبير بالبحرين وأمنها واستقرارها، ومن هذا المنطلق وجدت قرارات مهمة اتخذها الخليفة هارون الرشيد ضد بعض محاولات إعاقة الملاحة البحرية إثر ظهور قراصنة يمارسون الاعتداءات على السفن وحركة التجارة والذين أطلقت عليهم المصادر لشناعة أفعالهم وخطورتهم (متجرمة البحر) ومن بين تلك الخطوات استحداث (ولاية الغوص والبحرين) فضلاً عن ضمّه اليمامة للبحرين وجعلها تحت إدارة أحد كبار قادته وهو السندي بن يحيى الحرشي، وفي مطلع القرن 3 هـ/9 م ومع تجدد خطر الحركات المناوئة للعباسيين في بعض سواحل البحرين ومنها حركة الزط والتي اشترك فيها بعض أفراد العمالة القادمة من الهند والسند والتي بدأت في سواحل البحرين لتحقيق أهداف اقتصادية على حساب الخلافة، ومنها انتقلت للبصرة وقاموا بقطع طرق القوافل المتجهة إلى بغداد؛ لذا حاول الخليفة المأمون التصدي للمخربين من خلال واليه في البحرين والبصرة وواسط داود بن ماسيجور، ومع استمرار هذا التحدي في التأثير السلبي على حركة الملاحة وطرق القوافل سواء في الخليج العربيّ والبحرين والبصرة مستغلين طبيعة أرض السواد جنوب ووسط العراق، كان من أولويات الخليفة المعتصم مواجهة هذه الحركة وقمعها، ونجح بالفعل من خلال قائده عجيف بن عنبسة في محاصرة جيوب حركة الزط واضطرهم للاستسلام وإلقاء السلاح، وتأكيداً لاهتمام العباسيين بالبحرين عيّن الخليفة العباسي المتوكل على الله ابنه المنتصر بالله والياً على البحرين، علاوةً على ذلك كان للعباسيين جهود أخرى لتسهيل وتنظيم حركة الملاحة في الخليج العربي وسواحل البحرين من خلال الخدمات التي قدمتها الدولة لتحقيق الأمن والسلامة للملاحة، ومن ذلك وضع علامات تحذيرية في بعض السواحل عُرفت بالجرارة وهي علامات ممتدة على طوال السواحل الضحلة لتنبيه السفن والتجار من الاقتراب من المياه الضحلة، ومن بين مظاهر اهتمام العباسيين بنواحي البحرين وأسواقها وطرق التجارة البرية إنشاء الخانات والآبار في طرق القوافل وتأمين حراسة القوافل وحمايتها، ومن بين محاولات العباسيين لتنشيط الحركة التجارية سماحهم بحرية ممارسة التجارة وتخفيف الضرائب والمكوس على التجار العرب المسلمين، بل شمل ذلك غير المسلمين محاولة لجذبهم وتوسيع تبادل البضائع من وإلى أسواق البحرين ومدن وموانئ الدول المجاورة، سواء أكانت في الشرق أو شرق أفريقيا. ويبدو واضحاً أنّ تلك الإجراءات والسياسة التي اتبعها العباسيون تجاه البحرين تعكس مدى أهمية البحرين في الدولة العباسية؛ ممّا ساهم في حفاظ البحرين على دورها الريادي في الدولة الإسلامية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وحضارياً، ممّا يؤكّد تأثيرها الكبير في العالم العربيّ الإسلامي، خصوصاً في العصر العباسي الأول.
وها هي مملكة البحرين اليوم تواصل تعزيز دورها الريادي من خلال سياسة قيادتها وحكومتها الرشيدة التي ترتكز على التنمية والانفتاح الاقتصادي، حيث تعكس هذه السياسة التزام البحرين بتقديم الدعم والتشجيع للاستثمار وخلق بيئة ملائمة للتجارة. إنّ هذا النهج يتماشى مع ما ورد في ميثاق العمل الوطني الذي يركّز على الحرية الاقتصادية والمشاركة المجتمعية وتحقيق التنمية المستدامة، حيث تعزّز هذه السياسات من مكانة البحرين كمركز اقتصادي وحضاري، ممّا يسهم في استمرارية دورها كحلقة وصل بين الشرق والغرب ويعكس إرثها التاريخي في العصر العباسي.
* باحث في التاريخ وأكاديمي
0 تعليق