سأل الثاني: لماذا تعتبر هذه الأغنيةَ مجازفةً، وقد توفرت فيها شروطُ الإبداع، لحنًا وشعرًا، وصلَ محمد عبده، بسلطنة أدائه، الإبداعَ بالإمتاع، فأين المُجازفة في الموضوع؟!
قال الأول: غناءُ قصيدة إدريس جَمَّاع مجازفة كبرى! مع أن كثيرًا من النقاد اعتبروا جَمَّاع واحدًا من أهم شعراء السودان المعاصرين، لكن لا تنسَ أنه تعرّض لتقلبات عاصفة في صحته النفسية والعقلية، منذ بداية السبعينات الميلادية، وفي سنوات حياته الأخيرة تدهورت صحتُه العقلية، وأُرسِل إلى لبنان للعلاج فأقام بضعة شهور في مستشفى الأمراض العقلية ببيروت، ولم يكتب له الشفاء، فأعادته أسرته إلى مستشفى مماثل بالخرطوم، وبقي بضعة أشهر على حالته حتى مات في 1980 -رحمه الله-.
قال الصديق الثالث: لا أعتقد أن غناءَ محمد عبده رائعةَ جَمَّاع مجازفةٌ ولا جرأةٌ، بل هو انتصار للإبداع، وهذا هو مبدأ محمد عبده دومًا، لقد وقف على إبداع إدريس جَمَّاع في قصيدته، وقرر أن يواصل إبداع الشعر بإبداع اللحن والغناء.
القصيدة التي غناها محمد عبده، لإدريس جَمَّاع، هي مثل شاعرها، نُسِجَت حولها قصص مختلقة، وروايات مكذوبةٌ، وهي من شعر إدريس جماع قولًا واحدًا، والطريف أن خطأً مطبعيًا في ديوان الشاعر جعل القصيدة تنشر مرتين بالعنوان نفسِه (أنت السماء)، المرة الأولى في ص 102، وفي 11 بيتًا، ونشرت مرة أخرى بالعنوان ذاته، في ص 140، في 11 بيتًا أيضًا، لكن باختلاف بعض الأبيات.
قصص مختلقة وروايات مكذوبة!
حياة الشاعر المبدع إدريس محمد جَمَّاع (1922-1980)، وما اعتراه فيها من بؤسٍ وأمراضٍ، أمورٌ جعلت الكذب عليه، وحياكة القصص المختلقة عن حياته، منتشرةً تملأ مواقع الإنترنت، والغالب أن ذلك بهدف خلق الإثارة، والحصول على زيارات ومشاهدات لهذه المواقع!
قصتان شهيرتان، تُذكران كثيرًا عن حياة الشاعر الراحل، حتَّى تناقلها كُتابٌ معروفون، ونشروها في مواقع صحافية، فازداد تدوير القصص المختلَقة على شاعر السودان الكبير، في استغلال لحياته الشخصية بشكل مبتذَل وبعيد عن الأخلاق، وذلك من أجل تحقيق مكاسب تافهة، مثل زيادة المشاهدات، وتكثيف القراءات!
قصة المطار المكذوبة!
القصة المكذوبة الأولى، تتعلق بقصيدتنا التي غناها محمد عبده (أعلى الجمال تغار مِنَّا؟)، وتقول روايتها:
إن (جمَّاع) كان في المطار ذاهبًا إلى لندن من أجل علاج اضطراب حالته النفسية والعقلية، وفي المطار رأى امرأةً فائقةَ الجمال، تُرَافق زوجَها، فأطال الشاعر النظر إليها منبهرًا بجمالها، وكان الزوج يحاول أن يسترها عنه، منعًا لنظراته، فأنشد في تلك الحالة:
أعلى الجمال تَغَارُ منَّا؟
ماذا علينا إنْ نظرنا؟
وتضيف رواية القصة أن الأديب عباس محمود العقاد أعجب بالقصيدة حينما سمعها، وسأل عن قائلها، فقالوا له: إنه الشاعر السوداني إدريس جمَّاع، وهو الآن في مستشفى المجانين! فقال العقاد: هذا مكانه لأن هذا الكلام لا يستطيعه ذوو الفكر. انتهت الرواية المكذوبة!
قصة المطار السالفة ليست صحيحة، فالشاعر السوداني لم يسافر إلى لندن، والقصيدة وإن كانت لشاعرنا، وهي في أواخر قصائد ديوانه، إلا أن ربطها بقصة الزوجة الجميلة في المطار لا يثبت، كما أن كلمات القصيدة تتحدث عن عشق قديم، لا إعجابٍ تشكَّل في نظرة بالمطار، وإن طالت، حتى أقلقت الزوج... ولو لم يقلق، لما كان طبيعيًا!
ولا أدري، هل تصح قصة تعليق الأستاذ العقاد، على الشعر والشاعر، كما لا أدري هل هذه السياقات، تُعَدُّ مديحًا في حق الشاعر جمَّاع، أم العكس؟!
ممرضة جمَّاع الإنجليزية الباكية: قصة مُختلقة! ومن القصص المؤلفة، على الشاعر العذب إدريس جماع، أنه فُتِنَ بعينَيْ ممرِّضته الإنجليزية في المستشفى اللندني، فأطال النظر إلى عينيها، فخافت، وشكت ذلك إلى مديرها، فنصحها بارتداء نظارة شمسية سوداء، لتفادي نظرات المريض، ولمَّا رآها الشاعر ترتدي النظارة السوداء، أنشد قائلًا:
السيفُ في الغِمدِ لا تُخشى بتارتُهُ ** وسيفُ عينيكِ في الحالينِ بَتَّارُ
وحين تُرجم معنى البيت للمرضة، بكت على الفور!
هكذا رويت القصة!
وليس السيف البتار، في غمده أو خارج غمده، من ثقافة الممرضة، وما لا يكون مستوعبًا مفهومًا، لا يُبكى عليه!
وقصة الممرضة الإنجليزية، مختلقة مكذوبة، لم تحدث للشاعر إدريس جَمَّاع أبدًا، فهو كما أسلفنا، لم يذهب إلى لندن للعلاج بتاتًا، وكان علاجه بين السودان ولبنان!
الشاعر يكتب مقدمة ديوانه
كتب جَمّاع مقدمةَ ديوانِه بلُغة شبيهة بلُغته التي في قصائده: لغة سهلة، إنسانية، شفيفة، رشيقة، رقيقة، عذبة، تنبض إنسانية...
قال إدريس فيها:
«ليس القارئ بحاجة إلى معرفة رأيي عن نفسي، وعن شعري، وخير له ولي، أن أضع قصائدي نفسَها أمامه، فيقرأها ويسلط عليها حاسةَ نقده».
وفي حديثه عن منهجه الشعري، كان الشاعر السوداني الرقيق، يتنقل بين التواضع الراقي، وبين ملامسة قضايا الشعر بشكل فيه من الواقعية، ما يجعلك تجزم، بأن هذا الرجل شَفَّافٌ، صادقٌ، بل... وعاقلٌ.
يقول إدريس: «إن اتجاهي في الشعر، ولا أقول مذهبي، يحترم الواقع، ولكنه يريد له الإطار الفني، ولا يَضِنُّ عليه بالنظرة الجمالية، ويساهم في دفع الحياة إلى الأمام، ولا يجرِّد الشعرَ من أجنحته، ولكنه يأبى التحليقَ في أودية المجهول، ومتاهات الأوهام. ويحب الجديد، لا لأنه جديد، ولكن للخلق والابتكار. ويحب الإنسان وينفعل للطبيعة. وليس هو رَدَّ فعل لاتِّجَاٍه، أو تأكيدًا لآخر، هذا هو الطابع الذي أظن أن شعري قد انطبع به، شئتُ عامدًا، أو لم أشأ، فتكويني في جملته يتجه بي هذه الوجهة. ولو أردتُ لشعري غيرَ ذلك، لعصاني وشَقَّ عَلَيّ، فهذه القصائد هي من نفسي، ومطابقةٌ لها. وهي ومضات في حياتي بين الحداثة والكهولة، أردت لها أن تكون لحظات خالدة، وهي كما يستخلص القارئُ، ليست صورة لمرحلة واحدة».
ويُقِرُّ جَمَّاع بأنَ المستوى الذي يقدمه في قصائد ديوانه، ليس هو ما يتطلع إليه، «ولكنه المدى الذي استطعتُ أن أبلغَه في حياة مضطربة كالعاصفة، لا يستطيع الإنسان أن يصفو فيها، أو أن يتنفس في هدوء، أو ينظر إلى الآفاق».
وفي لُطفٍ بالغٍ، يقول الشاعر إدريس، إنه اختار ألا ينثر للقارئ خواطره كلها: «فما زلتُ أذكر ما كنت أجده من مَلَلٍ، عندما أسترسل في قراءة المقدمات الطويلة».
قصيدة جَمَّاع...
أغنية محمد عبده!
ترك جَمَّاع، رحمه الله، آثَارًا أدبيةً، هي قصائدُه الجميلةُ التي جُمِعَت في ديوانه الوحيد المسمى (لحظات باقية)، ونُشِرَ الديوان في ثلاث طبعات: الأولى في أبوظبي عام 1984، بمتابعة وعناية أصدقاء الشاعر، والثانية في الخرطوم عام 1989، والثالثة في الخرطوم عام 1998. والقصيدة التي غنَّاها الفنان محمد عبده قبل أيام، منشورة في الديوان مرتين وعنوانها (أنت السماء)، المرة الأولى في ص 44، والثانية في ص 102، وهي في 11 بيتًا، لكن القصيدة الأولى فيها أربعة أبيات غير موجودة في الثانية، والعكس بالعكس.
والأبيات هي:
أنت السَمَّاء
من الومضات الأولى لشاعرية المؤلف
أَعَلَى الجمال تغار منا
ماذا عليك إذا نظرنا
هي نظرة تنسي الوقا
ر وتسعد الروح المعنى
دنياي أنت وفرحتي
ومنى الفؤاد إذا تمنى
أنت السماء، بدت لنا
واستعصمت بالبعد عنا
آنست فيك قداسة
ولمست إشراقًا وفنا
ونظرت في عينيك
آفاقاً وأسرارًا ومعنى
وسمعت سحرًا يذوب
صداه في الأسماع لحنا
نلت السعادة في الهوى
ورشفتها دنا فدنا
قيدت حسنك في الخدور
وصنته لما تجنى
وحجبته فحجبت سحرا
ناطقًا وحجبت كونا
وأبيت إلا أن تشيّد
للجمال الحرِّ سجنا
والأبيات السابقة منشورة في ص ١٠٢ من الديوان في طبعته الأولى، وهو ما يؤكد أن لا صحة لقصة عيون الممرضة الإنجليزية، وإبطال صحة رواية النظر طويلًا إلى الزوجة الجميلة في المطار، وخطأ ربطها بأبيات جَمَّاع (أنت السماء)، المعروفة بمطلعها: أعلى الجمال تغار منا؟!... ما يلي:
1- تناقض حكاية الحال في قصة المطار مع كلمات القصيدة.
في القصيدة من الكلمات ما يؤكد وجود علاقة قديمة مع المحبوب، ولو افترضنا جدلًا صحة رواية المطار، فهي علاقة حادثة جديدة!
يقول:
أعلى الجمال تغار منا؟
ماذا عليك إذا نظرنا؟
هي نظرة تُنسِى الوقا
ر وتُسعِدُ الروح المُعَنَّى
دنياي أنت وفرحتي
ومنى الفؤاد إذا تمنى
أنت السماء بدت لنا
واستعصمت بالبعد عنا
هلا رحمت متيما
عصفت به الأشواق وهنا
وهفت به الذكرى
وطاف مع الدجي مغنا فمغنى
هزته منك محاسن
غــنى بــها لـما تــغـنى
يا شعلة طافت خواطرنا
حـــوالــيــها وطــفــنـا
آنست فيك قداسة
ولـمست إشـراقـا وفـنــا
ونظرت في عينيك
آفـاقـاً وأســـرارًا ومـعـنــى
جَمِّع عُهودكَ في الصبا
واسأل عهودك كيف كنا؟
هذه أبيات تتحدث عن علاقة ضاربة الأطناب، لا ناشئة في صالة المغادرة!
وأوضح دليل على ما سبق، ما جاء في البيت الأخير؛ بقول الشاعر مخاطِبًا المحبوب:
جَمِّع عُهودكَ في الصبا ** واسأل عهودكَ كيفَ كُنَّا؟
فعهود الصبا، لا تنشأ في لقاء الدقائق المعدودة، فقد مَرَّ على الصبا عشرات السنوات، لا عشرات الدقائق!
2- ما ورد في الديوان في ص 102، وهي صفحة القصيدة، تحت عنوان القصيدة:
(أنتِ السماء)، وتحت العنوان، كُتِب: [من الومضات الأولى لشاعرية المؤلف]،
وهي جملة فيها تأكيدٌ أن القصيدةَ من أوائل قصائد الشاعر جمَّاع، فيما روايةُ المطار الزائفةُ، تتحدث عن رحلته للعلاج، ومعلوم أن وفاة جمَّاع كانت بعد عودته من العلاج، في المصحة بلبنان، وهذا يعني تناقضًا في التوقيت الزمني، ينقض رواية ربط القصيدة بقصة الزوجة في المطار، ويهدم أساسات هذا الربط.
3- أن اعتبار قصة الزوجة الجميلة سببًا للقصيدة، لم يرد ذكره في الديوان، ولا على لسان من يمكن الاعتماد عليه، في تأكيد شعر جَمَّاع أو حياته، وكل من روى قصة النظر للزوجة، بشكل فيه (بجاحة)، لا تليق بالشاعر، هم من المجاهيل، وفي أحسن الأحوال، لا يمكن اعتبارهم من الثقات، ممن تقبل روايتهم في هذا الشأن، وبهذا التفصيل.
0 تعليق