"الحقيبة أو الكفن": النضال الفلسطيني والنموذج الجزائري (2-2)

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

‏آرثر أسراف*‏ - (جويش كرنتس) 20/12/2024
حتى بينما كان العنف المتسارع يتجاوز سريعًا القرار الاستراتيجي لـ"جبهة التحرير الوطني" بمواصلة الكفاح المسلح ضد فرنسا، كانت أعمال الجبهة ناجحة في تصعيد التكاليف -الاقتصادية والمتعلقة بالسُّمعة- المترتبة على استمرار وجود فرنسا في الجزائر بشكل هائل. وقد اندلعت التوترات السياسية في فرنسا خالقة أزمة للحكومة. وفي العام 1958، نفذ الجيش الفرنسي ونشطاء المستوطنين في الجزائر -مصممين على منع المفاوضات مع "جبهة التحرير الوطني"- انقلابًا أطاح بـ"الجمهورية الفرنسية الرابعة" في باريس. ودخلت الحكومة الجديدة، بقيادة شارل ديغول، في نهاية المطاف في محادثات مريرة مع المجموعة، على الرغم من المحاولات الكثيرة لعرقلة العملية وإخراجها عن السكة. وفي آذار (مارس) 1962، توصل الجانبان إلى اتفاق أعلن وقفًا فوريًا لإطلاق النار ووضع إطارًا انتقاليًا لاستقلال الجزائر. وحددت المعاهدات، التي أطلق عليها اسم "اتفاقات إيفيان" (نسبة إلى البلدة الواقعة على الحدود الفرنسية السويسرية حيث تم التوقيع عليها)، بتفصيل دقيق ما سيحدث للأوروبيين في الدولة الجزائرية الجديدة. وعلى الرغم من أن بعض الأوروبيين كانوا قد غادروا إلى فرنسا مُسبقًا، إلا أن كلا الجانبين قدّرا أن أغلبية منهم -600.000 على الأقل من أصل مليون- سوف تبقى. كان الاتفاق مواتيًا جدًا لهم. على سبيل المثال، سوف يتمتعون بتمثيل محلي خاص في مدينتي وهران والجزائر العاصمة حيث يشكلون غالبية السكان. وقد ندد الكثيرون داخل "جبهة التحرير الوطني" بهذه التسوية باعتبارها استسلامًا غير مقبول، وامتدادًا للهيمنة الاستعمارية. ‏
لكن هذا المستقبل المتخيل لم يُكتب له أن يتحقق. رفضت أقلية فرنسية متشددة قبول استقلال الجزائر تحت أي ظرف من الظروف، وانفجرت بعض أسوأ أعمال العنف في الصراع بأكمله في الأشهر الأربعة بين إعلان وقف إطلاق النار وتموز (يوليو)، عندما أسس استفتاءٌ استقلال الجزائر رسميًا. في آذار (مارس)، تم وضع المواطنين الفرنسيين الذين تظاهروا ضد الاستقلال في شوارع الجزائر العاصمة تحت حظر للتجول ثم أطلَق جيشهم النار عليهم. وشكل بعض النشطاء الأوروبيين منظمة سرية، "منظمة الجيش السري"، التي شنت حملة أرضٍ محروقة لمنع الانتقال السلمي للسلطة -حيث مارست التفجير، والاختطاف،اضافة اعلان


Image1_3202542248210345959.jpg

قادة الثورة الجزائرية، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف، مصطفى لشرف، محمد خضر، وأحمد بن بلا، الذين اعتقلتهم فرنسا، 24 تشرين الأول (أكتوبر) 1956

 

والقتل في كل من الجزائر وفرنسا، مع شعورها المتزايد باليأس. وفي 7 حزيران (يونيو)، نفذ أعضاؤها العمل سيئ السمعة المتمثل في إشعال النار في مكتبة جامعة الجزائر العاصمة، حيث أحرقوا آلاف الكتب. وفي الوقت نفسه، بمجرد الفوز بالاستقلال فعليًا، انضم العديد من الجزائريين إلى "جبهة التحرير الوطني"، واستغلوا الاضطرابات كفرصة لتسوية الضغائن والنزاعات الشخصية. وارتكبوا بشكل عشوائي أعمال عنف ضد الأوروبيين، بما في ذلك عمليات الاختطاف والقتل العشوائية التي لم تأذن قيادة "جبهة التحرير الوطني" بأي منها. وبينما كافح التنظيم لبسط سيطرته على أنصاره، عانى أيضًا من الخلافات الداخلية، حيث ظهرت فصائل مختلفة إلى المقدمة على أمل السيطرة على الدولة الجديدة.‏
كان في هذا الجو من الرعب الفوضوي حين شرع الأوروبيون في الفرار. لم يطلب منهم أحد أن يذهبوا: لا الحكومة الفرنسية، ولا "منظمة الجيش السري"، ولا "جبهة التحرير الوطني". بدلاً من ذلك، أخذ النزوح الجماعي في البناء على نفسه بلا هوادة، حيث شاهد الناس جيرانهم وأفراد أسرهم يغادرون واختاروا أن يحذوا حذوهم.

 


Image1_32025422449634795918.jpg

‏متظاهرون يلوحون بالأعلام الجزائرية خلال "ثورة ديسمبر" ضد الحكم الفرنسي، الجزائر العاصمة، 11 كانون الأول (ديسمبر) 1960 – (من المصدر)‏

 

وحتى عندما غادر الناس بعشرات الآلاف، كان قليلون هم الذين فهموا أن ثمة هجرة تاريخية تحدث. واستمرت "منظمة الجيش السري" في الدعوة إلى مواصلة المقاومة في حزيران (يونيو)، حتى عندما كان أساس كفاحها نفسه قد تبخر. وفي الشهر نفسه، توقعت قمة "جبهة التحرير الوطني" أن وجود عدد كبير من السكان الفرنسيين المعارضين للاستقلال سيكون "واحدة من أخطر المشاكل التي يتعين على الدولة الجزائرية حلها". وكما ‏‏لاحظت‏‏ المؤرخة مليكة رحال في كتابها الأخير عن العام 1962، بدا من المرجح في ذلك الوقت أنه بدلاً من المغادرة، ستبقى أقلية ناقمة من المستوطنين للقتال وجعل تحقيق دولة جزائرية مستقلة قابلة للحياة مستحيلًا. وقد أصيبت الحكومة الفرنسية بالذهول من وصول مئات الآلاف من الناس إلى موانئها ومطاراتها، وسارعت إلى إيوائهم -حتى أن بعض الذين غادروا الجزائر كانوا مقتنعين بأنهم سيعودون، ربما بعد العطلة الصيفية. وكان عند حدوث الرحيل فعليًا فقط حين أصبح يبدو وكأنه النتيجة الوحيدة الممكنة.‏
بمرور السنين،‏‏ غيرتُ رأيي بشأن معنى هذا النزوح. لقد تربيت ونشأت على يد أشخاص غادروا. لم تكن عائلتي من المستوطنين؛ كانوا موجودين في المغرب قبل وقت طويل من وصول الفرنسيين. ولكن بالنسبة لهم، كما هو الحال بالنسبة للعديد من اليهود الآخرين، عنى إنهاء الاستعمار مغادرة بلدهم. وبينما كنتُ أكبر، قيل لي إن المغادرة كانت أمرًا لا مفر منه، وإن شمال إفريقيا كان مغلقًا أمامنا. وقد حاولت تحدّي هذه القصص، على الصعيدين الشخصي والمهني، كمؤرخ لتاريخ الاستعمار في الجزائر.‏
وُلد أجدادي في الجزائر، لكنهم انتقلوا إلى المغرب عندما اندلعت الحرب، وفي العام 1956 غادروا الدار البيضاء إلى فرنسا مع أبي. وقد اتخذ إنهاء الاستعمار شكلاً مختلفًا في المغرب، وربما لهذا لم يخبروني بقصص الحرب المؤلمة -لكنهم احتفظوا في الحقيقة بإحساس قوي بأن المسلمين لا يريدون العيش معنا. ويعبِّر اليمين الفرنسي عن نسخة أكثر تطرفًا من هذا الشعور. حتى يومنا هذا، يواصل أنصار "المنظمة العسكرية السرية" التنديد بخطة خيالية وضعتها "جبهة التحرير الوطني" للانخراط فيما يسمونه "التطهير العرقي" والقضاء على السكان الأوروبيين في الجزائر.‏
في حين أن هذه الروايات تلقي باللوم على "جبهة التحرير الوطني" بالكامل في النزوح الجماعي، تميل أخريات إلى إلقاء اللوم على أولئك الذين غادروا، وتقرأ رحيلهم على أنه بيان سياسي واضح. في الذكرى الستين لتأسيس الدولة الجديدة، قال جوزيف مسعد، الباحث في دراسات الشرق الأوسط، إنه في الجزائر، "كان الاستقلال سيجلب المساواة بين المستوطنين والسكان الجزائريين الأصليين، لكن المستوطنين الاستعماريين رفضوا ذلك تمامًا. مذعورين من احتمال المساواة وفقدان الامتيازات الاستعمارية والعرقية، اختاروا العودة إلى فرنسا حيث سيتم الحفاظ على امتيازهم الأبيض". ويتجاهل هذا التحليل الأنيق حقيقة أن الناس غادروا لأسباب متنوعة، كما يفعلون غالبًا في أوقات عدم اليقين والحرب. وبمعاملة المغادرة على أنها عمل متماسك أيديولوجيًا، يحجب التحليل أيضًا مسألة مئات الآلاف من الجزائريين المسلمين الذين دعموا الاستقلال، لكنهم غادروا أيضًا إلى فرنسا خلال هذه الفترة -وكان معظمهم يسعون ببساطة إلى كسب لقمة العيش عن طريق مغادرة بلد دمره أكثر من قرن من الاستغلال الاستعماري وسنوات من الحرب. وقد جاء هؤلاء إلى فرنسا وهم يحملون جوازات السفر الجزائرية الجديدة، وسُموا مهاجرين. وقد نشأتُ أنا نفسي في فرنسا مع أناس جاء آباؤهم أيضًا من شمال إفريقيا لأسباب مختلفة وبأوضاع مختلفة. من المؤكد أن الاستعمار الاستيطاني يسيس الحركَة والإقامة بلا هوادة، لكن الفعل الأساسي المتمثل في البقاء أو الرحيل لا يدل في حد ذاته على الموقف السياسي للشخص المعنيّ.‏
بالنسبة لأولئك الذين تربوا ونشأوا مثلي على يد الذين غادروا، أصبحت مشكلة الكيفية التي نسرد بها هذه القصة الآن ملحة: كيف يمكننا أن نحول دون تحريف تاريخ مغادرتنا نحن لخدمة الاستعمار المستمر لفلسطين؟ لستُ أنا الوحيد المهتم بمثل هذه الأسئلة. في أحد الأيام في العام 2015، صادفتُ رسالة أعيد نشرها على مدونة المؤرخ الفرنسي، بيير جان لو فول لوسياني، كان قد كتبها رجل يدعى ويليام سبورتيس. وكان سبورتيس، الذي ولد لعائلة يهودية جزائرية في العام 1923، شيوعيًا طوال حياته وشارك في النضال من أجل التحرير، ونشر الدعوة إلى استقلال الجزائر على الإذاعة، باللغتين العربية والفرنسية، من العام 1953 إلى العام 1955 في المجر الشيوعية. وفي العام 1955، بعد اندلاع الثورة، عاد إلى الجزائر، حيث ذهب إلى العمل السري ونشر المنشورات الثورية. وقد نشأ هذا النشاط الثوري، كما أوضح لاحقًا في فيلم وثائقي في العام 2019، من معايشته آثار العنصرية ومعاداة السامية كيهودي، والرغبة في المشاركة "في النضالات الشعبية" من أجل "انعتاق البشرية ككل". ومثل العديد من رفاقه الشيوعيين الأوروبيين واليهود، اختار سبورتيس البقاء في الجزائر بعد العام 1962 والمشاركة في بناء الدولة الجديدة. ‏
كانت الرسالة التي عثرت عليها بالصدفة قد كتبت إلى الرئيس الجزائري هواري بومدين في العام 1967، مع اندلاع حرب الأيام الستة. وفيها أشاد سبورتيس ببومدين لدعمه النضال الفلسطيني وكرر إدانته الخاصة المقيمة للصهيونية. وكتب:‏
‏"بصفتي يهوديًا جزائريًا عانت عائلته من الهتلرية، سوف أنكر على هذه الدولة [إسرائيل]، التي لا تُدين العنصرية وتمارسها تجاه عرب فلسطين، الحق في تقديم نفسها على أنها ’مدافعة‘ عن مصالح الطبقات العاملة اليهودية... لم تحدث المذابح المعادية لليهود في القرنين التاسع عشر والعشرين في البلدان العربية. لقد حدثت في البلدان الأوروبية التي تهيمن عليها الرأسمالية".‏
عندما قرأت هذا النص لأول مرة، أدهشني وضوح التفكير اليهودي المناهض للاستعمار في شمال إفريقيا. لقد عارض أعضاء من الجيل السابق الاستعمار في شكليه الفرنسي والصهيوني. وشعرت وكأنني وجدت لنفسي سلَفًا -شخصًا بقي للقتال من أجل بلده. ‏
‏لكن شعوري بالإثارة كان ممزوجًا بالحزن: كتبَ سبورتيس هذه الرسالة من السجن. في ظل "جبهة التحرير الوطني"، شهدت الدولة الجديدة توطيدًا تدريجيًا لدولة الحزب الواحد التي تصبح أكثر قمعية باطراد، والتي انقلبت على العديد من حلفائها السابقين. بعد انقلاب عسكري في العام 1965، سُجن سبورتيس مع العديد من زملائه الشيوعيين. ووجد النشطاء الذين تعرضوا للتعذيب على أيدي الفرنسيين أنفسهم وهم يتعرضون للتعذيب مرة أخرى على يد أشخاص كانوا يسمونهم ذات مرة رفاقًا. كان سبورتيس من بين هؤلاء، وعوقب -ليس فقط على شيوعيته، ولكن لأنه -على الرغم من موقفه الواضح المناهض للصهيونية- اتُّهم بالصهيونية من الجندي الجزائري الذي عذبه في السجن.‏
تأثر مسار الدولة الجزائرية الجديدة بشدة بالخروج الجماعي للأوروبيين واليهود. وفي غياب الحاجة إلى التفاوض مع تلك الجماهير، تمكنت الحكومة من المضي قدمًا بأجندة ثورية، وتنفيذ برنامج اقتصادي جذري في أعقاب الرحيل الجماعي. في العام 1962، قُدر أن الأقلية الأوروبية -حوالي 10 في المائة من السكان- تسيطر على 75 في المائة على الأقل من الصناعة والزراعة والتجارة. وكانت النسبة، وفقًا لبعض الروايات، 90 في المائة. وسرعان ما انتقل الجزائريون إلى الشقق والمزارع التي تُركت فارغة. وفي كثير من الأحيان، ورِثوا حتى الأثاث الذي لم يأخذه الشاغلون السابقون معهم. وبعد بضعة أشهر من الاستقلال، في آذار (مارس) 1963، قامت الحكومة بتأميم كل هذه "الممتلكات الشاغرة" وأعادت توزيعها لاحقًا، منهية بذلك، بضربة واحدة، أكثر من قرن من نزع الملكية الاستعماري. وربما كان هذا أكبر إنجاز منفرد للثورة الجزائرية. 
ولكن، حتى بينما حطمت الثورة الأنظمة العسكرية والسياسية والاقتصادية للمستعمرة الاستيطانية، فإنها لم تقم بحل الفئات القانونية الاستعمارية. في الشهر نفسه الذي أعلنت فيه عن تأميم الممتلكات الشاغرة، أعادت الحكومة الجديدة تسجيل التسميات العنصرية الفرنسية في الدولة الجديدة، وأصدرت قانون الجنسية، الذي -لأغراض الجنسية- يعرف "الجزائري" بأنه الشخص الذي اعتبر الفرنسيون أسلافه الذكور "مسلمين" قانونًا. ولا يمكن للآخرين الحصول على الجنسية الجزائرية إلا إذا تمكنوا من إثبات مشاركتهم في النضال من أجل التحرر. وقد ندد حسين آيت أحمد، أحد القادة الأصليين لـ"جبهة التحرير الوطني"، بهذا النظام الطبقي باعتباره "غير لائق" تجاه "الإخوة الأوروبيين" الذين شاركوا في النضال من أجل الاستقلال، والذين سيتعين عليهم الآن إثبات ولائهم. وسرعان ما شملت التأثيرات نطاقًا أوسع: تمشيًا مع التركيز على مجتمع إسلامي مفرد كأساس للأمة، عرّفت الحكومة الجديدة الجزائر على أنها كيان "عربي مسلم"، جامعة معًا بين اللغة والدين. ولم يقتصر الأمر على طرد الناطقين باللغة العربية غير المسلمين مثل أجدادي فحسب، بل أدى أيضًا إلى تهميش العدد الأكبر بكثير من المسلمين الأمازيغ الذين لعبوا دورًا محوريًا في النضال من أجل الاستقلال. ‏
‏عندما قرأت رسالة سبورتيس لأول مرة، أدهشني أنه وآخرين مثله رفضوا تجنيدهم في صفوف الاستعمار الفرنسي وكرسوا حياتهم لمحاربته. كان هؤلاء دليلاً، كما كتب أحد كبار أعضاء "جبهة التحرير الوطني"، فرانتز فانون، في ‏"‏دراسات في استعمار محتضر" Studies in a Dying Colonialism، على أنه‏‏ "ليس صحيحًا أن اليهود يقفون مع الاستعمار وأن الشعب الجزائري يرفضهم ويضعهم في معسكر الظالمين". ولكن في النهاية، لم يكن أي من هذا مهًما. كما كان الحال مع العديد من زملائه اليهود المغاربيين المناهضين للاستعمار -من إبراهيم السرفاتي في المغرب إلى جيلبرت نقاش في تونس- لم يؤد التزام سبورتيس بالتحرر ولا معاداته للصهيونية إلى إعفائه من الاضطهاد السياسي والاتهامات بالولاء الأجنبي.
‏الآن، أصبحت أرى الرسالة نفسها بشكل مختلف. في السنوات التي مرت منذ لقائي لأول مرة مع سبورتيس، غيّر حاضر فلسطين القائم الطريقة التي أنظر بها إلى الماضي في شمال إفريقيا. بعد أن بدأت في تعلم اللغة العربية لدراسة تاريخي الخاص، قادني أساتذتي الفلسطينيون إلى قضاء المزيد من الوقت في الاجتماعات والمسيرات من أجل فلسطين. وقد توصلت إلى رؤية النضال ضد الاستعمار -لا كمشكلة تاريخية يمكن الحكم عليها لاحقًا من مسافة مريحة، بقدر ما هي مشكلة دائمة ومستمرة. لم أعد أنظر وراءً إلى سبورتيس بما أسماه المؤرخ إي بي طومسون "النظرة المتعالية للأجيال القادمة". إنني أدرك أنه في خضم الاضطرابات، يتعين علينا أن نفعل ما في وسعنا مع الظروف المتاحة. إن المرء لا ينخرط في النضال السياسي لأنه يعرف النتيجة مسبقًا، ولكن لأنه يرفض القبول بظروف الحاضر. ‏
على غرار استعمار الشعب الجزائري، يجب أن ينتهي استعمار الشعب الفلسطيني. لقد جلب ألمًا لا يحصى للفلسطينيين، والسماح له بالاستمرار يحط من شأننا ويمس بكرامتنا جميعًا. من الغريب أن ينظر بعض الناس إلى تجزئة الفلسطينيين واحتلالهم وإبادتهم الجماعية، ثم يطالبونهم -كشرط مسبق لدعم تحريرهم- بتحديد الشكل الذي ستبدو عليه فلسطين خالية من الاستعمار بالضبط. لست في حاجة إلى معرفة كيف سيبدو إنهاء الاستعمار في فلسطين حتى أناضل من أجله. إن من المستحيل معرفة مثل هذه النتيجة -ولا يجعلها عدم اليقين هذا أقل أهمية بأي مقدار. ‏
‏لا يعني الاعتراف بأن الثورات هي نتاج التقلبات والمنعطفات والطوارئ التاريخية التخلي عن أي أمل فيها. على العكس من ذلك، إنه يجعلنا ننفتح على فهم تشابك النضالات عبر الزمان والمكان. لا يمكن أن تكون فلسطين تكرارًا للجزائر لأنه تم الربط بين البلدين منذ فترة طويلة. في الواقع، كانت القضية الفلسطينية تكوينية في صعود القومية الجزائرية. لدى مراقبة ثورة 1936-1939 في فلسطين، رأى الجزائريون صورة طبق الأصل لنضالهم ضد الاستعمار. وبعد نجاح استقلال الجزائر، بنت "منظمة التحرير الفلسطينية" على نموذج "جبهة التحرير الوطني": وكما قالت إحدى وثائق حركة "فتح" في العام 1965، "أثبتت التجربة الجزائرية المجيدة أن اعتقادنا صحيح بأن الكفاح المسلح هو الذي يوحد القاعدة الشعبية". وظل الجزائريون، بدورهم، مؤيدين متحمسين للفلسطينيين: بعد الاستقلال، قاموا بتدريب أعضاء "فتح" مثل خليل الوزير، وقدموا الأسلحة، ثم ضغطوا لاحقًا من أجل الاعتراف بـ"منظمة التحرير الفلسطينية" كممثل وحيد للشعب الفلسطيني. واليوم، بينما تضغط الجزائر من أجل وقف إطلاق النار في غزة من خلال دورها في "مجلس الأمن الدولي"، ما يزال من الواضح، على حد تعبير الناشط والكاتب خالد بركات، أن "فلسطين هي قضية وطنية جزائرية".‏
‏في محاولتنا لتخيل المستقبل، يشكل التاريخ الجزائري تذكيرًا بأن النماذج لها فائدة محدودة عندما يتعلق الأمر بخبرة إنهاء الاستعمار. إن إنهاء الاستعمار هو عملية دينامية تشمل أكثر من مجموعة واحدة من الجهات الفاعلة وتؤدي إلى نتائج غير متوقعة. وتتحدد هذه النتائج -في جزء منها- من خلال التصورات عما يكون المستوطنون مستعدين لتخلية بشأن السيادة، وليس فقط من خلال سياسات الحركات المناهضة للاستعمار. كما يقدم تاريخ إنهاء الاستعمار تذكيرًا بأن أكثر الأطر المؤسسية حذرًا يمكن أن تصبح عديمة الفائدة بسرعة بفعل الحقائق على الأرض. في الجزائر، أدى مزيج من رفض العديد من الأوروبيين الامتثال لقرارات المفاوضين إلى جانب عجز الحكومتين عن ترويض العنف الهائل الذي اندلع خلال الاستعمار والحرب الوحشية، إلى نتيجة غير متوقعة. وبالنسبة لي، فإنني أتحول إلى التاريخ ليس لمعرفة نقطة النهاية، وإنما لتوسيع إحساسي بما يعنيه النضال من دون معرفة المستقبل. ‏
‏في الأشهر الأخيرة من الحرب الجزائرية، شاعت عبارة جديدة بين أولئك الذين أرادوا بقاء البلاد تحت الحكم الفرنسي: "La valise ou le cercueil"، "الحقيبة أو التابوت". قالوا إن هذين هما الخياران الوحيدان اللذان أمامنا: نغادر أو نموت. وادعى الأوروبيون أن الجزائريين هم الذين صاغوا العبارة كتهديد، بينما قال الجزائريون إن الفرنسيين هم الذين ابتكروها لتبرير العنف القاتل الذي مارسه المستوطنون. وفي كلتا الحالتين، لخصت العبارة ما اعتبره العديد من الأوروبيين المسارين الوحيدين أمامهم في ذلك الحين. وقد اختار معظمهم الحقيبة. ‏
‏إنني أرفض هذه اللعبة التي محصلتها صفر. في الآونة الأخيرة، كنت أفكر في التابوت والحقيبة، محاولًا العثور على معنى جديد لهذين الكائنين. إن الاختيار الذي نحتاج إلى القيام به ليس بين الموت والرحيل، ولكن بين قبول الأمور كما هي عليه الآن، والنضال من أجل الوضع التي يمكن أن تكون عليه. لقد بنت إسرائيل تابوتًا عملاقًا ابتلع الفلسطينيين. ويمكننا أن نحكم على شعب بأكمله بالبقاء محبوسًا فيه، أو يمكننا جمع كل ما يمكننا جمعه للتحرك نحو مستقبل غير مؤكد.

 

 


Image1_32025422525596013798.jpg

‏*آرثر أسراف Arthur Asseraf: مؤرخ فرنسي متخصص في تاريخ فرنسا الحديثة وشمال أفريقيا، مع اهتمام خاص بتاريخ الاستعمار، ووسائل الإعلام، والعرق. حصل على الدكتوراه من جامعة أكسفورد، ويشغل منصب أستاذ مشارك في تاريخ فرنسا والعالم الفرانكفوني في جامعة كامبريدج، وزميل في كلية بمبروك. تركز أبحاثه على تاريخ الإعلام في الجزائر الاستعمارية. نشر كتابه الأول بعنوان "أخبار كهربائية في الجزائر الاستعمارية" (Electric News in Colonial Algeria) في العام 2019، وحصل على جائزة كتاب دراسات الشرق الأوسط، في العام 2022. وله كتاب بعنوان "المضلل: على خطى مسعود جباري" (Le désinformateur: sur les traces de Messaoud Djebari). كما كان أحد منسقي مشروع "الاستعمارات: تاريخنا" (Colonisations: Notre Histoire) الذي جمع أكثر من 260 باحثًا من جميع أنحاء العالم لتقديم أحدث الأبحاث حول الاستعمار الفرنسي وتأثيراته المستمرة. يُكتب اسمه أحيانا آرثر الصراف، بالنظر إلى أصوله المغربية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان The Algeria Analogy، في مجلة "تيارات يهودية" Jewish Currents. 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق