الغرب انتهى في عصر ترامب وباتت أوروبا بمفردها

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في عام 1966، بعد سنوات من الاحتكاك مع الولايات المتحدة حول ما إذا كان ينبغي أن تمتلك فرنسا رادعها النووي المستقل، سحب الرئيس الفرنسي شارل ديجول بلده من القيادة المتكاملة لحلف شمال الأطلسي (وإن لم يسحبها من الحلف نفسه - وهو فهم خاطئ شائع) وطلب مغادرة جميع القوات الأمريكية المتمركزة في فرنسا. وردا على ذلك، وجَّه دين راسك وزير الخارجية الأمريكي سؤالا لديجول: «هل يشمل هذا القتلى الأمريكيين في المقابر العسكرية أيضا؟»

في إجازة أسبوعية واحدة، حصل ديجول على تبرئة تاريخية من الهجمات المباشرة التي شنها جيه دي فانس على الديمقراطية الأوروبية في مؤتمر ميونيخ للأمن واجتماعه مع القوى السياسية اليمينية المتطرفة المناهضة لأوروبا في ألمانيا.

ثمة أمور يتجنب المرء قولها لأطول وقت ممكن، خوفا من أن يؤدي النطق بها إلى إيجادها.

منذ أن تولى فلاديمير بوتن السلطة، وله مشروع جيوسياسي مزدوج، يتمثل في تفكيك حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. وكان نثر بذور الشك والريبة استراتيجية أساسية لتحقيق هذه الغاية. ولقد تم الوصول إلى نقطة تحول، فأصبح التشبث في شيء لم يعد له وجود أخطر من الجهر باختفائه، فها هو بين أيديكم:

لقد انتهى الغرب، بأي معنى متماسك.

يعتقد علماء العلاقات الدولية البنيويون أن مصالح الدول في نهاية المطاف هي نتاج أنظمة المعنى التي نخلقها مع بعضنا البعض. وطالما نظر الكثيرون إلى حلف شمال الأطلسي باعتباره المثال الأبرز للبنائية في العمل. فبعد الحرب العالمية الثانية، حل التحالف العسكري لحلف شمال الأطلسي فجوة الثقة من خلال إعادة تعريفه للأمن الأوروبي باعتباره شأنا جماعيا. ففتح بذلك الباب أمام الدول الأوروبية للإمعان في التخلي عن بعض السيادة سعيا إلى الاتحاد السياسي أيضا.

كانت الدول الأعضاء التي تمثل جوهر حلف شمال الأطلسي هي التي تمثل جوهر «الغرب»، وليس ذلك فقط لأنها كانت ترى الاتحاد السوفييتي تهديدا، ولكن أيضا لأن هذه الدول كان لديها شعور بـ«الجماعة» تجاه بعضها بعضا. فقد كانت تمارس الديمقراطية الليبرالية، القائمة على الانتخابات الحرة والنزيهة وإخضاع السلطة الصرفة لسادة القانون (لا على المستوى المحلي فقط بل وعلى المستوى الدولي أيضا ــ وإن بشكل غير كامل). باختصار، هو مجتمع قائم على القيم، انسحب منه إيلون ماسك ودونالد ترامب وفانس واليمين المتطرف في الولايات المتحدة.

في عام 2019، أثار إيمانويل ماكرون رد فعل عنيف بإعلانه أن حلف شمال الأطلسي «ميت دماغيا»، فما كان من الحلف إلا أن استعاد هدفه بعد غزو بوتن لأوكرانيا في عام 2022. والواقع أن هذا الانبعاث كان أقرب إلى صحوة الموت الأخيرة لا إلى الانبعاث، وجاء انتخاب ترامب فكان بمقام سحب للقابس. وأيا كانت المؤسسات التي تستمر في عجزها، أو أيا كانت الاجتماعات التي تُعقد بالفخامة الدبلوماسية اللازمة، فثمة سؤال واحد فقط هو الجوهري والعملي. هل يعتقد أحد حقا أن ترامب سوف يحترم تفعيل المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي التي يعتبر بموجبها الهجوم على دولة عضو هجوما على الجميع؟

دعكم من الإهمال الحميد. فمع تهديدات بشن حرب اقتصادية أو غزو صريح من أجل ضم كندا وجرينلاند، أصبحت الولايات المتحدة الآن هي التهديد الأساسي لجارتها الشمالية المسالمة، وثاني أكبر تهديد لحلفائها الأوروبيين السابقين. والشعوب الأوروبية تفهم هذا، فـ22٪ فقط منهم هم الذين يرون الولايات المتحدة حليفا.

وكما أن حلف شمال الأطلسي - في الوقت الحالي - لا يستطيع أن يوجد وظيفيا بدون الولايات المتحدة، وهي أقوى أعضائه، فإن «الغرب» لا يمكن أن يوجد مفاهيميا عندما تبدو الدولة التي تمثل 35٪ من سكانه البالغ عددهم حوالي مليار نسمة وأكثر من 40٪ من اقتصاده معادية للقيم الديمقراطية الليبرالية في ظل سيادة القانون، مؤثرة على ذلك حكم الأقلية التكنو-عدمية في ظل استبداد تنافسي.

ماسك الآن ملك بالوكالة، غير منتخب، دخل أتباعه المباني الحكومية الآمنة، واستولوا على أنظمة تكنولوجيا المعلومات، ونفذوا عمليات محو معلومات بالجملة. وأنهت الإدارة برنامج المساعدات الخارجية الأمريكية دون موافقة الكونجرس ـ وهي خطوة وصفها المشرعون الديمقراطيون بـ«غير الدستورية وغير القانونية» ـ دافعة الملايين إلى الجوع والمرض واليأس. وأشار كل من ترامب وفانس إلى أنهما قد يتجاهلان أوامر المحكمة، ويوظفان عشرات آلاف الموالين، ويستعملان الدولة سلاحا ضد الصحفيين والناشطين ومعارضيهم السياسيين. وتجري بالفعل عملية تطهير للخدمة المدنية الفيدرالية. وعلاوة على ذلك، وقع ترامب أيضا أمرا تنفيذيا لوقف مقاضاة الأمريكيين المتهمين برشوة المسؤولين الحكوميين الأجانب للفوز بأعمال تجارية. ولا شيء من هذه التغييرات الجذرية في النظام الدستوري الأمريكي يجري في الخفاء، فقد ذكر ترامب أكثر من مرة أنه سيخدم لفترة رئاسية ثالثة، على الرغم من حدود فترات الرئاسة الأمريكية. وفي نهاية الأسبوع الماضي فقط استحضر شبح نابليون وبدا كأنه يعلن أنه فوق القانون عندما نشر تغريدة قال فيها: إن «من ينقذ بلاده لا ينتهك أي قوانين». وحتى في حال إجراء الولايات المتحدة انتخابات حرة ونزيهة في عام 2028 ـ وهو ما يتضاءل احتمال حدوثه بسرعة ـ فإزاحة ترامب والجمهوريين عن السلطة، فلن يكون هناك سبيل إلى إعادة ما تحطم الآن إلى حالته الأصلية. وليس ذلك على المستوى المحلي فقط، وإنما على المستوى الدولي أيضا. فلا يمكن التنبؤ بتصرفات الولايات المتحدة. ولن تكون إدارة «صديقة» في المستقبل بقادرة على تقديم أي التزامات طويلة الأجل تتجاوز فترة ولايتها في السلطة. وحجم الولايات المتحدة الهائل اقتصاديا يجعل الفوضى الحالية والمستقبلية غير محتملة لبقية العالم الذي يجب عليه الآن أن يحاول تطويقها قدر الإمكان. وقد تكون بداية ذلك هي فرض تعريفات جمركية بنسبة 100% على واردات تسلا وهو ما كانت تروجه كريستيا فريلاند، المرشحة لمنصب رئيسة وزراء كندا المقبلة، والتحرك بسرعة إلى تعويض هجوم إدارة ترامب على أهداف المناخ العالمية.

لقد أهدر زعماء أوروبا مهلة أربع سنوات، ولكن لعل الأيام الماضية أكدت لهم أخيرا أن الفوضى كدأبها هي نتاج أفعالنا. حظر موقع إكس؟ طال انتظار ذلك. اعتماد على ستارلينك أو سبيس إكس أو أي شيء آخر مرتبط بماسك؟ لا يمكن أن يكون حصان طروادة أوضح من ذلك حتى لو ظهر مكتوبا في النجوم.

يجب على أوروبا أن تستحوذ على كل ذرة من القوة الناعمة تتخلى عنها الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، حيث تعاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، يجب أن يرى الاتحاد الأوروبي فرصة كبيرة للتدخل. وفي حين أننا لا ينبغي أن نستسلم لأي وهم بشأن الصين ـ وهي دولة ذات خطط إقليمية إمبريالية وسياسات اقتصادية استعمارية في جميع أنحاء القارة الأفريقية وسجل فظيع في حقوق الإنسان ـ خلافا للولايات المتحدة، فإنها اللاعب العالمي الوحيد الذي لديه القدرة على التحرك بالحجم والسرعة اللازمين لإزالة الكربون بما يكفي من الانبعاثات حتى نتمكن من الاستمرار في الحصول على فرصة للحد من الانحباس الحراري العالمي إلى درجتين مئويتين. لو أن هناك فرصة لإبرام صفقة تركز على المناخ، فلا يجب أن يتردد الاتحاد الأوروبي في إعطاء الأولوية لذلك على اعتراضات الولايات المتحدة في نهاية المطاف.

من المؤكد أن أوروبا يجب أن تكون قادرة على ردع العدوان بمفردها تماما ـ بغض النظر عن ماهية المعتدي. ثم إنها يجب أن تستدعي روح ديجول وتخبر الولايات المتحدة بأن وقتها في القارة انتهى. أما عن القتلى الأمريكيين في المقابر العسكرية؟ ففي الوقت الحالي على الأقل، لا تزال القيم التي ضحى الأمريكيون بأنفسهم من أجلها قائمة في أوروبا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق