8 ديسمبر 2024م.. شهد سقوطا دراماتيكيا للنظام السوري، والذي لم تعد له سيادة كاملة على بلاده منذ 14 عامًا؛ بقيام الربيع العربي عام 2011م، وما بقاؤه إلا بحبل من القوات الروسية والإيرانية، ولذا؛ لم يكن سقوطه المدوي مفاجئًا، فالنظام.. لم يتمكن من استعادة زمام الأمور، وظل رهين فكي كماشة خنقه؛ فك المعارضة والدول الداعمة لها، وفك مصالح الدول الداعمة للنظام ذاته، بالإضافة إلى حصاره بـ«قانون قيصر» الأمريكي. لقد تحرر الشعب السوري بعد طول معاناة، وهنيئًا له حريته، وعليه أن يبني دولته المستقلة وسط غابة موحشة من المصالح الدولية، ومنها ما صرّح به رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بتشكيل «شرق أوسط جديد»، ونواياه هذه واضحة بتوغله مؤخراً في سوريا، وتدميره الطائرات والمواقع العسكرية.
شرق أوسط جديد.. ليس مشروعاً جديداً، فأمريكا تعمل عليه ضمن استراتيجيتها الكبرى؛ «النظام العالمي الجديد» الذي شرعت بتنفيذه عقب الحرب العالمية الثانية. وإذا كانت الأمم المتحدة أُنشئت لسياسة الأمم بالجزرة عام 1945م؛ فإن إلقاء أمريكا القنبلتين الذريتين على اليابان في العام نفسه تعبير عن السوط الذي لن تتوانى أمريكا عن إنزاله على ظهر الأرنب المارق عن طاعتها. وبانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1990م بدأ السعي الحثيث لفرض هذا النظام على العالم، حيث شرعت أمريكا بتغيير الأنظمة السياسية بالمنطقة وفقاً لنهجها النيوليبرالي.
أمريكا.. تمتلك نَفَسَاً طويلاً في تغيير الخارطة الدولية، فلا تضرب بسوطها الحارق إلا بفرصة تواتيها، وهي تمهد للأمور باصطناع الضغوط لتحقق الظروف لاستراتيجيتها طويلة المدى، فإن لم يحصل التغيير بالسلم ضربت ضربتها القاضية عندما تجد الفرصة، فعندما احتل الرئيس العراقي صدام حسين (ت:2006م) الكويت كانت فرصة لأمريكا، لتنزل بقواتها في الخليج لدحر الجيش العراقي منها، ليبدأ مسلسل تدمير العراق الممنهج، حتى واتتها الفرصة الذهبية بعد هجمات 11 سبتمبر2001م فغزت العراق عام 2003م. فهذه الهجمات أعطت أمريكا «ذريعة مكافحة الإرهاب» لاحتلال العراق وتغيير النظام فيه، وأما ما حصل لها من مقاومة في ظل الاحتراب الطائفي؛ فهذا بنظرها تعالجه «الفوضى الخلّاقة». وبهذه الهجمات.. بررت أمريكا احتلال أفغانستان عام 2001م وتغيير نظام طالبان، ورغم أن طالبان عادت للحكم بعد 20 عاماً إلا أنها لم تعد بسيرتها الأولى، فقد أصبح ساستها يحسبون حسابهم لاستقرار دولتهم.
بالرجوع قليلاً إلى عام 1979م.. فإن أمريكا فقدت فيه حليفا مهما بالمنطقة، وهو شاه إيران محمد رضا بهلوي (ت:1980م)، الذي أطاحت به الثورة الإسلامية بقيادة روح الله الخميني (ت:1989م). في العام ذاته.. بدأت قافلة السلام بين إسرائيل والعرب بعقد اتفاقية كامب ديفيد مع المصريين، ثم اتفاقية أوسلو مع السلطة الفلسطينية عام 1993م، فأصبح العرب الذين عارضوا أنور السادات (ت:1981م) داعمين لياسر عرفات (ت:2004م)، وتبنوا معه «حل الدولتين»، الذي يلتزمون به حتى الآن. أما سوريا فكانت تعتبر نفسها دولة مواجهة مع إسرائيل. في حين تبنت إيران القضية الفلسطينية بعلاقتها القوية مع «حركة فتح»، ولما دخلت في اتفاقية أوسلو واصلت إيران دعم المقاومة الإسلامية «الجهاد وحماس»، وعملت على دعمها عسكريا وماليا. ودخلت سوريا معها في الخط لتكون جسرا لدعم المقاومة.
واصلت أمريكا خطها الطويل لإرساء الشرق الأوسط الجديد؛ باسم القضاء على «الإرهاب الإسلامي»؛ بشقه السني ممثلاً في «القاعدة وداعش»، وشقه الشيعي ممثلاً في الجماعات الشيعية كحزب الله وأنصار الله، ولكنها لم تنسَ إيران والإخوان المسلمين، بكونهما أساس الإسلام السياسي الذي خرجت من رحمه هذه الجماعات. فسعت مع إيران بالمفاوضات للتنازل السياسي، ومع الإخوان بدفعهم لتبني الديمقراطية الغربية، لكن لم يتحقق لها مرادها، للظروف التي تمر بها المنطقة، والتي كانت أمريكا ذاتها أحد أسبابها، وكانت النتيجة اشتعال الربيع العربي.
الربيع العربي.. أصاب المنطقة بدمار هائل؛ راح ضحيته مئات الآلاف من القتلى وملايين المشردين من أوطانهم، وكان من أكثر المتضررين سوريا؛ إذ دخلت في صراع بين الثوار وقوات النظام، بالإضافة إلى التدخلات الأجنبية مع الطرفين، استمر الوضع بين مد وجزر 13 عاماً حتى جاء طوفان الأقصى، فقررت أمريكا استغلاله لتدخل المنطقة مرحلة جديدة. المقال.. لا يلوم المقاومة الفلسطينية وجبهات الإسناد عمّا أسفر عليه الحال، فهذا موضوع يحتاج إلى بسط الحديث فيه عن جوانب مختلفة؛ بما لها وعليها، وإنما يعنينا أن النتيجة العامة للطوفان لم تكن كما أرادتها المقاومة.
سوريا -جسر دَعْمِ المقاومة الفلسطينية- وجدت نفسها أحد أهداف المرحلة، وكان بشار الأسد مدركاً ذلك، فلم يرد على الهجمات الجوية التي تشنها إسرائيل على سوريا، فأدركت الدول الداعمة للمعارضة الوهن الذي أصابه، فنشطت في تسليحها، ومراقبة المتغيرات على أرض الواقع. لقد تمكنت إسرائيل من تصفية القيادات العليا لحزب الله؛ بمن فيهم أمينه العام حسن نصر الله، المساند على أرض المعركة للنظام السوري. ثم استطاعت إسرائيل وأمريكا تحييد إيران عن مساندة سوريا، بتوجيه ضربات مباشرة وحاسمة للإيرانيين داخل إيران وسوريا، والتهديد الأمريكي بـ(تحويل الشرق الأوسط إلى جحيم) -والعبارة لترامب- إشارة إلى تدمير إيران. كما أن تركيا تسعى لتغيير الخارطة السياسية لسوريا التي يستقر فيها معارضوها الكرد؛ بقواتهم «قسد» المسيطرة على قطاع من التراب السوري. أرادت «الدول الداعمة» للمعارضة السورية؛ وفي مقدمتها «هيئة تحرير الشام» أن تسبق بقية الفصائل العسكرية التي تعج بها الأرض السورية لفرض الهيمنة على سوريا. فقد أصبحت الأوضاع مواتية لإسقاط بشار الأسد ونظامه، فكان زحفاً خاطفاً لم يستغرق سوى 11 يوما.
هكذا يُقرأ المشهد السوري، ضمن تنفيذ أمريكا لمخططها الكبير بإقرار شرق أوسط جديد، دون تجزئة له، أو اعتبار مشهد دون آخر. كل العمليات لها جوانب سلبية وإيجابية، وكلها متداخلة، ما يكون إيجابيًا لطرفٍ ما اليومَ قد يصبح سلبياً له غداً، والعكس بالعكس، وأمريكا تدرك ذلك، وتدرك أنها تخسر مواقع وتدفع أثمانا، ولكنها ماضية في تغيير خارطة الشرق الأوسط، فالعبرة بالوصول للهدف، ولن يُسمح بقيام دولة ديمقراطية مستقلة في سوريا، فضلاً أن تكون اليد العليا فيها للإسلاميين. إن ما نلحظه الآن من فرح عارم هو تعويض نفسي من الشعب السوري عمّا أصابه من نظام الأسد، وتعويض نفسي من الشعب العربي عن الإبادة الجماعية والتدمير الشامل في غزة ولبنان، (وبعد السكرة تأتي العبرة).
وبعد أنْ سقط نظام الأسد؛ فهل انتهت مرحلة طوفان الأقصى؟ لم تنتهِ المرحلة.. إلا أن نتائجها ظاهرة، وخطواتها المتوقعة؛ هي:
- التأكد من أن سوريا لن تشكّل خطراً على إسرائيل، وأن الجماعات العسكرية التي خاضت المعركة ستزاح عن الساحة فور الانتهاء من ترتيب الأوراق السياسية، وعلى سوريا أن تتحول إلى بلد مسالم لإسرائيل قابل للتطبيع. ومع ذلك؛ فإن الأوضاع في سوريا قابلة للتدهور نحو العنف، لكثرة الفصائل وتعدد التوجهات واختلاف الولاءات، مما قد يؤدي إلى تقسيمها، وعلى الشعب السوري أن ينتبه لذلك.
- تفكيك أجنحة المقاومة.. أنصار الله في اليمن بقوة السلاح؛ إن لم تتحول لحزب سياسي. والمقاومة الإسلامية في العراق بالضغط على الحكومة، وحزب الله اللبناني بتحوّله إلى حزب سياسي. ومواصلة تدمير المقاومة الفلسطينية، ولكن هذا لن ينهيها فهي باقية حتى التحرير، وستجد سبيلاً آخر يسندها.
- أما إيران فأمامها أحد الخيارات الثلاثة: التخلي عن دعم الأحزاب العسكرية الموالية لها، أو مواجهة التحول السياسي داخلياً، أو الحرب. ما لم تكن لديها خطة بديلة تطرحها في قادم الأيام.
ختاماً.. إن مرحلة طوفان الأقصى ينبغي أن تأخذ حقها من التقييم، فهي مرحلة مفصلية في تاريخ المنطقة.
0 تعليق