ما من شيء يُسلّط الضوء على فكر النخبة من مسيحيي فلسطين بقدر ما قاله أمين عام الجبهة الشعبية سابقاً، جورج حبش، حين عرّف ذاته “أنا إسلاميّ التربية، مسيحيّ الديانة، اشتراكيّ الانتماء”.اضافة اعلان
ولعل ما من حادثة تخرج بحالة التعايش بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين، من خانة التنظير والبرج العاجي إلى الواقع المعيش، بقدر حصار كنيسة المهد في العام 2002 واحتماء المقاتلين الفلسطينيين فيها.
وعلى الرغم من الأزمة التي تفاعلت في 2017 حول تورّط الكنيسة الأرثوذكسية ببيوعات أراضٍ في القدس، فإنّ موقف المسيحيين في فلسطين لم يتغير، بل تصدّروا مشهد الاستنكار والتبرّؤ مما حدث حين اعترض مئات المصلّين منهم موكب بطريرك الروم الأرثوذكس كيريوس ثيوفيلوس وقذفوه بالبيض؛ لمنعه من الوصول لكنيسة المهد في بيت لحم، ما اضطر قوات الأمن الفلسطينية آنذاك لتهريبه بسيارة.
المسيحيون في فلسطين ارتبطوا بشكل كبير بالهجرات لأميركا اللاتينية قبل حدوث النكبة الفلسطينية، والذين أسّسوا جاليات فلسطينية أوصلت بعض أفرادها لسدّة الحكم كما في هندوراس، حين حَكَمَ هناك كارلو فقوسة، وفي السلفادور حين أمسك أنطونيو سقا بالحكم أيضاً، ليظهر أنّ التواجد المسيحي الأكثف للفلسطينيين موجود في تشيلي.
ولم يكن مسيحيّو فلسطين، الذين يتبع معظمهم الكنيسة الأرثوذكسية في القدس، العامود الفقري للتشكيلات اليسارية بشكل رئيس فحسب؛ بل كان لهم قصب السبق تعليمياً ومهنياً وثقافياً واقتصادياً؛ لإفادتهم من الميزات التي كانت تمنحهم إياها الكنيسة على المستويات كافة، وأهمها؛ التعليمية والطبية، وهي التي أفاد منها المجتمع الفلسطيني والعربي؛ المسيحي والمسلم على السواء، من دون تفرقة.
وحين اتهم اليمين اللبناني الحركة الوطنية الفلسطينية بإخلال المعادلة السكانية في لبنان، إبّان تواجد منظمة التحرير الفلسطينية هناك، فإنّ الردّ الذي انبرى مثقفون فلسطينيون كثر لتصديره، وعلى رأسهم الدكتور عزالدين المناصرة، كان مفاده أنّ المعيار الديني غير وارد في تقسيم قوى المنظمة ومقاتليها، وهو ما كان بالفعل مشهوداً له آنذاك؛ إذ لم تكن الحركات الإسلامية قد ظهرت بعد، كما أنّ الثورة الإسلامية في إيران لم تكن قد ألقت بظلالها على العالمين؛ العربي والإسلامي.
وحين ذهب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات للزواج من سهى الطويل، المسيحية الفلسطينية، كان حبش شاهداً على عقد زواجه برغم خلافاتهما العميقة أيديولوجياً وسياسياً.
السابق كله، أسّس لمزيد من حالة التعايش الحقيقي الموجود، ما قبل الاحتلال وفي أثنائه، وفي ظل الحركة الوطنية الفلسطينية. بل إن مفاوِضة يُشار إليها بالبنان كما الدكتورة حنان عشراوي، قد باتت الواجهة الإعلامية لمنظمة التحرير الفلسطينية في الغرب على وجه التحديد.
كذلك حين سُئل حبش ذات حوار عن منتسبات الجبهة الشعبية اللاتي يرتدين الحجاب، كان ردّه أنه إلى حين تحرير فلسطين فإن مجرد النقاش الفكري حول هذا الأمر محض ترف. ولطالما كان حبش، المسيحي، ورفيقه وديع حدّاد، المسيحي أيضاً، ينجوان من هذه الجدلية برمّتها (مسلم- مسيحي) من خلال التمترس بالقومية العربية وإعلاء شأنها؛ لتكون بديلاً عن جدالات تقع في باب الترف الذي لا تحتمله ظروف الثورة.
وقد كان الناطق الإعلامي الأشهر باسم منظمة التحرير الفلسطينية، كمال ناصر، من بين مسيحيّي فلسطين البارزين، وهو من دفع حياته ثمناً لمنصبه؛ حين هاجمته فرقة إسرائيلية في منزله في منطقة الفردان في بيروت فسقط شهيداً بعد إفراغ وابل من الرصاص في فمه وقذالته، ومن ثم صلبه، وهو ما التقطته الكاميرات آنذاك عند انكشاف الجريمة.
ارتبط اسم مسيّحيي فلسطين بالطبقة المستنيرة ثقافياً والتي قدّمت نتاجاً فكرياً حمَل صبغة العالمية كما المحلية، وعلى رأس هؤلاء المفّكر إدوارد سعيد، الذي كان منتمياً لعائلة فلسطينية مسيحية قطنت القدس والقاهرة ومن ثم أميركا، فانعكس التنوّع الجغرافي اللافت على النتاج الذي قدّمه والذي كان يهجس بشكل رئيس بالعلاقة بين قطبي الشرق والغرب، سياسياً وفكرياً وثقافياً وتاريخياً. وكذلك كان لشقيقته روزماري سعيد بصمتها اللافتة في صحف عالمية.
اسم آخر كان بارزاً في حقل النتاج الفكري هو خليل السكاكيني، الذي تنقّل جغرافياً في بلاد عدة هو الآخر، ما انعكس على نتاجه، وهو من كان يتعامل مع اللغة العربية بتقديس بالغ، حتى حين كان ينشر في مطبوعات في أميركا، وقد كان له بالغ الأثر في حقل التربية وتعليم اللغة العربية وإيجاد موطئ قدم جيد للصحافة الفلسطينية في العالم العربي.
وفي وقت كان فيه العالم العربي مستغرقاً في عصوره الظلامية، كانت مي زيادة تتصدّر المشهد، ليتوافد الأدباء على مجلسها من أنحاء العالم العربي، وهي التي أتقنت تسع لغات ودرّست شيئاً منها، عدا عن البصمة اللافتة التي تركتها في فلسطين والعالم العربي على السواء كامرأة ريادية.
علاوة على ما سبق، يحفل السجلّ الفلسطيني بأسماء كثيرة من المسيحيين الفلسطينيين الذين كرّسوا من وجودهم كمثقفين ومتنوّرين على مستوى عالٍ من الريادة، على الأصعدة كافة أدبياً وسينمائياً وموسيقياً وفي حقل اللغات والإعلام. منهم، على سبيل المثال لا الحصر: هيام روحانا وسهر روحانا وفدوى روحانا وسيمون شاهين وإيليا سليمان وآنماري جاسر وإيميلي جاسر وسليمان منصور وأمل مرقص وشيرين أبو عاقلة وسميرة عزام والثلاثي جبران، وغيرهم كثر.
إنهم ليسوا ملح فلسطين فحسب، بل ملح الأرض.
0 تعليق