"يشبه أبي إلى حد مؤلم" قلت أحدّث نفسي وأنا أمشي في أحد أزقة المنامة الضيقة، ذلك الرجل العجوز أشعث الشعر يرتدي رداءً أبيض ويمشي مثقل الكتفين ببطء أمامي وكأنه أبي، أبطأت خطواتي ورحت أسير خلفة وكأنني أتبعه، لا أعلم إلى أين يتجه لكن لا يهم فأنا ذاهبة إلى حيث يذهب هو، إنها تلك اللحظات التي أتمنى أن تستمر إلى الأبد، لا أريد لهذا الطريق أن ينتهي، ولا أريد لوجهته أن تصل، أريد السير خلفه والظن أنه أبي، "أكاد أستطيع لمسه" قلت أحدّث نفسي لو أنني مددت يدي قليلاً أستطيع لمس ردائه، لكن لا، أخاف أن يرى ظلّي المنعكس على جدار ذلك المنزل المتهالك بجانبه، فيظن أنني أريده أن يلتفت لينظر إليّ وأنا لست مستعدة بعد للنظر إلى عينيه لأدرك أنها ليست عيون أبي، أريد السير خلفة وأنا أتوهّم أنه أبي ولا أريد أن أرى الحقيقة، إنها لحظات ليس إلا أعيش فيها ابنته مجدداً وكأننا نسير معاً وهو كعادته يمد رجله فيسارع في خطاه وغالباً ما كنت أمشي خلفة على مهل، لم يتغير شيء مازال كما كان يمشي وكأنه لا يريد أن يتأخر، لكن يتأخر على من وعلى ماذا؟ ليس هناك من هو في انتظارك تمهّل، نظرت بحزن للباب الخشبي وهو يغلق ويأخذ أبي داخله، تمهّل، لِمَ أنت في عجلة من أمرك ليس هناك من ينتظرك؟ رحل الوهم وانتهى الظن وتكشّفت الحقيقة، رحل الرجل الشبح كما رحل أبي منذ ست سنوات.
نعم لا نريد في أغلب الأحيان أن نرى الحقيقة، نريد أن نظنّ وأن نتوهّم وأن نعيش في ظنونا وأوهامنا، لا نريد أن نرى حقائق الأمور، الوهم دائماً أجمل من الحقيقة، في الوهم نرى ما نريد أن نرى فيمتلئ قلبنا سعادة وبهجة، أما الحقيقة فهي مؤلمة غالباً وتجاهلها أهون علينا من إدراكها، إنها تلك اللحظات التي سرعان ما تنتهي لكننا لولاها لما استطعنا أن نستمر. نتغافل نحن ونظن لكنه الظن الحلال الذي نعرف حقيقته لكننا نخفيها لنخفف من حدة آلامها.
ليس موقف أبي إلا موقفاً واحداً من عشرات المواقف التي تمر علينا كل يوم، نعلم حقيقتها لكننا نفضل التغافل والتوهم أنها لم تكن أو لا تعني ما فهمناه، كم من مرة عشنا ألم اكتشاف كذبة ما أو تكشّفت أمامنا حقيقة ما وفضلنا المُضيّ وكأننا لم نعلمها، أليس التغافل هنا أجمل من عيش وإدراك الحقيقة؟ أذكر مرة أن صديقاً قال لي "إننا نعلم الكثير لكن ليس كل ما نعلم يقال" نعم ليس من المفترض أن نعرف كل الحقائق وليس كل ما نعرفه يجب أن نقوله، هناك الكثير يجب أن يبقى حيث هو.
الخلاصة: حياتنا السريعة تمتلئ بالمواقف السيئة كما الجيدة، هناك الكثير يدور حولنا كل يوم، لنستطيع المضي والاستمرار علينا أن نغضّ الطرف عن تلك الأمور التي تؤلمنا ونتوهّم أنها لم تحدث، نعم ندرك الحقيقة، ونعم نعلم ونعرف ونحلّل، ولكن لا يجب علينا أن نجعلها تسيطر على حياتنا، ليس حُبّاً في الوهم، ولكن بعضاً منه يساعدنا على المُضيّ.
0 تعليق