الثقة هي السلاح الوحيد الذي يجب أن نتمسّك به في هذا العالم الذي بات يُطلق عليه قرية صغيرة بسبب التسارع التكنولوجي في وتيرة الحياة، هذه القرية الصغيرة التي تَقَارَبَ سكانها إلكترونياً وتباعد اجتماعياً، قرية باتت تحكمها الأجهزة الإلكترونية والألواح الكهربائية، تطبيقات تطلّ عبر شاشات حلّت مكان الوجوه، وأزرار نضغط عليها بأناملنا بدلاً من المخاطبة الشفهية واللقاءات المباشرة، عالم عديم من المشاعر أشبه بالغابة، بل حتى إن الغابة يسودها العدل والثقة ببن سكانها أو بعضهم على الأقل، بينما في عالمنا الذي تتحكم به الأجهزة اللوحية لا مكان للمشاعر ولا مساحة للأمان وحتى الثقة التي كانت مضرباً للأمثال أخفاها هذا التقدّم المتأخر، وهذا التطور المتراجع، وهذا التسارع الذي أبطأ فينا علاقاتنا الاجتماعية.
نجزع من هذا الوقت ونُغمض أعيننا خوفاً وترقّباً من الزمن القادم الذي لا نعلم إلى أين سيصل بالأخلاق، بل لربما السؤال سيكون هل ستكون هناك أخلاق من الأساس؟؟!!!! فالزمن القادم الذي نعيش جزءاً منه حالياً هو زمن الانعزال، زمن بات كل منا منكباً على وجهه يرقب جهازه ويتصفح هاتفه، يصول ويجول بين العالم ودوله، بينما يتجاهل من حوله، تمضي لحظاته ما بين هذا المتصفح وذاك، غافلاً عما حوله، لا يشعر بأهله وأقربائه وحتى أحبائه، وهذا هو قمة الفقد، فقد الحياة الحقيقية والعالم الواقعي، فقد لربما يؤدي إلى الإحساس بالغربة رغم الملايين من البشر المختزلين بداخل هذه التطبيقات والمواقع، ولكنهم وأنت معهم بلا إحساس أو شعور، فذلك هو أشد أنواع القسوة، فأقسى فقد، ليس فقد الأحباب، بل فقدان الشعور بمن حولك وكأنك غريب بينهم، وعندما يفقد ذاك الشعور تنفقد معه الأخلاق والصفات التي عاشها من قبلنا في هذا الكون الذي كان في يوم ما عالماً، وبات اليوم تطبيقاً أطلقوا عليه جزافاً وسيلة تواصل بينما هو في الواقع وسيلة انعزال وانعدام.
ما نحن منغمسون فيه اليوم -إن لم نتداركه- سيؤدي بنا إلى فقدان كل ما هو جميل، سنعيش في عالم موازٍ كل ما فيه خيال وواقع افتراضي وصناعي، حاله حال الأخلاق التي ستتلاشى مع هذا العالم الجديد، سنفقد معه الثقة، الثقة التي كانت متلازمة لنا بسبب تراحمنا وتواددنا وتواصلنا الحقيقي، سنفقد معه كل ما هو جميل، سنصبح في المستقبل المنظور أجهزة آلية بلا مشاعر وبلا حتى إدراك.
وإلى أن نصل إلى ذلك الزمن، أتمنى أن يدقّ أحدهم ناقوساً أو يُطلق صافرة تعمل على تحذير الغافلين لكي يعودوا إلى رشدهم، تنبهّهم إلى الهاوية التي هم بطريقهم إليها، إلى العودة إلى الماضي الجميل قبل أن نفقد الإحساس بالحياة وبلذة التواصل الحقيقي بها.
0 تعليق