إسرائيل، ترامب، واتفاق غزة

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
عاموس هرئيل* - (إندبندنت عربية) 6/2/2025
رحب إسرائيليون كثر باتفاق وقف إطلاق النار في غزة، لكن الأيام المقبلة ستختبر صموده وتماسك الحكومة الإسرائيلية.اضافة اعلان
***
في الأيام التي أعقبت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة في 19 كانون الثاني (يناير)، غرق كثير من الإسرائيليين في موجة من المشاعر تكاد تضاهي في شدتها وقع الصدمة التي نجمت عن هجوم "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وكان الفرق هذه المرة، بطبيعة الحال، هو أن هذه الموجة ليست وليدة الحزن والرعب، وإنما وليدة الفرح وإمكانية بزوغ الأمل للمرة الأولى منذ أكثر من 15 شهراً. وبدأ الاتفاق الهش يتعرض لضغوط كبيرة، وقد ينهار في الأسابيع المقبلة. ومع ذلك، توقف القتال في الوقت الحالي في كل من غزة ولبنان، وبدأ الرهائن في العودة إلى منازلهم. ومثلما يتضح من موجات التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الصحافة الإسرائيلية، فإن الغالبية العظمى من الإسرائيليين رحبت بالاتفاق باعتباره سبباً للاحتفال، حتى أولئك الذين عارضوه لأسباب استراتيجية أو أيديولوجية.
لكن رد الفعل الساحق لا يتعلق أساساً بالسلام، بل يدور بصورة أكبر حول ما يعنيه هذا الاتفاق بالنسبة للهوية الإسرائيلية التي تعاني أزمة شديدة. والقضية الأساسية للإسرائيليين، التي قد لا يدركها المراقبون الخارجيون تماماً، هي أن إسرائيل منذ تأسيسها في العام 1948، بعد ثلاثة أعوام من نهاية الهولوكوست، عرّفت نفسها بأنها ملاذ آمن لليهود. وعلى مدى أكثر من 70 عاماً، وعلى الرغم من الحروب الكبرى والتحديات المتكررة، كانت قادرة على الحفاظ على هذه الفكرة الأساسية. إلا أن هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) كسرت هذه الصورة. فقد تلاشى الاعتقاد بأن الجيش والجهات الأمنية ستصل دائماً في الوقت المناسب لإنقاذ اليهود من الخطر. وبالنسبة للعديد من الإسرائيليين، استمر هذا الفشل طوال مدة الحرب التي دامت لما يزيد على 15 شهراً، أثبتت خلالها الحكومة عجزها عن إنقاذ أو إعادة عدد كبير من الرهائن الـ251، من الإسرائيليين والأجانب، الذين اقتيدوا إلى غزة.
والآن، بدأت إسرائيل أخيراً في ترميم هذه الصورة المحطمة. عند وقف إطلاق النار، كان هناك 97 رهينة إسرائيلية بين مدنيين وجنود، يُعتقد أن قرابة نصفهم ما يزالون على قيد الحياة. وتم إطلاق سراح سبعة منهم حتى كتابة هذه السطور، جميعهم من النساء، ومن المتوقع تحرير 26 رهينة أخرى في مجموعات صغيرة خلال الأسابيع الأربعة والنصف المقبلة. وبالنسبة لكثير من الإسرائيليين، لن تتمكن الحكومة والأجهزة الأمنية من التكفير عن الأخطاء التي سمحت بحدوث هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، لكن اتفاق الرهائن أعاد الأمل للمرة الأولى منذ بدء الحرب في استعادة فكرة الملاذ الآمن -ولو جزئياً.
