«الشعبوي» .. خطاب منفلت عن عقال الموضوعية

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أتوقع أن الأمر ليس يسيرًا لإخضاع الـ«خطاب الشعبوي» لموازين الاختبار الدقيقة للحكم عليه إن كان خطابا مهمًا، أو غير مهم، وذلك لسبب وجيه؛ وهو أن هذا النوع من الخطاب أصبح ممارسا، ومتداولا على أوسع نطاق، يستخدمه الساسة الكبار، كما يستخدمه الفرد البسيط، سواء يتم ذلك عبر مؤسسات دولة، أو عبر مؤسسة صغيرة «أسرة» أو دائرة اجتماعية معينة، حيث ينبري لها أناس يمتلكون نوعا من الظواهر الصوتية، أو الجرأة المغالى في تطبيقها، أو القدرة على استحداث موضوعات، يظن أصحابها أنها ستحظى باهتمام قطاع كبير من الناس، والمهم في كل ذلك هو الاستحواذ على تأييد قطاع كبير وعريض من الجمهور غير المنظم، أو الجمهور غير الانتقائي، أو غير الفئوي لذات الفكرة التي يروج لها الخطاب، سواء استوعب هذا الجمهور حقيقة الرسالة الموجهة إليه، أو لم يستوعبها، فالمهم أنها أخذت طريقها نحو الانتشار، وتردد صداها عبر الأرجاء، ولعل في هذا الانتشار هو ما أعطى تصنيف المتلقين لها هذا المسمى «الشعبوي» لسهولة استثارته على أوسع نطاق - كما يعتقد - مع بقاء شرط أن تكون الرسالة ذات قيمة، وأن يكون لها عائد «رجع صدى» كما يطلق عليه في علم الصحافة، مع أن الجمهور المتوجه إليه بالرسالة جمهور فضفاض كما تشير إليه التسمية «شعبوي» مع أنني أشم في هذه التسمية «الشعبوي» رائحة الفوقية، والذهاب إلى تقسيم المجتمع الإنساني إلى طبقات: أحدها هي ما يطلق عليه الـ«شعبوية»، أو الـ«قطيع» وبذلك تتقوى الفئة النرجسية، وما يطلق عليها بـ«النخب» والتي تزاحمها اليوم عبر طابور طويل من المتخصصين في مختلف المجالات، والذين سحبوا البساط مما يطلق عليهم الـ«نخب» وهي كلها تسميات ليس لها قيمة ذات أثر جوهري على الصورة العامة في المجتمع، إلا بقدر ما يلبسه البعض عليها من التبجيل والتقدير، المغالى في تطبيقه، وفي استيعابه، وفي قبوله أيضا، فقد تحرر الفهم الاجتماعي من كثير من هذه المعيقات لتطور المجتمع، وانطلاقاته نحو الآفاق الأرحب من التعاون والتكاتف والتكامل، والتحلل شيئا فشيئا من الفئويات المعيقة للتقدم الاجتماعي، والحياة قائمة على التضاد منذ بدء الخليقة: فقير وغني، عاقل وفوضوي، جاهل وعالم، ذو خلق سيء، وآخر ذو خلق رفيع، أبيض وأسود، كريم وبخيل، متعاون وحاسد، ومع ذلك تقبل المجتمع هذا التفاوت الذي يمكن أن يكون فنيا، وليس موضوعيا، وفنيته هنا -هي مؤقتة- ففي لحظة ما يمكن أن يصبح الغني فقيرا، وبدلا من أن يشار إليه من أنه من تصنيفات النخب، يصبح من الشعبوية، وفق الفهم السائد أن الشعبوية قطاع عريض من أبناء المجتمع لا يجمعهم جامع سوى تلك المساحة المملوءة بالعبثية والازدراء، والفوضوية، وعدم الترتيب، وإلا فما هو مبرر هذه التسمية «الشعبوي» وهو تصغير لكلمة «الشعب» وهذه التسمية في حد ذاتها تسجل إخفاقا موضوعيا في قيمة الوعي الاجتماعي، الذي يفترض أن تكسبه تجربة الحياة الكثير من التميز، والتألق، والسمو، وليس العكس، وهو الابتذال والتراجع، أو التموضع على مجموعة من الصور النمطية التي توارثها عن الأجيال السابقة.

ينطلق الخطاب المسمى بـ«الشعبوي» من الحاضنة الاجتماعية التي غذته ورعته، وأصلته كممارسة، وإن لم يكن واضحا كمفهومه الحالي بـ«الخطاب الشعبوي» وانطلق من هذه القناعة «أثر الحاضنة الاجتماعية» أنها كانت، وإلى عهد قريب، يكثر فيها شيوع تصغير الأسماء على الأفراد، فبدلا من أن يقال عن فلان من الناس اسمه سالم، يسمى (سويلم)، وسعيد (سعيَّد)، وناصر (نُصَيِّر) وعبدالله (عُبَيِّدْ) وصالح (صويلح) والأمثلة كثيرة، قد يدافع البعض عن هذا التصغير على أنه للتحبب، أو للدلع، ولكن الحقيقة غير ذلك تماما، وإنما للتحقير، وإنزال فئات من الناس من أبناء المجتمع المنازل الدونية، وكأن الناس موكول إليهم إحداث تصنيفات وفق ما يهوون داخل محيط حاضنتهم الاجتماعية. وانطوت الفكرة ذاتها على الآخرين الذي يقيمون مستويات الخطابات المختلفة على أنها خطابات شعبوية، أي أنها غير ناضجة، وغير ذات قيمة معنوية أو فنية، والهدف منها تأجيج العاطفة الشعبية، سواء لتبنيها أو رفض موضوعها، مع القناعة بأنها سوف تنتشر بين أفراد هذه الفئة «الشعبوية» كما تنتشر النار في الهشيم، ومما يؤسف له أكثر اليوم أن هناك من أصحاب القرار، سواء على مستوى المؤسسات أو على مستوى الأنظمة السياسية، كما هو متداول اليوم عن تصريحات الرئيس الأمريكي الجديد بتطهير قطاع غزة من الفلسطينيين، وتهجيرهم إلى دول الشتات، يعمد هؤلاء كلهم إلى تبني هذا النوع من الخطاب «الشعبوي» ربما، بغية جس النبض، أو ربما لرسم سياسة معينة، حيث يتم تقييم مستويات ردود الفعل عن الموضوع المطروح، ومن ثم رسم سياسات معينة.

ولأن الفهم السائد في الذاكرة الاجتماعية أن هناك تصنيفات للمجتمع (شعبوي/ نخب) فإن النخب لا تحتاج إلى استثارتها لمعرفة رأيها في ذات الموضوع، أولا: لأنها قليلة ومحدود، ويمكن مخاطبتها رسميا، وثانيا: لأنها لا تخرج كثيرا عن رسم سياسات صناع القرار، فهي ملتحمة بهم التحاما معبرا عن قوة النصرة والمؤازرة -تبقى فقط- إشكالية هذه «الشعبوية» التي ليس يسيرا احتواؤها، وفق سياسة معينة، وبالتالي فلا بد لها من هذا النوع من الخطابات المثيرة للجدل، ثم مراقبة الأخذ والرد، وشيوع الفوضى الكلامية بما يسمى بـ«الظاهرة الكلامية» وصولا إلى الخروج من خلال ردات فعلها «الصوتي» والتي تمثل مقياس القبول أو الرفض للفكرة، حتى يتم بعد ذلك وضع قراءات للمشهد، ثم وضع الخطط والبرامج، أو التوقف عند هذه المرحلة، وهي مرحلة بث الخطاب الشعبوي، وفقط، والنظر في وسائل أخرى، ذات قيمة وفاعلية أكثر، إذا لزم الأمر، ومعنى هذا أن مآلات الخطابات الشعبوية هي لجس النبض إولا.

غالبا -وإلى عهد قريب- يستخدم هذا النوع من الخطابات أصحاب الحملات الدعائية سواء الانتخابية، أو الترويج للمنتجات، أو للتصويت على الموضوعات السياسية كموضوعات انفصال جزء من الجغرافيا عن جغرافية الدولة الأم، ولذلك ينظر إليه اليوم على أنه أداة قديمة، سيتراجع تأثيرها شيئا فشيئا مع تقدم أدوات التوصل الاجتماعي، التي تحل اليوم لتكمل مهمة الحاضنة الاجتماعية في تأصيل الـ«خطاب الشعبوي» كمفهوم وممارسة؛ لأن هذه الأدوات الحديثة لا تتطلب من صاحب الرسالة أن يقف أمام جمهور عام ليلهب آذان السامعين له بعباراته المنمقة، ويستدر عاطفتهم المتأججة مما يسمعونه منه في لحظة الانفعال، حيث يكفي أن يرسل فكرته التي لا تتجاوز جملة واحدة أو جملتين عبر إحدى هذه الوسائل لتأتيه مجموعة كثيرة من ردود الأفعال، والتي قد تصل إلى مستويات فيما يطلق عليه بـ«الترند» دون حتى أن يعرف هوية هذا المرسل، وجغرافيته، ولأن هذه الوسائل متاحة للجميع بدءا من الفرد الذي لا يشكل أهمية خارج إطار الرسمية، مرورا بما يطلق عليهم النخب، وصولا إلى صانع القرار في النظام السياسي، فإن الأمر لا يستلزم أن يصنف الخطاب على أنه شعبوي أو غير شعبوي، ولأن الأمر كذلك، فهل يجوز عندها أن يطلق على هذه السلسلة البشرية مصطلح الـ«شعبوية»؟ وهل للشعبوية المنفلتة من عقال الموضوعية مكان اليوم في ظل التجربة المعرفية المكتسبة؟ وماذا عن أدوات الوعي المختلفة التي تتوارد عبر هذه الوسائل، وغيرها المتاح من التواصل المباشر؛ أليس ذلك كله يشفع لأن تزال صفة الشعبوية عن المتلقي، وإعطاؤه المكانة والأهمية لأن يشار إليه بـ «خطاب الشعب»؟ بمعنى أن هناك تبدلا في المفاهيم، حيث لم يكن اليوم حاضرا على صفحة المجتمع بما يسمى بـ «الخطاب الشعبوي» حيث تحضر الانتقائية والتبصر، وتفنيد الحق من الباطل والغث من السمين، وهذا الأمر يقابله - كما يفترض - تبدل في المفاهيم، وفي التسميات.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفـي عماني

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق