تعددت الأصوات المطالبة بالتركيز على الهُوية، مدفوعة بتأثيرات التقنية المفتوحة والعولمة وتأثير المراكز الثقافية على الأطراف، حتى حدا الأمر بوزارة التربية والتعليم معنا لإضافة مادة الهُوية الوطنية؛ والهُوية اصطلاح معاصر من الهو، والهُوية ضد الغيرية، أما في المعاجم القديمة فاستخدامها تصغير الهوة، ورووا بيت الشماخ ولما رأيت العرش عرش هوية تسليت حاجات الفؤاد بشمرا.
وبمقابلة الغيرية تفهم هدف الهوية بوضوح، وهو التمييز بين الذات والآخر، وعادة يتم تقديم مفاهيم بعينها لتحديد تلك الهوية: اللغة، الدين، التقاليد، التاريخ ..الخ، لكن ما يلاحظ أن كل تلك المحددات هي من الاتساع بحيث لا تكفي لتحديد الهوية الصغيرة وسط الهوية العامة، فالتاريخ مشترك، واللغة لهجات ولغات، والدين مذاهب وديانات، والتقاليد تتشابه إن لم تكن تتطابق مع هويات أعم، مثلها مثل التاريخ، والأهم أننا نجهل التاريخ القديم بشكل كبير في الأوساط العامة بما في ذلك قطاع كبير من المثقفين فما الهوية المعاصرة التي يراد إيصالها لنا نحن؟
مثال ذلك أن يجرى التركيز على الدشداشة العمانية، الموحدة كزي رجالي معتمد وموحد، الشكل الخارجي، بوصفه جزءًا من الهوية، فيما الواقع أن الزي الرجالي الموحد الذي انطلق مع إنشاء المدارس النظامية هو شكل مطور من عدة أشكال أخرى، والدشداشة نفسها، وتلفظ الدهداشة في بعض لهجاتنا، لباس عربي قديم منتشر من عمان حتى المغرب العربي، ولا تخلو منه بلاد عربية حتى اليوم، والدشداشة العمانية متنوعة في التطريز ولا تزال بعض تلك الدشاديش موجودة ومستخدمة ليومنا هذا كالدشداشة الصورية والدشداشة العبرية إذا اكتفينا بالمشهور منها، وتمثل تلك الدشاديش المتنوعة فنًا وتاريخًا وتراثًا علينا إحياؤه لا إماتته، بل هي تعبير طبيعي صادق وحقيقي عن ما ندعوه هويتنا.
والأمر أشد وضوحًا في أزياء النساء المتشكلة من مجموعة أزياء تتفق في الأساسيات لكنها تختلف في التفاصيل التي نعتز بها وبتنوعها والتي تحمل فنًا وجمالية خاصة وذوقًا وشخصية تعبر عن جداتنا وأمهاتنا، وتحمل صبغة تاريخية وتنوعًا وثراءً وانفتاحًا وتأثرًا وتأثيرًا يعكس الداخل والمحيط الشاسع من حولنا، وكل هذا ونحن ما زلنا في الجانب الشكلي من هذه الهوية ونلمس تنوعها وتعددها وانفتاحها، وأنها غير فقيرة الخيال، ولا هي أحادية أو نمطية مغلقة بل كل ما فيها يرحب بالتنوع وينشد الانفتاح.
إن شبه جزيرة العرب وهي أكبر شبه جزيرة في العالم تقع حرفيًا في أحضان البحر، فالبحر يمد ذراعيه عبر الخليج العربي شمالا والبحر الأحمر جنوبًا، فهي في عناق مع البحر، وهذا العناق رسم تاريخنا وختم مصيرنا بخاتمه، فهذا الموقع الجغرافي من الأرض فتح أفقي البحر والبر في نفس الوقت، فهو جعلنا في مواجهة البحر، وجعلنا كذلك في أرض علينا أن نزرعها وأن نسافر فيها، وبالتالي جعل سفننا وقوافلنا متصلة الأسفار، معتمدة على بعضها البعض في طرق التجارة القديمة، من طرق اللبان جنوبًا واللؤلؤ شمالًا إلى طرق البهارات والحرير وبضائع الصين والهند، غير بضائع إفريقيا من العاج والذهب، وكل ذلك كان يمر عبر صدر هذه الجزيرة العربية، وهذا ما يلخصه المؤرخ المعاصر حمد صراي بقوله: «هذا الموقع المتميز لشبه الجزيرة العربية جعلها في تفاعل مستمر مع الحضارات المجاورة عبر نشاطاتهم مع هذه المراكز الحضارية، حيث مثلت بلادهم محطة الاجتياز الرئيسية. وهذا الأمر أكد أن شبه الجزيرة العربية لم تكن في معزل عن العالم الخارجي وإنما عاشت تاريخًا طويلًا مليئًا بالأحداث شديد التفاعل». مثال العلاقات الحضارية بين الجزيرة وشرق إفريقيا
ما نتج عن ذلك التاريخ المتفاعل أن العرب انتشروا في بقاع الأرض من حولهم بل وقامت لهم ممالك عربية قديمة لا يزال صداها حيًا إلى يومنا كالفينيقيين الذين تعود حضارتهم إلى ٢٥٠٠ قبل الميلاد، والذين دلت الآثار على أن أصولهم تعود لشرق الجزيرة العربية والخليج العربي إلى بحر العرب وأن صور التي أسسها الفينيقيون في بحر المتوسط إنما هي تذكار لصور العمانية، وعثر المؤرخون والآثاريون على إشارات في أشعار الفينيقيين لما يعرف اليوم بين المؤرخين والآثاريين بحضارة أم النار قرب أبوظبي اليوم، وقد ترجم أحمد فرحات شعرهم في كتاب بعنوان «شعراء أم النار»، والتاريخ المعروف حتى الآن يعيد ذكر العرب بهذا الاسم إلى القرن الثامن قبل الميلاد أي عشرة قرون حتى يومنا وليس مجرد قرنين أو أقل كما قد نظن.
إن المكان فاعل أساسي لا يمكن إغفاله في تكون الهوية، كما أن التاريخ الذي يمثل البعد الزمني هو الآخر فاعل أساسي، وبفهم هذين الاثنين فهمًا كافيًا يمكننا الاقتراب من تحديد ملامح الهوية، وهي ليست هوية مغلقة بأي حال من الأحوال، أو هوية ينطلق تحديدها من مفاعلات الخوف والخشية والانكفاء والتراجع، بل بالعكس يجب أن ينطلق تحديدها من المعرفة الدقيقة التي تعزز الثقة والاطمئنان والانفتاح والمشاركة البشرية في صنع عالم أفضل لكل إنسان على هذه الكرة الأرضية.
كل ذلك يعيد ترتيب فهمنا لمن نكون وما هي هويتنا والتي هي هوية إنسانية أوسع بمراحل من الهوية الضيقة التي يسعى بعض معاصرينا لإغلاقها علينا، وهذه الهوية المفتوحة تتناغم مع أرضنا التي هي أرض مفتوحة على 3 جهات بحرية وبوابة برية للأرض جهة العرب عند ما يعرف بالهلال الخصيب. وهذا ما جعل أسلافنا يمتهنون التجارة والسفر بحرًا وبرًا ويبنون الموانئ والمدن والدول حتى خارج حدودهم الجغرافية المعروفة.
إن كل الحضارات الجنوبية القديمة في اليمن وحضرموت والممالك التي قامت في وسط وشمال الجزيرة العربية أثرت فينا بما أننا قبائل رحّالة. والحضارات القديمة كحضارة أم النار وحضارة العبيديين التي اكتشفت آثارها منذ عدة أعوام في الكويت والتي تعود لسبعة آلاف سنة قبل التاريخ، وشعب العبيديين هم الذين أسسوا سومر في بلاد الرافدين في الألفية الثالثة قبل الميلاد، والتي كانت لها علاقة وطيدة بمجان، ومن المعروف أن كل ذلك يشهد على المساهمات الفعّالة في بناء الحضارات من حولنا، وما زال أغلب آثارنا مدفونة ومجهولة.
إن كل ما قام من حولنا، وهذا وسط حضاري منذ الأزل، وهذا الوسط أثر بلا شك فينا وفي هويتنا وتصورنا للعالم، وكل ذلك عقد صلاتنا بالحضارات القديمة سواء حضارات بلاد الرافدين كما أشرنا، أو بالحضارة الفرعونية أو باليونانية والرومانية التي دونت الكثير عن الجزيرة والتي شكلت الجزيرة العربية في تصوراتها أرض الثراء والعطور كما نجده مدونًا في تلك المصادر من هيرودوتس فمن تلاه.
من المؤكد اليوم على الأقل لدى المؤرخين المعاصرين أن العربي كهوية وجنس معروف لدى المحيط الخارجي منذ القدم، وما نحن عليه هو ما شكّلنا وكوّننا، ونحن اليوم بوصفنا أبناء عصر المعرفة ومن موقعنا في الزمن تقع على عاتقنا مسؤولية الإنصاف التاريخي لماضينا بكل صدق وتجرد دون أن تعمينا العصبيات الضيقة والأيديولوجيات والأحلام الصغيرة التي لا تولد غير العداوات والحروب، وإذا كانت رغبة التفوق والتميز طبيعية في الإنسان فعلينا أن ننقلها لساحات الحضارة الخصبة بالعمران والفن والجمال والحب.
إبراهيم سعيد شاعر وكاتب عُماني
0 تعليق