مع انهيار نظام الأسد، فُتحت أبواب السجون والمعتقلات المحصنة لعقود طويلة، وفُتحت معها ملفات المعتقلين والمغيّبين الذين اختطفتهم أجهزة النظام الأمنية، والميليشيات العابرة للحدود المساندة له، ولطالما كانت تلك المعتقلات صناديق سوداء تخفي بداخلها أسرار مئات الآلاف من المحتجزين.اضافة اعلان
لم تسلم أي منطقة على امتداد الجغرافيا السورية من تلك الانتهاكات، وتكاد لا تجد عائلة سورية إلا وقد تعرّض أحد أبنائها أو أحد أقاربها للاعتقال أو الإخفاء القسري.
تُعدّ منطقة البوكمال، شرقي دير الزور، واحدة من المدن السورية التي كانت شاهدة على كثير من تلك القصص، فغدت مسرحاً للعديد من الانتهاكات بحق الإنسانية، انتهاكات ما زالت آثارها جلية، وجروحها غائرة في قلوب كثير من السكان الذين يبحثون عن بصيص أمل حول أبنائهم المفقودين.
أجرى موقع تلفزيون سوريا حديثاً صحفياً خاصاً مع بعض أسر المغيّبين في ريف البوكمال، وكشف عن تفاصيل جديدة حول حادثة قرية "الهري"، وهي حادثة يعتبرها السكان المحليون من أفظع الكوارث التي حلّت بهم، إذ خطفت ميليشيا "الحشد الشعبي" 175 شاباً من أبنائهم في عام 2017، بعيد سيطرتها على البوكمال بأيام قليلة، ولم تكشف عن مصيرهم أو مكانهم حتى اليوم.
قبل أكثر من سبع سنوات، وتحديداً في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، وبعد سيطرتها على مدينة البوكمال إثر معارك مع تنظيم "الدولة"، اختطفت مجموعات تابعة لميليشيا "الحشد الشعبي"، بقيادة عراقية وإشراف إيراني، 200 شاب من عشيرتي "الحسون" و"الجغايفة" في قرية "الهري" الحدودية مع العراق، لتفرج لاحقاً عن 25 منهم وتخفي 175 آخرين من المجموعة المختطفة.
وفي تفاصيل تلك العملية، قالت مصادر محلية متطابقة لموقع تلفزيون سوريا إن مجموعة عسكرية من "حركة النجباء"، التي تتبع لـ"الحشد الشعبي"، يتزعمها قيادي عراقي معروف باسم "أبو سجاد"، اقتحمت قرية "الهري" السورية، المقابلة تماماً لبلدة "القائم" العراقية، واعتقلت مجموعة من الشبان، وجمعتهم في ساحة القرية، ثم بدأ عنصر ملثم مخفي الوجه بالإشارة إلى عدد منهم، ليأخذوهم بعدها إلى جهة مجهولة، ما شكل صدمة كبيرة لدى أهاليهم الذين بدؤوا رحلة البحث عنهم منذ ذلك التاريخ.
في تلك الأثناء، كان أحد سكان قرية "السويعية"، وهي قرية سورية ملاصقة لقرية "الهري"، ويدعى "نايف السور"، قد ترك المنطقة ونزح مع عائلته إلى منطقة أخرى، لحماية عائلته من جحيم المعارك المحتدمة وقتئذ بين قوات النظام و"الحشد الشعبي" وميليشيات إيران من جهة، وبين تنظيم "الدولة" من جهة أخرى. ل
كن القدر شاء أن يبقى شقيقه "عبد الله"، ذو الـ37 عاماً، في "الهري"، ليُعتقل مع شبان القرية.
أمضى السيد "نايف" سنوات طويلة في البحث عن أخيه "عبد الله"، الذي اعتُقل بعد فترة قصيرة من عودته إلى سوريا، حيث كان يعمل في دولة قطر قبل أن يقرر العودة إلى عائلته في سوريا، ثم ينتهي به الأمر ليكون من بين أولئك المعتقلين.
يقول السيد "نايف" في حديثه مع تلفزيون سوريا، إن مجموعة عسكرية من ميليشيا "حركة النجباء" العراقية، وقوات أخرى تابعة لـ"الحشد الشعبي" العراقي، بزعامة العراقي "أبو سجاد"، هي المسؤولة عن اعتقال أبنائنا ونقلهم إلى الأراضي العراقية.
تتبّع السيد "نايف" مسار المجموعة المختطفة من خلال عدة أشخاص، بعضهم من سكان المنطقة الذين تربطهم علاقة بـ"الحشد"، وآخرون أُفرج عنهم لاحقاً.
يتابع "نايف" قائلاً: "في بداية الحادثة، نقلت ميليشيا الحشد الشعبي الشبان إلى قبو أحد البيوت المستولى عليها في قرية "الهري"، وهو بيت لشخص من أبناء المنطقة يدعى "حسين العلي". خلال تلك الفترة، تعرضوا لعمليات تجويع وتعذيب نفسي وجسدي شديد، بهدف انتزاع اعترافات منهم –تحت الإجبار– بوجود علاقة تربطهم بتنظيم الدولة "داعش"، وهو ما نفاه "نايف" وآخرون من أبناء المنطقة، مؤكدين أن الشبان المختطفين لم ينخرطوا في أي حدث أو فصيل عسكري أو سياسي، ولم يتدخلوا مطلقاً في أحداث سوريا".
وخلال عملية البحث، وصل "نايف" إلى مواطن عراقي من أبناء "القائم"، كان معتقلاً معهم في ذلك البيت في قرية "الهري"، ونقل "نايف" عن لسانه أن عشرين مواطناً عراقياً كانوا معتقلين في القبو نفسه، وتعرضوا –مع السوريين– للتحقيق والتعذيب على يد "الحشد الشعبي"، كما مُنعوا من التواصل فيما بينهم، قبل أن يتم نقل المختطفين السوريين إلى داخل العراق، لتنقطع أخبارهم تماماً.
"الحشد" يخفي مصير المختطفين ويروّج لرواية جديدة
يضيف "نايف": "بعد فترات طويلة من الأسئلة المتكررة من قبل الأهالي عن مصير أبنائهم، أبلغهم عناصر من "الحشد الشعبي" أن أبناءهم سُلّموا إلى أجهزة الأمن السورية، ليبدأ الأهالي رحلة بحث جديدة، ولكن هذه المرة مع أجهزة الأمن التابعة لنظام الأسد".
تواصل تلفزيون سوريا مع السيد "خميس مطر الحرفوش" (أبو محمد)، وهو تاجر مواشٍ معروف في ريف البوكمال، فقد "خميس" في عملية الاعتقال التي نفذها "الحشد الشعبي" اثنين من أبنائه الكبار: "محمد"، الذي كان يبلغ من العمر 20 عاماً وقت الحادثة، و"مطر"، الأخ الأصغر، الذي كان يبلغ 16 عاماً، دون أن يتمكن من الحصول على أي معلومة عن مصيرهما.
يقول السيد "خميس": "عملت لسنوات طويلة في دولة الكويت، ثم عدت في 2010 لأهتم بعائلتي وأولادي". ثم يستدرك بصوت يملؤه الشجن: "أفكر كل مساء بولديّ الكبيرين، وأدعو لهما ولكل المعتقلين بالفرج والسلامة، كل ما أتمناه هو أن يكونا بخير".
وفي تفاصيل حادثة اعتقال شبان المنطقة، قال "خميس" إن ولديه ليسا الوحيدين اللذين اعتقلهم "الحشد الشعبي" من عائلة "الحرفوش"، بل إن هناك ثمانية آخرين من العائلة نفسها، مبيناً أن عدد المعتقلين من أبناء عمومته في "حادثة الهري" وصل إلى 50 شاباً من عوائل "الحرفوش"، و"الحاج"، و"النزاع"، و"الأحمد"، والتي تُعرف محلياً باسم "أبناء عائلة العبد الله المجلوب".
تخنق العبرات السيد "خميس" أثناء حديثه، متذكراً كيف عمل لسنوات طويلة في الخليج العربي ليؤمّن لأولاده حياة كريمة ويربيهم على مكارم الأخلاق.
يتابع قائلاً: "دمّر "الحشد الشعبي" بفعلته حياتنا وصحتنا، من دون أي اعتبار للمكانة العشائرية أو الإنسانية. أصبحت اليوم مريض سكر، وبدأت أفقد نظري من شدة الحزن والبكاء عليهم، وبرغم ذلك، لا بد لنا أن نعرف مكان أولادنا، لأن إحساسي بأنهم على قيد الحياة كبير".
"أبو سجاد" الخاطف الغامض لأبناء "الهري".. من هو ومن يقف خلفه؟
بحسب شهادات أهالي المنطقة، فإن "أبو سجاد" هو أحد قادة "حركة النجباء" العراقية، وليس له أي صورة متوفرة على الإنترنت، لكن أوصافه الجسدية وُصفت بـ"أسمر البشرة وقصير القامة". ومن خلال البحث في المصادر المفتوحة على الإنترنت، تبيّن أن اسمه تطابق مع اسم قيادي في "حركة النجباء" يُدعى "علي أبو سجاد"، وهو المسؤول اللوجستي في الحركة، والذي اغتيل بقصف نفذته طائرة مسيّرة على مقر لـ"الحشد الشعبي" شرق بغداد، مع قيادي آخر يُلقب بـ"أبو تقوى"، بعد عودتهما من سوريا في 4 كانون الثاني/ يناير 2024.
ونظراً إلى أن معظم المسؤولين العسكريين عن "الحشد الشعبي" في سوريا كانوا يخفون أسماءهم، ويبتعدون قدر الإمكان عن الظهور الإعلامي، صعّب ذلك على الأهالي الإمساك بأي خيوط تدل على خصومهم المباشرين. لكن القوة الكبرى التي سيطرت على البوكمال في تلك الفترة كانت "حركة النجباء"، التي جسّدت نموذجاً واضحاً لمساعي إيران في توسيع نفوذها في سوريا والعراق.
وبحسب ما أعلنه أمينها العام، أكرم الكعبي، فإن الحركة "تتبع نهج ولاية الفقيه"، وهو الأساس الفكري الذي يقوم عليه نظام الحكم الديني في إيران.
أما في البوكمال، فكانت جميع أعمالها تحت إشراف مباشر من قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري الإيراني"، قاسم سليماني، الذي أشرف على ميليشيا "حركة النجباء"، وأدار العملية العسكرية من العراق باتجاه البوكمال عام 2017.
روايات مشككة وتنصّل من المسؤولية
بعد ستة أشهر من البحث المتكرر عن مصير المعتقلين، أخبرهم أحد قادة "الحشد الشعبي" بأن أبناءهم سُلّموا إلى المخابرات السورية، ليتحول مسار البحث من سجون العراق شرقاً إلى معتقلات الأسد غرباً.
أخبرنا السيد "نايف" أن المعلومات الواردة إليه أفادت بأن بعض المعتقلين، بعد نقلهم إلى دمشق، تم إيداعهم في فرع 248، ثم تحويلهم إلى فرع المخابرات العامة (أمن الدولة)، حيث قضوا أربعة أيام هناك، قبل أن يتم ترحيلهم إلى سجن مطار المزة لأكثر من عام.
لاحقاً، جرى نقل المعتقلين إلى سجن صيدنايا، ما زاد المخاوف بشأن مصيرهم. استطاع "نايف"، عبر وسطاء ودفع مبالغ طائلة، التواصل مع شخص يُدعى "بشار"، زعم أنه أحد مديري سجن صيدنايا. ووفقاً لما أكده "بشار"، فقد تم إيداع المعتقلين في صيدنايا من قبل الأمن العسكري لصالح "الحشد الشعبي" عام 2021.
كما وردت أنباء لاحقة عن إحالتهم إلى محكمة ميدانية، واستمرت هذه الإجراءات حتى تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وفي تطور آخر، أفادت رواية مختلفة بأن المعتقلين ربما نُقلوا إلى العراق، وتحديداً إلى منطقة جرف الصخر، وسط تضارب المعلومات وغياب أي تأكيد رسمي حول وضعهم الحالي. وأعرب أحد الآباء عن حالة اليأس التي يعيشها ذوو المختفين، قائلاً: "نحن كالغريق الذي يتعلق بقشّة، نصدق أي رواية تخبرنا بأنهم لا يزالون على قيد الحياة".
كل تلك الروايات لم يستطع أهالي المعتقلين إثباتها، رغم دفعهم مبالغ كبيرة، حيث يقول السيد "نايف" إنه دفع وحده أكثر من 20 ألف دولار أميركي في رحلة البحث عن أخيه، التي استمرت سبع سنوات.
بين الترغيب والترهيب.. لماذا قرية "الهري"؟
تقول المصادر الأهلية التي تحدث معها موقع تلفزيون سوريا إنّ ميليشيات الحشد الشعبي، وبعد اعتقالها لشبان الهري، اتبعت أساليب الترهيب تارة، باعتقال آخرين حاولوا السؤال عن أبنائهم ثم الإفراج عنهم، وأساليب الترغيب من خلال التقرب من سكان المنطقة تارة أخرى.وفي تفاصيل عملية الترغيب، يقول السكان إنّ الحشد الشعبي، وبدفع إيراني، عقد مع السكان أكثر من أربعة اجتماعات، كان يحوّل مسار النقاش خلالها من مطالبتهم بأبنائهم إلى الحديث عن الخدمات والمزايا التي سيقدمها للمنطقة، في محاولة لتغيير تفكيرهم عبر تقديم المساعدات الغذائية والمالية في بعض الأحيان، والهدف، بحسب السكان، أن ينسوهم قضية أبنائهم.
ويرجح أن تلك الميليشيات اختارت العمل بسياسة الترغيب والترهيب لعدة أسباب، منها الموقع الجغرافي الاستراتيجي للبلدة التي تقع على الحدود السورية-العراقية، وهي منطقة حساسة ومهمة عسكريًا، والسيطرة عليها تعزز نفوذ الميليشيات في المنطقة الحدودية، خاصة بعد هزيمة تنظيم الدولة (داعش) فيها.
كما حاولت تلك الميليشيات، من خلال هذه السياسة، فرض سيطرتها على عشائر الهري، مثل "الحسون" و"الجغايفة"، عبر اعتقال أبنائهم والضغط عليهم بهدف إخضاعهم، ووضعهم في دائرة الشك الدائم، من خلال إثارة الخوف لديهم واتهامهم بعلاقات وارتباطات مع فصائل معارضة وتنظيمات متطرفة.
البحث عن الأمل بين سجون الأسد وسراديب العراق
بعد سقوط نظام الأسد، بدأ أهالي بلدة الهري رحلة البحث عن أبنائهم المفقودين في سجن صيدنايا، لكنهم لم يجدوا لهم أثرًا. وكغيرهم من آلاف العائلات السورية، لم يفقدوا الأمل، فاستمروا في البحث حتى آخر لحظة، يفتشون بين السجون السرية والمعتقلات المخفية، ويساعدون فرق الدفاع المدني في كشف مصير أحبابهم.
يقول السيد نايف السور: "لم أترك مكانًا إلا وبحثت فيه... الفروع الأمنية، المستشفيات، وحتى برادات الموتى. حاولت الوصول إلى مشفى تشرين العسكري، حيث تُسجَّل أسماء الضحايا، لكن الحواجز الأمنية منعتني من الدخول. أطالبهم اليوم بالكشف عن الملفات التي عثروا عليها هناك، فقد يكون فيها بصيص أمل لمعرفة مصير أولادنا."
أما السيد خميس، فيرى أن غياب أي دليل على وجود أبنائه في سجن صيدنايا أو غيره، يؤكد أنهم لا يزالون على قيد الحياة، ربما في سجون العراق. ويوجه نداءه إلى الحكومة الجديدة، مطالبًا الرئيس أحمد الشرع ووزير الخارجية أسعد الشيباني بالتواصل مع السلطات العراقية لكشف الحقيقة وإعادة أبناء المنطقة إلى ديارهم.
وكان الأهالي قد وجهوا مناشدات قبل أيام عبر منصات تلفزيون سوريا، بضرورة مساعدتهم للكشف عن مصير أبنائهم. (سوريا تي في)
اقرأ أيضاً:
0 تعليق