مع ذلك، يأتي الاتفاق بكلفة باهظة، ومن غير الواضح إلى متى قد يصمد. ففي مقابل أول 33 رهينة، وافقت إسرائيل على الإفراج عن نحو 1.700 أسير فلسطيني، بينهم أكثر من 200 يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد بتهمة قتل إسرائيليين. وهذه ليست سوى الجولة الأولى من التنازلات. وبمجرد الانتهاء من "المرحلة الأولى"، سيظل هناك 64 رهينة في غزة، يعتقد أن أقل من 30 منهم على قيد الحياة. وسيتطلب الإفراج عنهم تحرير آلاف الأسرى الفلسطينيين الإضافيين، بمن فيهم كثيرون من الذين صدرت بحقهم أحكام عدة بالسجن المؤبد. وسوف يشمل المفرج عنهم أيضاً سجناء ينظر إليهم الإسرائيليون باعتبارهم "نجوم الإرهاب"، وهم شخصيات بارزة في الجماعات الفلسطينية المسلحة مسؤولة عن تدبير التفجيرات الانتحارية التي أوقعت أعداداً كبيرة من الضحايا في التسعينيات والعقد الأول من هذا القرن، علماً أن هؤلاء السجناء لم توافق أي حكومة إسرائيلية سابقة على إطلاق سراحهم.
بالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يمثل كل ذلك معضلة كبيرة. فهو يحتاج إلى شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف للبقاء في السلطة، لكنهم يعارضون وقف إطلاق النار بشدة. وعلى النقيض من غالبية كبيرة من الشعب الإسرائيلي، يطالبون باستئناف الحرب فوراً وإلا فسيستقيلون. وإذا أجريت انتخابات جديدة اليوم، فمن المرجح أن يخسر نتنياهو. وفي الوقت نفسه، على رئيس الوزراء أن يتعامل الآن أيضاً مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يمارس ضغوطاً هائلة لإنجاز الأمور على طريقته ويقول إنه لن يتسامح مع استمرار الحرب في عهده. 
سيكون ما يحدث بعد ذلك رهناً في المقام الأول بالرئيس الأميركي. فالإدارة القادمة لديها خطط كبيرة. وعلى مدى أشهر، تحدث مساعدو ترامب ومستشاروه عن الترتيبات الإقليمية التي يريد تنفيذها. ويبدو أن هدفه الرئيس هو إبرام صفقات بمليارات الدولارات في مجال التكنولوجيا والدفاع بين الولايات المتحدة والسعودية. وستكون الخطوة المصاحبة لذلك هي صفقة تطبيع إسرائيلية - سعودية كبرى، مشابهة لتلك التي حاولت إدارة بايدن تمريرها في خريف العام 2023 (ذهب قادة "حماس" في وقت لاحق إلى أن إحباط هذا الاتفاق كان أحد دوافعهم لشن هجمات السابع من تشرين الأول/ أكتوبر). وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، سيحتاج ترامب إلى استمرار وقف إطلاق النار في كل من غزة ولبنان لأطول فترة ممكنة، بغض النظر عما إذا كان الطرفان مهتمين حقاً بالسلام أم لا.
حرب سارت خطأ
كان المسار الذي أدى إلى وقف إطلاق النار في غزة طويلاً جداً حتى كاد يضاهي مدة الحرب نفسها. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، وبعدما خلص قادة "حماس" إلى أن العدد الكبير من النساء والأطفال الذين اختطفوهم يشكلون عبئاً يثقل كاهلهم أكثر من كونهم مكسباً استراتيجياً، تفاوضوا على أول اتفاق لوقف إطلاق النار مقابل صفقة لتبادل الرهائن مع إسرائيل، بوساطة مصر وقطر والولايات المتحدة. وفي ذلك الوقت، سارعت "حماس" إلى تسليم هؤلاء الرهائن مقابل مكسب ضئيل مقارنة بصفقات سابقة مماثلة، حيث أفرج عن ثلاثة أسرى فلسطينيين، معظمهم من النساء والقصر، مقابل كل رهينة إسرائيلية.
من الناحية النظرية، كان من المفترض أن تؤدي المرحلة الأولى من تبادل الأسرى بعد سبعة أيام إلى مرحلة ثانية، يجري خلالها تمديد وقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن المتبقين تدريجاً مقابل الحصول على مكاسب أكبر من إسرائيل. لكن المفاوضات تعثرت في اليوم السابع. وخلافاً لتوقعات الوسطاء، استؤنف القتال، وأعاد جيش الدفاع الإسرائيلي إطلاق غزوه البري الواسع في وسط غزة. وسرعان ما توسعت هذه الحملة لتشمل المناطق الجنوبية من القطاع.
في الأشهر التالية، وعلى الرغم من الجهود المتكررة، انهارت المفاوضات الرامية إلى التوصل إلى اتفاق جديد. وبحلول أيار (مايو) 2024، كانت إدارة بايدن محبطة للغاية من عدم إحراز الحكومة الإسرائيلية أي تقدم، وهو ما دفع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى اتخاذ خطوة غير مسبوقة بالإعلان عن اتفاق وقف لإطلاق النار مقابل صفقة الرهائن، قال إن إسرائيل وافقت عليه سراً. لكن نتنياهو رفضه (في الواقع، كان هذا الاتفاق بشكل أساسي هو نفسه الذي وافقت عليه إسرائيل الآن). ومع ذلك، طوال عامه الأخير في منصبه وفر بايدن عموماً غطاء لنتنياهو، ملقياً باللوم في تعثر المفاوضات على "حماس".
لكن العديد من أعضاء فريق التفاوض الإسرائيلي كانوا يدركون الحقيقة. وقد لاحظوا أن نتنياهو كان يفشل المحادثات عمداً كلما اقتربت من النجاح، لأنه كان يخشى أن يستقيل شريكان في الائتلاف اليميني المتطرف؛ الوزيران بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، إذا نفذ الاتفاق. وفي حال انهارت الحكومة، كان نتنياهو نفسه سيواجه خطراً قانونياً متعاظماً في قضايا الفساد الثلاث المرفوعة ضده. وهكذا، من خلال المماطلة المستمرة في التوصل إلى اتفاق، بدا أن رئيس الوزراء يعطي الأولوية لبقائه السياسي والشخصي على حساب إعادة الرهائن إلى ديارهم.
وفي الوقت نفسه، أدى فشل الحكومة المستمر في التوصل إلى اتفاق إلى تصاعد الغضب والاستنكار بين فئات واسعة من الجمهور الإسرائيلي، بقيادة عائلات الرهائن. في تل أبيب، تجمع عشرات الآلاف من الأشخاص في احتجاجات أسبوعية، وجرى تغيير اسم ساحة رئيسة قرب مقر جيش الدفاع الإسرائيلي إلى "ساحة الرهائن". وأغلقت عائلات الرهائن والنشطاء في الاحتجاجات الطرق الرئيسة بصورة متكررة. وفي كل دائرة من دوائر المجتمع الإسرائيلي تقريباً، ظهرت مبادرات احتجاج رمزية وأقل تصادمية، مثل عرض كراس بلاستيكية فارغة، وأشرطة صفراء، وملصقات تحمل صوراً ضخمة للرهائن مع عبارة: "ماذا لو كانت ابنتك؟". وأصبحت وجوه الرهائن وقصصهم الشخصية مألوفة في كل بيت إسرائيلي تقريباً، حيث تبنى كثيرون قضية رهينة معينة للدفاع عنها. وكان ما أسهم في زيادة إحباط الشعب هو اللامبالاة الواضحة من الحكومة تجاه الرهائن، على الرغم من السيطرة العسكرية شبه الكاملة لجيش الدفاع الإسرائيلي على غزة، وحقيقة أن العديد من الرهائن كانوا محتجزين على بعد بضعة كيلومترات من مواقع الجيش.
على مدار فترة الحرب بأكملها، لم ينجح الجيش سوى في إنقاذ ثماني رهائن من غزة، أي ما يعادل تقريباً ثلاثة في المائة فحسب من العدد الإجمالي. وفي الوقت نفسه، عثر على عشرات الرهائن الآخرين مقتولين، كان الفلسطينيون قد خبأوهم في مواقع مختلفة داخل القطاع. وتعد هذه النتائج ضعيفة وصادمة للغاية بالنسبة لدولة كثيراً ما افتخرت بعمليات الإنقاذ الجريئة التي نفذتها. ولنأخذ على سبيل المثال عملية عنتيبي في العام 1976، الغارة التي نفذتها قوات الكوماندوز الإسرائيلية في أوغندا وأنقذت 102 من أصل 106 رهائن احتجزهم مسلحون فلسطينيون، وهي العملية التي قتل فيها شقيق رئيس الوزراء، المقدم يوناتان نتنياهو. ومنذ ذلك الحين، تفاقمت الأخطار المرتبطة بمثل هذه العمليات، سواء على نخبة قوات الإنقاذ الإسرائيلية أو على الرهائن أنفسهم.
مع استمرار الحرب في غزة من دون التوصل إلى اتفاق، تضاءل الأمل في إنقاذ الرهائن أكثر. ففي حزيران (يونيو) 2024، وبعدما أنقذت القوات الإسرائيلية أربع رهائن من مخيم النصيرات للاجئين في وسط غزة، غيرت "حماس" تعليماتها لحراس الرهائن: إذا رصدوا أي نشاط عسكري إسرائيلي في جوارهم، طلب منهم إعدام الرهائن للحيلولة دون تحريرهم. وبعد شهرين، حدثت هذه المأساة بالفعل، عندما أقدم خاطفو ستة مدنيين إسرائيليين على قتل الرهائن بعد سماع حركة مركبات مدرعة إسرائيلية فوقهم. وكان من بين الضحايا هيرش غولدبرغ بولين، الشاب الإسرائيلي الأميركي الذي أثارت جهود عائلته الحثيثة لإطلاق سراحه ردود فعل واسعة في إسرائيل والعالم الغربي. وكان من الصعب على كثير من الإسرائيليين ألا يعتبروا ذلك نتيجة حرب فاشلة.
بين ترامب والمأزق الصعب
إذا كان وقف إطلاق النار في 19 كانون الثاني (يناير) يؤشر على منعطف محتمل، فإن أزمة الثقة التي تعيشها إسرائيل ما تزال بعيدة كل البعد من الإصلاح. فالمجتمع الإسرائيلي يشوبه انقسام حاد، وشخصية نتنياهو المثيرة للجدل ستعقد عملية إعادة بناء الثقة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن عدم قدرة الحكومة على الوفاء بوعدها بتحقيق "نصر كامل" على "حماس"، على الرغم من التفوق العسكري الساحق للجيش الإسرائيلي في الميدان، ورفض نتنياهو السماح بإجراء تحقيق مستقل في الإخفاقات التي أدت إلى أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، يشكلان عقبة كبيرة أمام أي مصالحة وطنية.
في سبيل اتفاق وقف إطلاق النار، قدمت الحكومة تنازلات كبيرة أخرى. فقد انسحب جيش الدفاع الإسرائيلي من الممر الأمني الذي أنشأه في وسط غزة لفصل الشمال عن الجنوب. كما التزم بالانسحاب من الممر الذي يعرف بـ"محور فيلادلفيا" على طول الحدود الجنوبية لقطاع غزة مع مصر، قرب رفح، في الأسبوع السابع من وقف إطلاق النار. ومن شبه المؤكد أن إسرائيل ستصر على الاحتفاظ بصورة من صور الوجود العسكري في ما تسميه "الحيز الأمني"، وهو منطقة عازلة تمتد نحو كيلومتر واحد وراء السياج الحدودي داخل الأراضي الفلسطينية على طول الحدود كلها.
هذه التنازلات، إلى جانب الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، أثارت انتقادات حادة -ليس من الأحزاب اليمينية المتطرفة فحسب، بل أيضاً من أنصار نتنياهو الأساسيين. ولنأخذ على سبيل المثال القناة 14، الشبكة التلفزيونية المؤيدة لنتنياهو التي تجمع بين أسلوبي "فوكس نيوز" و"نيوز ماكس". طوال الحرب، تحاشت القناة كل ما من شأنه طرح الأسئلة حول مسؤولية رئيس الوزراء عن الإخفاقات الأمنية الكارثية في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وبررت كل قرار اتخذه منذ ذلك الحين. لكن واقع وقف إطلاق النار والتنازلات غير المسبوقة التي تضمنها قلب سردية القناة 14 رأساً على عقب. واستبدل الترويج المعتاد للدعاية الداعمة للحكومة، بسجال لاهوتي بين الموالين لنتنياهو وأولئك الذين أصبحوا فجأة من المنتقدين له. واعترف أحد الصحفيين: "لو كان هذا اتفاقاً أبرمه يائير لبيد لكنت قد عارضته. ولكن، بما أن نتنياهو هو الذي أبرمه، فأنا أؤيده". بينما كان آخرون من اليمين أكثر صراحة، واصفين الاتفاق بأنه "استسلام مُخزٍ".
لا شك في أن العامل الرئيس في هذا الواقع الجديد هو ترامب. كان ما تغير بين تموز (يوليو) 2024، عندما رفضت إسرائيل اتفاق وقف إطلاق النار، وكانون الثاني (يناير)، عندما قبلت بالاتفاق نفسه تقريباً، هو ببساطة فوز ترامب في الانتخابات واستعداده لتولي منصبه. وخلافاً لأنصاره المتشددين، فهم نتنياهو تداعيات هذا التحول بالنسبة لإسرائيل على الفور. منذ الانتخابات الأميركية، جرت مناقشات محمومة بين مساعدي ترامب ونتنياهو. وأرسل رون ديرمر، الوزير الإسرائيلي، وهو أقرب المقربين إلى نتنياهو، وصلة الوصل الرئيسية بينه وبين الإدارات الجمهورية، مرات عدة إلى واشنطن وإلى منتجع ترامب في مارالاغو.
في حين احتفل أنصار نتنياهو بتعيين حلفاء إسرائيليين يمينيين أقوياء في مناصب أميركية رفيعة، لاحظ نتنياهو وديرمر أن لترامب أولويات مختلفة. أدركا أن العديد من مستشاري ترامب يتبنون أيضاً توجهات انعزالية وينظرون بعين الشك إلى التدخلات العسكرية. وصرح الرئيس نفسه مراراً وتكراراً، قبل وبعد انتخابه، أنه خلافاً للادعاءات، يعتزم إنهاء الحروب وليس إشعال حروب جديدة.
في حالة إسرائيل، كان الهدف الفوري لترامب هو وقف الحرب في غزة كجزء من صفقة تبادل الرهائن. ومع اقتراب يوم التنصيب، أكد ترامب مراراً أهمية هذه المسألة، بل وهدد "بفتح أبواب الجحيم" إذا لم ينفذ طلبه. وفي إسرائيل، فسر كثر هذا التهديد على أنه موجه إلى "حماس"، أو ربما بدرجة أكبر إلى مصر وقطر؛ الوسيطين في المفاوضات. لكن نتنياهو ربما فهم الأمر أيضاً على أنه رسالة موجهة إليه.
في أواخر كانون الأول (ديسمبر)، توصل ترامب وبايدن إلى تفاهم غير معتاد بشأن غزة: ستعمل كلتا الإدارتين معاً لتحقيق وقف إطلاق النار بحلول 20 كانون الثاني (يناير). في تلك المرحلة، استؤنفت المفاوضات المكثفة في الدوحة، قطر، بين وفد إسرائيلي وممثلي الوسطاء، وبصورة منفصلة مع قيادة "حماس" في الخارج. وفي خطوة استثنائية تختلف عن البروتوكول المعتاد لإدارة لم تتولَّ السلطة بعد، انضم إلى المحادثات ستيف ويتكوف، مبعوث ترامب المعين إلى الشرق الأوسط وزميله العملاق في مجال العقارات في نيويورك. وعلى الرغم من عدم امتلاكه أي خلفية مهنية في شؤون الشرق الأوسط، أظهر ويتكوف مهارة في إبرام الصفقات، وأفاد مشاركون إسرائيليون بأنه بمجرد دخوله إلى الغرفة، اكتسبت المفاوضات زخماً. 
ثم، يوم الجمعة، 10 كانون الثاني (يناير)، حدث أمر استثنائي. اتصل ويتكوف من الدوحة وطلب اجتماعاً عاجلاً صباح السبت مع نتنياهو في القدس. ونتنياهو، الذي يتعافى من جراحة البروستات، نادراً ما يعقد اجتماعات يوم السبت وحاول تأجيل اللقاء إلى مساء ذلك اليوم. لكن ويتكوف أصر، ولم يتمكن نتنياهو من التملص منه. ووصفت المصادر الإسرائيلية اجتماعهما بعبارات مبالغ فيها، وشبهته بمشاهد من فيلم "العراب". في تلك الليلة، أعطى نتنياهو الإذن لكبار المسؤولين، رئيس الموساد ديفيد برنياع ومدير الشاباك رونين بار ومسؤول ملف الأسرى والمفقودين في الجيش الإسرائيلي اللواء نيتسان ألون، للسفر إلى قطر للمرة الأولى منذ أشهر. وهذه المرة، منحهم تفويضاً أوسع للمفاوضات. وبعد ثمانية أيام، جرى توقيع الاتفاق، ودخل حيز التنفيذ قبل يوم واحد من تنصيب ترامب.
على الرغم من التنازلات الكبيرة التي انطوى عليها الاتفاق، لم يناقشه نتنياهو بصورة علنية مع الشعب الإسرائيلي حتى الآن. بدلاً من ذلك، استمر في إرسال رسائل متضاربة إلى جماهير مختلفة. كثيراً ما كانت سياسة نتنياهو طويلة الأمد حصيلة جميع مخاوفه. وهذه المرة، كان ممزقاً بين ضغوط ترامب وتهديدات اليمين المتطرف بتفكيك حكومته. وبحلول أواخر كانون الثاني (يناير)، بدا أن خوفه من ترامب هو الذي غلب، لكن الأمر لم ينتهِ بعد. فعلى الرغم من استقالة بن غفير من الحكومة احتجاجاً على الاتفاق، وإعلان سموتريتش أنه سينتظر حتى اكتمال المرحلة الأولى منه، إلا أن كليهما أشار إلى أنهما قد يعودان إلى الائتلاف إذا أوقف نتنياهو تنفيذ الاتفاق واستأنف الحرب.
في اليوم التالي لدخول الاتفاق حيز التنفيذ، قال سموتريتش في مقابلة إذاعية إن بايدن سلم نتنياهو رسالة تسمح لإسرائيل باستئناف الأعمال العدائية في اليوم الـ43 من الاتفاق (أي بعد انتهاء مدة الأسابيع الستة أو المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار) إذا فشلت مفاوضات المرحلة الثانية. ووصف الصحفي الإسرائيلي أمير تيبون الموقف بصراحة، فقال "إن نتنياهو يخدع ترامب ويستعد لتخريب اتفاق وقف إطلاق النار". وتوقع تيبون طريقتين يمكن لنتنياهو اتباعهما لتحقيق ذلك: إما عن طريق تأخير مفاوضات المرحلة الثانية حتى ينفد الوقت، أو من خلال إشعال تصعيد عنيف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية. وبالفعل، بدأ الناشطون الإسرائيليون من اليمين المتطرف يخربون قرى الضفة الغربية، ويحرقون الممتلكات احتجاجاً على إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، بينما يستعد جهاز الشاباك لاحتمال وقوع هجمات إرهابية ينفذها ناشطون من اليمين المتطرف يسعون إلى إفشال الاتفاق. وزاد وزير الدفاع، يسرائيل كاتس، الذي ينظر إليه على أنه دمية في يد نتنياهو ويأتمر بأمره، من تأجيج التوترات بإعلانه إطلاق سراح العديد من المستوطنين اليمينيين المتطرفين من الاعتقال الإداري.
ويرى ديفيد ماكوفسكي المحلل في معهد "واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" والمراقب المخضرم لشؤون نتنياهو أن رئيس الوزراء سيحاول إيجاد حل وسط. ويقول ماكوفسكي "سيحاول نتنياهو إقناع ترامب بمنحه بضعة أسابيع أو أشهر إضافية لاستكمال العملية العسكرية ضد ’حماس‘، ثم سيعول على انشغال الرئيس المنتخب بمسائل أخرى".
جمر تحت الرماد
في 19 كانون الثاني (يناير)، حاولت "حماس" استغلال إطلاق سراح أول ثلاث رهائن؛ رومي جونين، وإميلي دماري، ودورون شتاينبريشر، لإظهار قوتها مرة أخرى. وظهر العشرات من عناصر جناحها العسكري، مسلحين ومقنعين، أمام الكاميرات في وسط مدينة غزة، وهي منطقة نادراً ما شوهدوا فيها منذ وقف إطلاق النار السابق بسبب ضربات الجيش الإسرائيلي. وتجمع حولهم حشد مضطرب ومتململ. واندفع السكان الفلسطينيون نحو المركبة التي كانت تنقل الرهائن إلى موظفي الصليب الأحمر، بل وحاول بعضهم الوصول إلى السيارة بالقوة. ولوح مسلحو "حماس" بأسلحتهم لإبعادهم، مما خلق حالة من الفوضى في المكان. ومع تحرك الكاميرات قليلاً إلى الخلف، اتضحت حدود قدرات "حماس"، إذ لم يتجمع سوى بضع مئات من المواطنين في المنطقة، بينما كانت الكثير من المباني المحيطة مدمرة. بعكس وعود نتنياهو، لم ينجح الجيش الإسرائيلي في القضاء على "حماس" في غزة، وما تزال الحركة تحتفظ ببعض مهامها المدنية وقدراتها العسكرية، على الرغم من الضربات الشديدة التي تلقتها خلال الحرب. ويرتبط ذلك على الأرجح برفض رئيس الوزراء المطلق لمناقشة أي خطط متعلقة بمرحلة "اليوم التالي" في غزة، وحظره التام لصياغة أي حلول من شأنها أن تشمل السلطة الفلسطينية، التي تحكم المدن في الضفة الغربية. 
في الوقت نفسه، أصبحت غزة في حالة خراب، إذ أصبح ما لا يقل عن 70 في المائة من المنازل غير صالح للسكن، والثمن الذي دفعه الفلسطينيون كان باهظاً. ووفقاً لوزارة الصحة الفلسطينية التي تسيطر عليها "حماس"، لقي أكثر من 47 ألفاً من سكان غزة مصرعهم في الحرب، ومن المرجح أن يكون الرقم النهائي الفعلي أعلى بكثير؛ حيث ما يزال عدد من الجثث مدفوناً تحت الأنقاض (وزارة الصحة الفلسطينية لا تميز بين المدنيين والمقاتلين. وتشير التقديرات الإسرائيلية إلى أن ما يصل إلى 20 ألف مقاتل من "حماس" قد قتلوا).
إذا لم ينهر الاتفاق الحالي، فقد يعبد الطريق أمام بقاء حركة "حماس" على الرغم من الضعف الذي ألم بها، واستعادة السيطرة بسرعة على غزة. لكن نتنياهو، تحت تهديدات ترامب، ليس الوحيد الذي خفف من حدة موقفه أخيراً. لقد أرهقت الحرب الطويلة سكان غزة بالكامل حيث نزح ما يقارب 90 في المائة منهم من منازلهم واضطروا إلى العيش في مخيمات مؤقتة في الجزء الجنوبي من القطاع. وقد انقطعت المساعدات الإنسانية والطبية عن بعض السكان بصورة شبه كاملة لأشهر عدة.
وتواجه "حماس" أيضاً تراجعاً كبيراً في الدعم الخارجي. فقد تعرض حليفها الإقليمي "حزب الله"، لهزيمة ساحقة في حربه مع الجيش الإسرائيلي في الخريف الماضي. وواجهت إيران؛ الراعي الرئيس لـ"حماس"، انتكاسات كبيرة، بما في ذلك غارة جوية إسرائيلية عنيفة في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 2024. وجاءت ضربة أخرى لـ"محور المقاومة" الإيراني مع انهيار نظام الرئيس بشار الأسد في سورية في كانون الأول (ديسمبر). ونتيجة لذلك، وجدت "حماس" نفسها بحلول كانون الثاني (يناير) معزولة تقريباً ولم يكن أمامها خيار سوى تقديم التنازلات، لكن ما يبقى غير واضح هو إلى متى سيستمر هذا التوازن النادر بين الأولويات والضغوط.
محاسبة اليمين
نظراً إلى أن الخطط التي أعدها البيت الأبيض للمنطقة على المحك، فمن غير المرجح أن تقف إدارة ترامب مكتوفة اليدين، بينما يحاول اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو إفشال اتفاق وقف إطلاق النار. وبالفعل، بدأت قائمة رغبات ترامب تتضح: هدوء طويل الأمد في غزة، واتفاق مع السعودية، وتطبيع، وإذا أمكن، صفقة لإزالة التهديد النووي الإيراني. وسوف يجدد ترامب سياسة "الضغط الأقصى" على طهران، التي تواصل التقدم في برنامجها النووي على الرغم من الضربات التي تعرضت لها. ولكن في الوقت الحالي، يبدو من غير المرجح أن يدعم ترامب ضربة استباقية على المنشآت النووية الإيرانية، مثلما كان يأمل البعض في حكومة نتنياهو بشدة.
بدلاً من ذلك، من المرجح أن يسعى ترامب إلى الاستفادة من تنسيقه الوثيق مع نتنياهو، وربما تزويد سلاح الجو الإسرائيلي بالذخائر الدقيقة من أجل تحذير الإيرانيين وإبلاغهم بأنه من الأفضل لهم تقديم التنازلات والتوقيع على اتفاق نووي جديد، حتى لو كان أكثر قسوة بكثير من الاتفاق الذي توصلوا إليه مع الرئيس باراك أوباما في العام 2015. ومن المرجح أن يكون وراء تحرك ترامب دافع آخر يرتبط بطبيعته التنافسية وازدرائه لأسطورة أوباما. وتزعم مصادر في واشنطن أن ترامب يسعى إلى الفوز بجائزة نوبل للسلام في عامه الأول من ولايته الثانية كرئيس. ويبدو أن الطريق إلى هذه الجائزة يمر عبر القدس والرياض وطهران وليس عبر اتفاق سلام بين روسيا وأوكرانيا.
سوف يتعثر اليمين المتطرف في قبول إحدى ركائز الإطار الناشئ الذي يسعى ترامب إلى إرسائه، وهي إنهاء الحرب في غزة. وإذا مضى نتنياهو قدماً في تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، بما في ذلك الانسحاب الكامل من القطاع، فمن المرجح أن تسقط حكومته. وحتى إذا نجت بطريقة أو بأخرى، بأعجوبة، لبضعة أسابيع إضافية حتى نهاية آذار (مارس)، فمن المحتمل أن تنهار عند هذه النقطة بسبب أزمة سياسية متفاقمة بشأن الجهود الرامية إلى إعفاء جميع الرجال اليهود الأرثوذكس المتزمتين دينياً (الحريديم) من الخدمة العسكرية الإلزامية. ومن الناحية النظرية، قد يقرر نتنياهو التحول سياسياً نحو التيار الوسطي المعتدل في إسرائيل، والاستفادة من نجاح ترامب، والإعلان عن أنه وحده القادر على تحقيق اتفاقات تاريخية، فيما يحافظ في الوقت نفسه على أمن إسرائيل. وسيضطر نتنياهو إلى كل هذا في حين تستمر محاكمته بتهمة الفساد إلى جانب تهديد آخر يلوح في الأفق، وهو حملة تشنها عائلات الجنود الذين قتلوا في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) للمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق مستقلة للتدقيق في أسباب فشل الحكومة في منع المجزرة.
زعم عيران هالبرين؛ المتخصص في علم النفس السياسي في الجامعة العبرية في القدس، على نحو مقنع، أن السبب الحقيقي وراء معارضة اليمين المتطرف الإسرائيلي إنهاء الحرب في غزة ليس سياسياً أو أيديولوجياً. وكتب: "الدافع الحقيقي وراء محاولة إفشال الاتفاق هو القلق من أنه قد يحطم الرابط الأساسي بين استخدام القوة العسكرية غير المحدودة المنفلتة من كل عقال والقدرة على توفير الأمن لمواطني إسرائيل". وبعبارة أخرى، فإن إنهاء الحرب سيجبر الإسرائيليين في نهاية المطاف على الاعتراف بأن حكومة نتنياهو اليمينية فشلت فشلاً ذريعاً في الحيلولة دون هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) أو هزيمة المجموعة التي ارتكبته، على الرغم من الحرب الدموية التي استمرت 15 شهراً.
على مدى الأعوام الخمسة الماضية، تحمل الإسرائيليون جائحة كورونا، وخمس دورات انتخابية، ومحاولة تمرير إصلاحات قضائية شديدة التطرف، وحرباً بدأت بمجزرة مروعة وتمددت إلى ساحات عدة في وقت واحد. وتشير كل المؤشرات إلى أن العام المقبل لن يكون أكثر هدوءاً. ولكن خلال هذه الفترة، قد يتكشف مصير غزة، لا بل أيضاً طبيعة الدور الذي ستلعبه إسرائيل في الشرق الأوسط الجديد الذي يتصوره الرئيس الأميركي القادم، حتى وإن كان هذا التصور غير محدد المعالم، شأنه شأن قدر راجح من أفكار ترامب.

*عاموس هرئيل: المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس". المقال مترجم من "فورين أفيرز"، حيث نُشر في كانون الثاني (يناير) 2025.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق