أطفالنا والارتباط النفسي بـ«التقنيات» 

صحيفة مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
عندما كان الطفل يمرض أيام زمان (قبل هيمنة الجوال والتقنيات) كان ينصت للكلام الذي يوجهه له الطبيب الذي يشخص مرضه ويشرح له سببه وينصحه بالعلاج، أما في وقتنا الحاضر فقد تغّير وضع جيل اليوم وتحديدا بعض الأطفال الذين يراجعون الطبيب مع أسرهم لمشكلة مرضية يعانون منها، فتجدهم بعيدين كل البعد عن مرضهم وشكواهم، إذ تكون عقولهم مشغولة بالأجهزة وخصوصا الجوال الذي يحملونه على مدار الساعة، فيما يتولى المرافق له مهمة شرح معاناته ومشكلته نيابة عنه، دون أي تفاعل من الطفل مع الطبيب في شرح معاناته أو ما يشكو منه، وهذا هو الواقع الذي أسجله في عيادتي مع معظم الأطفال الذين لا يعتبرون صغارا، بل يافعون وعلى قدر المسؤولية ويستطيعون شرح معاناتهم المرضية بأنفسهم وبكل أريحية.

والواقع أن التعلق النفسي للأطفال بالأجهزة التي يحملونها أبعدهم كثيرا عن حياتهم الواقعية فأصبحوا يعيشون في العالم الخيالي أكثر مما يجب، إذ سيطرت هذه التقنيات على سلوكياتهم وتصرفاتهم، فلا يستطيعون الابتعاد لحظة عن أجهزتهم، وهنا لا نستطيع أن نلوم التطور التقني والثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم وكوكب الأرض، ولكن نلوم كل من يستخدم هذه التكنولوجيا بطريقة تنعكس سلبا على جودة حياته وتؤثر في أفعاله وسلوكياته وصحته.

لا شك أن هناك دراسات عالمية عديدة نبهت وحذرت من مشكلة التعلق النفسي للأطفال بالأجهزة التقنية ولا سيما الجوال، وأستشهد هنا بالدراسة الألمانية التي أجريت في جامعة لايبزغ الألمانية، وكشفت أن الأجهزة تؤدي إلى مشاكل عديدة منها حدوث فرط نشاط وشعور بعدم المبالاة  أو الاكتراث لما يحدث حول الأطفال، بجانب حدوث اضطرابات في العلاقات الأسرية، بينما كشف تقرير علمي حديث عن تأثير الأجهزة على الأطفال بمختلف الشرائح العمرية، أن هناك أعراضا عديدة تنتج عن إدمان الطفل على استخدام الهاتف، ومنها حرصهم الشديد على إبقاء هواتفهم أو أجهزتهم اللوحية قريبة منهم ومعهم في كل الأوقات، تغيّرات في السلوك، صعوبة في إدارة مشاعرهم وتنظيمها، إظهار ردود فعل قوية ومبالغ فيها عند إبعاد الطفل عن الهاتف أو الجهاز اللوحي، مثل الصراخ أو البكاء الشديد من دون توقف، أو نوبات غضب، صعوبات في إدارة علاقاتهم الاجتماعية، مثل الانعزال اجتماعيا، والخجل المبالغ فيه، والانطوائية، وسلوكيات عدوانية عند التعامل مع الآخرين، صعوبات في جوانب الحياة اليومية، مثل قلة الصبر، تعكر المزاج، القلق والتوتر، تدني القدرة على التركيز، تراجع الأداء المدرسي، اضطرابات النوم والشعور بالأرق الدائم، والتنقل بين الأجهزة الذكية، وعدم الابتعاد عنها، مثل الذهاب لمشاهدة فيديوهات على الجهاز اللوحي عند الانتهاء من اللعب بالهاتف.

وامتد تعلق الأطفال النفسي بالجوال إلى أوقات الوجبات الرئيسة، فبعض الأطفال لا يبلعون اللقمة إلا وهم يشاهدون مقاطع الفيديو عبر الجهاز، ولم يتوقف الأمر إلى هذا الحد، فبعض الأطفال لا يخلدون للنوم إلا والجوال بجانبهم ولا يغمضون أعينهم إلى أن يغلبهم النعاس، وهذا الأمر بالطبع خطير على صحتهم ومؤثر قوي على مراحل نموهم، فأكثر الهرمونات المرتبطة بالنمو وضبط إيقاع الساعة البيولوجية تفرز ليلا عند النوم المبكر، بخلاف المشكلة المرتبطة بتأثير الضوء الأزرق الصادر من الشاشات والذي يخدع الدماغ ويجعله يسهر أكثر بسبب اختلال هرمون الميلاتونين، وأيضا من الأمور الملموسة هي انشغالهم بالجوال أثناء أداء الواجبات المدرسية والمذاكرة، أو عند القيام بالأعمال المنزلية، وهذا ينعكس سلبا على التحصيل الدراسي وعلى الإنتاجية داخل المنزل، وبجانب كل ذلك انشغالهم بالجوال خلال الاجتماعات العائلية وعدم تفاعلهم مع الأسرة، وبالتالي تصبح العلاقة مهزوزة وضعيفة بين جميع أفراد الأسرة.

ومن كل ما سبق فإنه يجب معالجة مشكلة الأطفال المدمنين على الأجهزة وتعديل سلوكياتهم حتى لا تتفاقم المشكلة أكثر مع مراحل نموهم وحينها يصعب وضع أي أنظمة سلوكية وتربوية، لأنه قد يترتب على كل ذلك عدم سيطرتهم على الغضب، وعدم تعلمهم أساليب التواصل الاجتماعي وأساليب الحوار بشكل صحيح، وعدم الرغبة في تمضية الوقت مع الأهل، والعزلة مع الجهاز بشكل مستمر لمدة ساعات طويلة، الابتعاد عن المجتمع والأنشطة التفاعلية، وتفضيل البقاء في المنزل مع الجهاز، وقد يصل الأمر إلى تأثر الأطفال بأساليب حياة لا تتناسب مع ثقافتهم، والوقوع في فخ المقارنة المستمرة مع من يظهرون في مواقع التواصل الاجتماعي ويعكسون عالمهم المخملي والخيالي، وبالتالي ينعكس أثر ذلك في شعورهم الدائم بعدم الرضا بحياتهم التي يعيشونها وبما يمتلكونه وغير ذلك من الآثار الاجتماعية السلبية.

الخلاصة: التعلق النفسي للأطفال بالأجهزة التقنية مؤشر غير صحي ويترتب عليه انعكاسات سلبية عديدة، وهنا يجب حثهم بأسلوب تربوي على تقنين ساعات استخدام الأجهزة، ومنعهم من استخدامها نهائيا في أوقات الأكل والنوم والدراسة وحل الواجبات، فكل ذلك يساعدهم في التفاعل الاجتماعي الأسري، ويمنعهم من الوقوع في فخ المقارنة المستمرة بالآخرين، ويعزز ثقتهم بالنفس أكثر، والأهم من كل ذلك يجعلهم أفرادا أصحاء ومنتجين ويعيشون مراحل النمو الصحي الصحيح.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق