آرثر أسراف* - (جويش كرنتس) 20/12/2024
ينبغي أن نلجأ إلى تواريخ إنهاء الاستعمار -ليس من أجل التنبؤ بالنتائج، وإنما لتوسيع إحساسنا بكيفية النضال من دون معرفة المستقبل.
* * *
انتصرت الجزائر، وفلسطين ستنتصر. تضاعف على مدار العام الماضي انتشار هذا الشعار عبر منشورات وسائل التواصل الاجتماعي، وانتشر على الملصقات التي ملأت شوارع باريس، وتردد صداه في المسيرات. وسط اليأس من الإبادة الجماعية في القطاع، تسعى هذه الكلمات إلى إعطاء الأمل في أن ثمة شيئًا أفضل يخبئه المستقبل: إذا أمكنت هزيمة الاستعمار بعد أكثر من 130 عامًا في الجزائر، فيمكن هزيمته في فلسطين. وبالذهاب إلى المقارنات، لا نحاول فهم الأحداث الجارية فحسب، ولكن أيضًا -وربما الأكثر إلحاحًا- تخيل ما سيأتي.
للمساعدة في تصور أشكال محتملة من المستقبل، يلجأ الناس إلى سلسلة من تواريخ إنهاء الاستعمار: جنوب إفريقيا، وفيتنام، وأيرلندا. ومن بين هذه التواريخ، غالبًا ما تلعب الجزائر دور الخيار الراديكالي. كانت حرب الاستقلال الجزائرية واحدة من الحالات التاريخية القليلة التي نجح فيها شعب مستعمَر في تفكيك نظام استعماري استيطاني من خلال الكفاح المسلح. وقد تحولت حركة بدأت بمجموعة صغيرة -وإنما مصمِّمة- من الرجال الجزائريين في العام 1954، إلى تمرد جماعي تمكن من طرد الحكومة الفرنسية. وفي العام 1962، ملأت احتفالات الاستقلال الشوارع لأيام عدة. وفي الوقت نفسه، فرّ حوالي مليون شخص -حوالي 10 في المائة من سكان الجزائر- من البلاد. وكان معظم الذين غادروا من المجموعة المعروفة بأسماء، المستوطنين، أو الأوروبيين، أو البيد-نوار (الأقدام السوداء)، ولكن كان من بينهم أيضًا جزائريون قاتلوا في السابق إلى جانب الجيش الفرنسي، والذين يُشار إليهم باسم "الحركيون"، بالإضافة إلى أكثر من 100.000 يهودي جزائري. وفي أعقاب هذا النزوح الجماعي، بنى الذين كانوا تحت الاستعمار سابقًا دولة جديدة لأنفسهم وحدهم.
في حين تتميز الجزائر بسلوك طريق العنف لإنهاء الاستعمار، غالبًا ما يتم تقديم جنوب إفريقيا لتمثل الدور المعاكس. ويجري عرض انتقال البلد من الفصل العنصري إلى الديمقراطية التمثيلية باعتباره الخيار السلمي لتفكيك مستعمرة استيطانية. وكما لخص الكاتب والناشط إياد البغدادي بإيجاز هذه الصيغة المألوفة على منصة "X"، فإن "النموذج الجزائري = حرب تحرير وطني تنتهي بطرد المستعمرين. ونموذج جنوب إفريقيا = عزلة دولية ونضال ضد الفصل العنصري ينتهي بإرساء الديمقراطية". بالنسبة للبعض، تمثل جنوب إفريقيا الخيار الجيد: مثالًا نادرًا على التعايش متعدد الأعراق عبر قسمة كولنيالية سابقة. وينظر آخرون إلى اللامساواة الاقتصادية والعرقية الدائمة في جنوب إفريقيا كدليل على أن عملية إنهاء الاستعمار فيها كانت غير مكتملة. ومن هذا المنظور، تظهر الجزائر، مع الرحيل الجماعي للمستوطنين منها، باعتبارها الحالة الوحيدة للإنهاء "الحقيقي" للاستعمار. ولآخرين، مع ذلك، يمثل نموذج جنوب إفريقيا التهديد الأكبر. في العام 2003، أعرب إيهود أولمرت، نائب رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، عن أسفه لأن الفلسطينيين "يريدون تغيير جوهر الصراع من النموذج الجزائري إلى نموذج جنوب أفريقي"، مما اعتبره "صراعًا بعيد الاحتمالات ضد ’احتلال‘" إلى "نضال من أجل ’رجل واحد - صوت واحد‘". وهنا، يبدو الاعتدال في جنوب إفريقيا من وجهة نظر إسرائيلية مخيفًا بشكل خاص لأنه يمهد الطريق لحركة "أكثر شعبية"، والتي يمكن أن تفضي إلى "نهاية الدولة اليهودية".
لطالما أثرت هذه الثنائية المتعارضة بين جزائر عنيفة وجنوب إفريقيا مسالمة على الحوارات حول مستقبل فلسطين. إنها تسطّح تاريخ كلا البلدين -كما لو أن استراتيجية واحدة موحدة وجهت كلا الصراعين؛ أو كما لو أن النضال من أجل التحرر من الموروثات الاستعمارية لم يكن جاريًا في كلا المكانين. وهي تتجاهل أيضًا دور النضال العنيف في الكفاح ضد الفصل العنصري، وتحجب عمل المنظمة شبه العسكرية "رمح الأمة" (1) في جنوب إفريقيا، فضلاً عن الحروب التي خاضتها حركات التحرير في ناميبيا وأنغولا وموزمبيق وزيمبابوي ضد نظام الفصل العنصري وحلفائه. في هذه المناقشات، غالبًا ما تكون تفاصيل ما حدث في الجزائر ضبابية بالمثل. هل كان طرد المستوطنين حقًا هو اشرط استقلال الجزائر؟ هل أجبَر الجزائريون المستوطنين على المغادرة، أم أن المستوطنين أنفسهم هم الذين قرروا الفرار؟
ليست هذه مجرد أسئلة فكرية. لطالما ربطت القوى المناهضة للفلسطينيين عمدًا بين إنهاء الاستعمار وبين القضاء على المستوطنين من أجل قمع التعبير وتجريم النشاط. عندما يعلن إيلون ماسك على منصة التواصل الاجتماعي التي يمتلكها أن "إنهاء الاستعمار" يعني بالضرورة إبادة "جماعية يهودية"؛ وعندما يمكن أن يؤدي الهتاف بعبارة "من النهر إلى البحر" إلى اعتقالك في ألمانيا؛ وعندما يمكن أن يؤدي حضورك مسيرة نُطقت فيها هذه الكلمات إلى طردك من وظيفتك في الولايات المتحدة، فإن الرسالة هي أن الاستعمار المستمر لفلسطين تبرره الحاجة إلى تجنب حدث افتراضي في المستقبل. لا يبدو مهمًا أن الحركات الفلسطينية أكدت على مدى عقود أنه ليس هدفها "رمي [اليهود] في البحر"، وإنما تفكيك دولة إسرائيلية مبنية على التفوق اليهودي. وفي اللحظة نفسها التي ترتكب فيها إسرائيل وحلفاؤها إبادة جماعية في غزة، وتكثِّف العنف في الضفة الغربية، وتهدد حياة الفلسطينيين في أماكن أخرى، يعمل شبح هذا الطرد الوهمي ليحجب الطرد الحقيقي جدًا الذي يعيشه الفلسطينيون منذ 76 عامًا. ويعني الإصرار على أن الفلسطينيين يجب أن يحاسَبوا على مستقبل الإسرائيليين صرف الانتباه عن السؤال المركزي: كيف يمكن إنهاء نظام استعماري وحشي.
وهكذا، بما أن هذه النسخة التبسيطية من التاريخ الجزائري يمكن أن تكون سلاحًا في أيدي القوى القمعية، سيكون فهم ماضي الجزائر -بما يتجاوز كونه شعارًا أو مرجعية للقياس- ضروريًّا لمواجهة الهجمات على نضالات إنهاء الاستعمار اليوم. ويمكن للمقارنة أن تصبح بسرعة فخًا، حيث تجعل الحالتين المطروحتين تبدوان أكثر استقرارًا وانفصالاً مما هما حقًا -وهو ما ينطوي على خطر تجميد عمليات إنهاء الاستعمار في نضالات وطنية منفصلة ومعزولة، مما يؤدي في هذه الحالة إلى طمس الروابط القائمة منذ وقت طويل بين الجزائر وفلسطين. لا ينبغي أن نسأل عما إذا كان ما حدث في الجزائر مشابهًا بشكل خاص لما يحدث في فلسطين، وإنما عن كيف يمكن أن تساعدنا قراءة هذه التواريخ معًا في التفكير بماهية إنهاء الاستعمار -ليس كنقطة نهاية، وإنما كعملية مستمرة. بالنسبة لأولئك الذين ناضلوا من أجل استقلال الجزائر، كان إنهاء الاستعمار ضرورياً، وإنما لا يمكن التنبؤ بمآلاته -حتى أن رحيل المستوطنين عن الجزائر، الذي أصبح مرادفًا تقريبًا لاسم الأمة، جاء كواحدة من العديد من المفاجآت. ومن شأن التفكير بعمق في إنهاء الاستعمار في الجزائر، وفهم منعطفاته غير المتوقعة، أن يمنحنا القوة وسط حالة عدم اليقين التي تشكل جزءًا من أي نضال من أجل التحرر.
"لا تجعلُ الثورة الجزائرية لنفسها هدفًا من ’إلقاء الجزائريين من أصل أوروبي في البحر‘، بل تهدف إلى تحطيم النير الاستعماري اللاإنساني". أصدرت "جبهة التحرير الوطني" الجزائرية هذا البيان في العام 1956. وفي الأعوام التي تلت ذلك، كرر الثوار الجزائريون الفكرة مرة تلو المرة: كان هدفهم هو إنهاء الاضطهاد الاستعماري وتحقيق السيادة للجزائريين، وليس طرد المستوطنين.
مع ذلك، في العام 1962، عندما أعلنت الجزائر استقلالها، سارع معظم الأوروبيين إلى مغادرة البلد. وملأت الصناديق الخشبية العملاقة الشوارع بينما يحزم الناس متعلقاتهم على عجل. وأغلقت الشرطة الطرق المؤدية إلى المطارات، حيث كان هناك عدد أكبر بكثير من الأشخاص الذين يحاولون المغادرة مقارنة بعدد المقاعد المتاحة في الرحلات الجوية. وتراكمت الاختناقات المرورية حيث تخلى الناس عن سياراتهم وتركوها على الأرصفة قبل أن يندفعوا إلى القوارب. وفي شهر حزيران (يونيو)، مع اقتراب الاستقلال، كان 350.000 شخص قد غادروا إلى فرنسا. وكتب مسؤولون فرنسيون في تقارير استخباراتية أن شكلاً من "الهستيريا" أو "الذهان" سيطر على المشهد. غادر نصف سكان الجزائر العاصمة في غضون أسابيع، والمباني البيضاء الشاهقة التي تعكس بريق أمواج البحر الأبيض المتوسط في المدينة، أصبحت فجأة فارغة بشكل غريب.
إذا لم يكن هذا النزوح هدفًا لحركة الاستقلال، فلماذا حدث إذن؟ يجب أن تبدأ أي إجابة بتعقب جذور الاستعمار الاستيطاني في شمال إفريقيا. كان الغزو الفرنسي للجزائر، الذي بدأ في العام 1830، منذ بدايته عملية عنيفة وفوضوية للغاية، حدثت "بالسيف والمحراث"، على حد تعبير أحد الجنرالات في القرن التاسع عشر -توماس روبرت بوجو. فقد اجتاح الجيش الفرنسي الريف، وأحرق المحاصيل وطرد الجزائريين من أراضيهم، وأعادت الدولة توزيع الممتلكات المصادرة على المهاجرين الأوروبيين الوافدين. وفي ذلك الحين، أيد الأكثر تطرفًا بين المستعمرين "إبادة" الجزائريين. واعتقد آخرون بأنه ما دام يتم جلب السكان الأصليين أقرب إلى "الحضارة"، فإن مقاومتهم سرعان ما تتلاشى. وكما يلاحظ المؤرخ حسني قيطوني، فإنه بحلول أوائل القرن العشرين، سيطرت الدولة الفرنسية ومستوطنوها على 66 في المائة من الأراضي الصالحة للاستخدام الزراعي في الجزائر، ونما عدد السكان الأوروبيين من قُرب الصفر إلى ما يقرب من المليون.
لمصلحة المستوطنين الأوروبيين، تم إعلان الجزائر جزءًا من فرنسا في العام 1848، وهي ما كانت مكانة فريدة للبلد بين المستعمرات الفرنسية. ولكن، بينما كان المستوطنون يتمتعون بحقوق المواطنة الفرنسية، فإن الغالبية العظمى من السكان -الـ90 في المائة الذين وُصفوا بأنهم "الأهالي" أو "السكان الأصليون"- كانوا يُحكمون كرعايا، ويُحرمون من جميع الحقوق المدنية ويتعرضون للقمع الوحشي. في ظل الفرنسيين، كان يمكن للمسؤول الاستعماري المحلي احتجاز الجزائريين تعسفيًا أو فرض غرامات جماعية عليهم. ولم يكن بإمكان الجزائريين السفر أو التجمع أو التحدث بحرية في بلدهم.
حوّل هذا النظام من عدم المساواة المجتمعات الدينية إلى مجتمعات عرقية، كما كتبت المؤرخة مريام هاله ديفيس. وفقًا للقانون الفرنسي، لم يكن "المسلم" فئة دينية، وإنما وضع يشير إلى أن الشخص المعني يخضع للحكم الاستعماري. على سبيل المثال، يمكن لشخص يولد "مسلمًا" أن يتحول إلى الكاثوليكية، لكنه سيظل مصنفًا على أنه "كاثوليكي مسلم" ويُعد تابعًا استعماريًا. وفي هذا التكوين العرقي، كانت الولادة تحدد السلامة الجسدية، والسلطة السياسية، والقدرة على الوصول إلى أثمن مورد في الجزائر (على الأقل حتى اكتشاف النفط هناك في الخمسينيات): الأرض.
كما استغل هذا النظام العنصري المفروض حديثًا أيضًا الانقسام بين الجزائريين المسلمين واليهود، ليزيد بذلك من التوترات القائمة بين المجتمعات لتعزيز القوة الفرنسية. على عكس المسلمين، كان للسكان اليهود الأصليين في الجزائر نظراء دينيون في فرنسا الحضرية، والذين كانوا حريصين على استيعاب إخوانهم في المشروع الإمبريالي الفرنسي. وفي العام 1870، وقّع وزير العدل الفرنسي، أدولف كريميو، الذي ينحدر هو نفسه من عائلة يهودية بارزة، مرسومًا يمنح الجنسية الفرنسية لليهود الجزائريين. ومن دون استشارة، تم تجنيد هذا العدد الصغير من السكان البالغ عددهم حوالي 40.000 شخص في الجانب الأوروبي من القسمة الاستعمارية. في وقت صدور المرسوم، كانت الدولة الفرنسية منخرطة في تفكيك أشكال المُلكية الإسلامية من أجل الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الأراضي للمستوطنين. والأهم من ذلك أن اليهود الجزائريين كانوا يمتلكون القليل من الأراضي، ولذلك لم يُثِر استيعابهم في صفوف المواطنين الفرنسيين عقبات كبيرة أمام الاقتصاد السياسي للاستعمار الاستيطاني. وعلى مدار الأجيال القليلة التالية، أصبح معظم اليهود الجزائريين ينظرون إلى فرنسا على أنها طريقهم إلى التقدم الاجتماعي، وأطلقوا على أولادهم أسماء فرنسية ومنعوهم من تعلم اللغة العربية. وكان من بين هؤلاء أجدادي الذين أصبحوا فرنسيين في الجزائر.
مع ضم اليهود في الجسم السياسي الفرنسي، شكل المسلمون منظماتهم السياسية الخاصة. ومنذ فترة ما بين الحربين العالميتين فصاعدًا، نظم المسلمون سلسلة من الحركات للمطالبة بالحقوق المدنية، لكنهم قوبلوا بالقمع الفرنسي. في العام 1945، رد الفرنسيون على المظاهرات المطالبة بالاستقلال في مدينتي سطيف وقالمة بذبح آلاف الجزائريين. وعلى الرغم من أن المسلمين تمكنوا من الحصول على تمثيل محدود في البرلمان الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن السلطات الاستعمارية زورت الانتخابات علنًا لمنع الأحزاب المؤيدة للاستقلال من الوصول إلى السلطة. وفي العام 1954، في أعقاب عقد من المناورات الانتخابية الفاشلة، قرّرت مجموعة صغيرة من الرجال تولي زمام الأمور بأيديهم. وفي 1 تشرين الثاني (نوفمبر)، شنوا سلسلة من الهجمات في جميع أنحاء الجزائر، وأطلقوا النار على ثكنات عسكرية ومستودعات نفط -وفي حادث مثير للجدل على اثنين من معلمي المدارس الفرنسية. وفي بيانهم، أطلقوا على أنفسهم اسم "جبهة التحرير الوطني".
كانت هذه بداية الثورة الجزائرية؛ أو ما سماها الفرنسيون "الحرب الجزائرية". ودعا بيان "جبهة التحرير الوطني" إلى الكفاح المسلح لتحقيق الاستقلال الوطني. من خلال تحقيق سيادتهم، كما اعتقد هؤلاء الرجال، يمكنهم حل عدم المساواة السائد في الوضع الاستعماري إلى مساواة بين دولتين متميزتين. وفي الجزائر المحررة، ستقدم "جبهة التحرير الوطني" للأوروبيين خيارًا: يمكنهم أن يختاروا الجنسية الجزائرية ويصبحوا متساوين مع كل أحد آخر، أو الاحتفاظ بالجنسية الفرنسية ومعاملتهم قانونيًا كأجانب. وكان البيان واضحًا: الجزائر المستقلة سوف "تحترم جميع الحريات الأساسية من دون تمييز عرقي أو ديني".
لكن الشكل الذي ستبدو عليه الجزائر المستقبلية بالضبط كان غير مؤكد. وردّت الحكومة الفرنسية على التمرد الأولي لـ"جبهة التحرير الوطني" بقوة عسكرية متطرفة -وفي السنوات التي تلت ذلك، واجه الذين يقاتلون من أجل التحرير قمعًا شديدًا حتى أنهم نادرا ما تمكنوا من الاجتماع لمناقشة وضع برنامج سياسي. وفي العام 1956، في ذروة جهود مكافحة التمرد، تم نشر أكثر من 400.000 جندي فرنسي في الجزائر. وفي العام نفسه، اختطفت القوات الفرنسية طائرة تقل أفرادًا من قيادة "جبهة التحرير الوطني"، واعتقلت أربعة من الرجال الذين أطلقوا التمرد. وبسبب القمع والتمزيق، وجدت قوات "جبهة التحرير الوطني" نفسها متناثرة عبر الحدود -مقاتلين في الجزائر، وقوات في المغرب وتونس المجاورتين، وقيادة سياسية متجولة في المنفى. وقد تنافست هذه الجماعات على السلطة، وقُتل العديد من أفراد المقاومة -ليس على يد الجيش الفرنسي وإنما على أيدي رفاقهم.
كان أعضاء "جبهة التحرير الوطني" متحدين في نضالهم من أجل الاستقلال، لكنهم لم يتفقوا على أي شيء آخر. ومع تقدم الحرب وتصاعد العنف الفرنسي الذي أفضى إلى إغلاق البدائل السياسية، انضم الناس من ذوي الآراء المتنوعة بشكل متزايد إلى المنظمة، من الإصلاحيين الإسلاميين إلى الشيوعيين إلى أولئك الذين سعوا في السابق إلى إحداث تغيير أكثر اعتدالاً يتحقق من خلال الوسائل القانونية. وكان هؤلاء جميعاً ملتزمين ببناء دولة جزائرية ذات سيادة، ولكن هل ستكون دولة اشتراكية؟ هل ستكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة للدولة، أم أنه سيكون هناك مكان للغات الأمازيغية الأصلية؟ حدد بيان "جبهة التحرير الوطني" أن الجزائر المستقبلية ستعمل "في إطار المبادئ الإسلامية"، ولكن ماذا يعني ذلك بالضبط؟
في مقابلة أجرتها معه في العام 1957 صحيفة ليبية، صاغ جنرال في "جبهة التحرير الوطني" الصراع على أنه معركة بين "قوى الشر" والمؤمنين المسلمين؛ وفي الأثناء، أعلن منشور صدر باسم "جبهة التحرير الوطني" أن الجمهورية الجزائرية المستقبلية ستكون علمانية. هل كان الهدف هو تنشيط الإسلام وتزويده بالطاقة من خلال تحريره من قيود دولة استعمارية وعلمانية معادية، مما يسمح له بتشكيل القاعدة الأخلاقية لمجتمع مسلم متجدد؟ أم أن النضال كان من أجل إلغاء العلاقة الاستعمارية بين الدين والعرق من خلال تشكيل مجتمع علماني لجميع الجزائريين؟ بعد التفكير لاحقًا بأثر رجعي، تبدو هذه الانقسامات صارخة، لكنها كانت في خضم القمع الاستعماري أقل أهمية من النضال لمقاومة الإبادة.
صورت وسائل الإعلام الفرنسية "جبهة التحرير الوطني" على أنها "قطاع طرق" و"خارجون عن القانون" وأناس ليس لديهم برنامج سياسي. إنهم "ينشرون فكرة أننا حركة متعصبين ومجانين هدفها الأساسي هو الإجلاء الكامل وغير المشروط للجزائريين من أصل فرنسي"، كما كتب أحد قادة "جبهة التحرير الوطني" المحلية في رسالة إلى الأوروبيين. وأكدت "جبهة التحرير الوطني" مرارًا وتكرارًا أن هدفها ليس استبدال نظام تفوق عرقي بآخر. وكما قال أحد الكتيبات المنشورة في العام 1961 بالقرب من الجزائر العاصمة: "أيها الجزائريون من أتباع الديانة اليهودية. وحدوا جهودكم مع جهود مواطنيكم المسلمين حتى تعيش الجزائر مستقلة. لقد عانى المسلمون الجزائريون من العنصرية، ولن يريدوا أن تُمارس غدًا ضد اليهود الجزائريين". وعندما انضم بعض الأوروبيين واليهود إلى النضال -عن طريق نقل الأموال أو الأسلحة، أو دفع المجندين الفرنسيين إلى الفرار من الجيش، أو الانضمام إلى حركة حرب العصابات في الجبال- أوضحت "جبهة التحرير الوطني" أنها تعتبر مساهماتهم أساسية.اضافة اعلان
جندي فرنسي ينظر إلى امرأة وطفل يسيران في شارع في الجزائر العاصمة ، 12 كانون الأول (ديسمبر) 1960 - (المصدر)
لكن برنامج "جبهة التحرير الوطني" لم يكن المحدد الوحيد للأحداث: سرعان ما تجاوزت وحشية الحرب المذهلة العنف البنيوي البطيء للاستعمار، ولامست كل جانب من جوانب المجتمع. أجبر الجيش الفرنسي ملايين الجزائريين على مغادرة قراهم إلى المخيمات، حيث يمكنه التحكم في حركتهم والحد من اتصالاتهم مع "جبهة التحرير الوطني"، واستخدم الجنود التعذيب والاغتصاب بشكل منهجي كأسلحة حرب. وفي العام 1955، قتل فلاحون مسلمون غاضبون عشرات الأوروبيين في مدينة سكيكدة الساحلية، بمن فيهم الأطفال. وقامت وسائل الإعلام الفرنسية بتهويل هذه الفظائع وتصويرها بطريقة أكثر دراماتيكية، مستحضرة صورًا كابوسية -وإنما لا أساس لها- لنساء حوامل بُقرت بطونهن؛ واستخدَم القادة الفرنسيون بدورهم هذه الفظائع الملفقة لتبرير المذابح وقتل عشرات الآلاف من المسلمين في المنطقة. كما ارتكب مقاتلو "جبهة التحرير الوطني" مذابح في القرى الجزائرية المتهمة بدعم الحركات القومية المنافسة. ولم يكن من الواضح دائمًا من كان يقتل من: على سبيل المثال، ما تزال حادثة اغتيال الشيخ ريموند (2)، الموسيقي اليهودي، في وضح النهار في العام 1961، من دون حل حتى يومنا هذا. لم تستطع أي مجموعة واحدة من الجهات الفاعلة السيطرة على أهداف العنف وطبيعته.
وصول المستعمرين إلى مرسيليا عائدين من الجزائر، 20 تموز (يوليو) 1962 - (المصدر)
*آرثر أسراف Arthur Asseraf: أستاذ مشارك في التاريخ بجامعة كامبريدج. وهو مؤلف العديد من الكتب باللغتين الفرنسية والإنجليزية عن تاريخ الاستعمار، وشمال إفريقيا، والإعلام. يُكتب اسمه أحيانًا آرثر الصراف، بالنظر إلى أصوله المغربية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان The Algeria Analogy، في مجلة "تيارات يهودية" Jewish Currents.
هوامش المترجم:
(1) "رمح الأمة"، uMkhonto weSizwe، هو الجناح العسكري السابق لحزب "المؤتمر الوطني الإفريقي" (ANC) في جنوب إفريقيا، الذي تأسس في العام 1961 لمقاومة نظام الفصل العنصري.
(2) الشيخ ريمون Cheikh Raymond: موسيقي يهودي جزائري اشتهر كواحد من أبرز أعلام موسيقا المالوف؛ الطابع الأندلسي التقليدي في الجزائر، وخصوصًا في مدينة قسنطينة. تم اغتياله بالرصاص في 22 حزيران (يونيو) 1961 في سوق قسنطينة، ويُعتقد أن العملية كانت مرتبطة بالصراع الوطني، حيث نظر إليه البعض على أنه رمز للوجود الفرنسي رغم أنه لم يكن معروفًا بمواقفه السياسية الصريحة. أدى مقتله إلى نزوح جماعي لليهود الجزائريين إلى فرنسا، حيث شعروا أنهم لم يعودوا آمنين في الجزائر المستقلة.
0 تعليق