بعد الأحداث الأخيرة في سوريا، خرج المفكر والفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين في منشورات على حسابه في منصة إكس يتحسر فيها ـ بشكل ظاهر أو خفي ـ على سقوط نظام بشار الأسد، ويتوعد تركيا وأعداءه المعتادين، الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها، ويخبرهم بأن روسيا وحلفاءها ستنتصر.
يفتح هذا سؤالًا كان لديّ منذ فترة طويلة، حول قراءة ألكسندر دوغين، فطوال دراستي في قسم العلوم السياسية في جامعة السلطان قابوس، لم أسمع أحدًا من المدرسين يذكره حتى في سياق التعريف بتأثيره على السياسة الروسية أو على الشكل الجديد للعالم، على الرغم من أنه أحد المفكرين الذين يسعون لإنهاء النظام العالمي الحالي واستبداله بنظام عالمي جديد متعدد القطبية، تكون فيه روسيا أحد الأقطاب كما كانت في النظامين السابقين. لذلك، يأتي هذا السؤال مرة أخرى وهو: لماذا يجب أن نقرأ ألكسندر دوغين؟
يتحدد تأثير ألكسندر دوغين في عدد من المواضع التي يجب النظر لها، منها الفكر الأوراسي الجديد، والنظرية السياسية الرابعة، وكتاب أسس الجيوبوليتيكا، والتأثير على السياسة الروسية، والخروج من عالم القطب الواحد إلى عالم متعدد الأقطاب، والبحث عن فكرة غير غربية، وأخيرا العودة للذات.
أثرت الأوراسية الجديدة على الدولة الروسية لا سيما بعد انتهاء الحرب الباردة، فقد أثرت كفكر سياسي يدعو إلى أن تستعيد روسيا مكانتها الدولية، والأوراسية هي «أيديولوجية ذات طابع اجتماعي وسياسي لتيار فكري ولد ضمن بيئة الموجة الأولى من المهاجرين الروس إلى أوروبا عام 1920 وتعمل هذه الأيديولوجية على توحيد مفهوم الثقافة الروسية بوصفها ظاهرة غير أوروبية وتقدمها من بين ثقافات العالم المختلفة»، والأوراسية الجديدة التي ظهرت على يد ألكسندر دوغين تفترض عدة افتراضات منها أنها كونية، ولذلك فإنها تشكل الأساس، بحسب دوغين، في تكوين مشروع جيوبوليتيكي يشمل تحالفات روسية مع عدة محاور أوروبية وآسيوية لإزاحة التمدد الأمريكي، ومعارضة ما يسميه «الأطلسية» التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية من خلال العولمة ومحاولة «أمركة العالم»، كما يؤمن دوغين أن جيوبوليتيك الأوراسية الجديدة تشمل كل أوروبا وآسيا.
من أجل بناء النظرية الأوراسية الجديدة، اشتغل ألكسندر دوغين على كتابه (أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي) الذي يُمكن عده أهم كتب دوغين، بل واحدا من أهم الكتب المعاصرة في الجغرافيا السياسية. استخدم دوغين في الكتاب ـ بعد شرحه لتاريخ الجغرافيا السياسية ونظرياتها ـ نظرية ماكندر وتصور من خلالها الصراع العالمي، لذلك يرى بأن إنشاء امبراطورية قارية بقيادة روسية هو أمر مهم يجب أن يقوم على بناء عقدي يفترض فيه بأنه يكون معاديا للأطلسية وإسقاط الهيمنة الأمريكية على القارتين. ومن خلال بعض الأسس الاجتماعية والسياسية والجيوبوليتيكية، حدد دوغين ثلاثة محاور رئيسة يقوم عليها مشروع الإمبراطورية الأوراسية هي محور موسكو ـ برلين، ومحور موسكو ـ طوكيو، ومحور موسكو ـ طهران، كما تشرح ذلك دلال حميد عطية في مجلة دراسات دولية.
وفي كتابه النظرية السياسية الرابعة، طرح ألكسندر دوغين، نظرية سياسية مخالفة للنظريات الثلاث السائدة، الليبرالية عند الولايات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي، والشيوعية، والفاشية في القرن العشرين. إن النظريات الثلاث هذه حكم عليها بالموت بالنسبة لدوغين لأن الأخيرتين لم تعد موجودة، وأما الأولى فإنه على الرغم من اعتقاد كثير بأنها مسيطرة على العالم وبأنها آخر ما يُمكن الوصول إليه كما عند فوكوياما، إلا أنها في المقابل تواجه بصعود دول أخرى لا تتبنى الخطاب الليبرالي بل لها خطاباتها المنفصلة التي يذكر دوغين أنها تشمل الأوراسية الجديدة، والتي يعتقد بأنها المقابلة أيديولوجيا لليبرالية، وكما أن الليبرالية تطورت إلى العولمة، فلا بد للأوراسية أن تتطور إلى النظرية السياسية الرابعة. تم انتقاد النظرية السياسية الرابعة، حيث إنها لا تميز بين ما هو أيديولوجي وثقافي في النظريات الثلاث السابقة، واعتبار أن الليبرالية شر مطلق.
حددت هذه النظرية بعض السلوكيات الروسية السياسية اتجاه الدول، فعلى سبيل المثال، في العلاقات الروسية المصرية، «اعترفت روسيا بثورة 30 يونيو عام 2013 وخريطة الطريق التي انبثقت عنها» كما سعت روسيا لتعزيز علاقاتها العسكرية مع مصر من خلال التدريب العسكري واتفاقيات بيع الأسلحة، والاتفاقيات العسكرية مثل الذي وُقع في 2014 بقيمة 3.5 مليار دولار، حيث إن مصر تشكل بوابة لدخول القارة الإفريقية والعالم العربي، إضافة لموقعها الجيوبوليتيكي الذي يظل على البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر. كما يحدد ذلك الدكتور أحمد العايدي.
من خلال هذا العرض يُمكن ملاحظة أن أفكار ونظريات ألكسندر دوغين تؤثر على السياسة الروسية وتحدد كثيرا من تحركاتها، لذلك للإجابة على السؤال الأول حول علّيّة قراءة ألكسندر دوغين، إذ يُمكن من خلالها ملاحظة التحركات الروسية وعقدها للاتفاقيات والتعاونات، إضافة لتدخلها في العديد من الدول مثل حربها الحالية مع أوكرانيا، ودخولها إلى سوريا، كما يُمكن ملاحظة تعاونها مع عدد من الدول منها الجمهورية الإسلامية الإيرانية والصين وغيرها، بل أن ألكسندر دوغين كان قد وصف الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مقابلة له على قناة حيرة مع هادي اللواتي بأنها قريبة من جمهورية أفلاطون التي يحكمها الفلاسفة، وهذه النظرة تعود إلى اعتقاد دوغين بأهمية هذا التعاون مع إيران باعتبارها حليفا جيوسياسيا وأحد المحاور الرئيسة للإمبراطورية الأوراسية، إضافة لاعتقاده بأن نظام ولاية الفقيه مضاد للنظرية السياسية الغربية والفكر السوسيولوجي الذي شكلته الليبرالية من خلال العولمة.
تقدم القراءة لدوغين رواية أخرى غير غربية، وهي رواية مناهضة للسيطرة الغربية بشقيها الصلبة والناعمة، لكنها أيضا تحتاج إلى نقد وتمحيص، إذ إن الهدف الذي يرمي إليه دوغين هو سيطرة روسية وإيجاد عالم تكون فيه روسيا قطبا في النظام العالمي. على الرغم من ذلك، فإن هذه النظرة يجب أن تكون شاملة مع التحركات العملية الروسية في الساحة الدولية، وفهم أسبابها ودوافعها من ذلك.
من خلال نظرياته، يقدم دوغين إطارا نظريا لعالم متعدد الأقطاب يتخلص من السيطرة الأمريكية، وهذا ما تسعى إليه روسيا حتى في الداخل، فإن العديد من المؤتمرات والندوات والمهرجانات يكون موضوع التعددية القطبية حاضرا فيها، ويُمكن الاستفادة من نظرة المفكرين من خارج روسيا للسير نحو هذه التعددية، على الرغم من أن كثيرا من المنظرين السياسيين لا يعلمون على وجه اليقين ما إذا كانت أكثر استقرارا وسلاما من النظام أحادي القطبية وثنائي القطبية أم لا، إلا أن دوغين يدفع بأطروحاته الفلسفية والسياسية نحوها بشكل متسارع.
وأخيرا، مما يقدمه ألكسندر دوغين أيضا هو العودة للذات، فمن خلال ما سبق، يُمكن إيجاد أنه يعارض التوجهات الغربية ليس السياسية فحسب بل حتى الفكرية، لذلك كان من المهم بالنسبة إليه أن يعود إلى الفكر الروسي المحافظ، فحافظ على أرثوذكسيته الدينية، ونظّر أنه يجب على العالم الإسلامي أن يعود للتعاليم الإسلامية أيضا من أجل أن يتوحد، لكن ليس هذا هو المهم هنا، بل المهم أن تكون هذه القراءة مدخلا لكيفية العودة إلى الذات وقراءتها والانطلاق من الأبعاد الثقافية والفكرية الذاتية بدلا من منطلقات الآخرين، فإن الليبرالية قد عمدت إلى إيجاد المواطن العالمي أو الخارج من هوياته إلى هويات كبرى متخيلة ولا يُمكن الوصول إليها، وهي بشكل أو بآخر هويات أمريكية أو غربية، فعمدت عملية المثاقفة للوصول في النهاية إلى التصديق بالأفكار الغربية-الأمريكية دون تمحيصها أو النظر ما إذا كانت تناسب السياق الاجتماعي والتاريخي والفكري الذي ينطلق منه الفرد والمجتمع، وجرى ذلك من خلال العولمة التي توصف كثيرا بأنها جعلت العالم قرية صغيرة، ليس اقتصاديا فحسب، لكن ثقافيا أيضا. هذه العودة للذات والنظر فيها توفر انطلاقات للاستقلالية والإبداع بشكل أكبر، لأنها كما تضطر للعودة إلى الأفكار، فإنها تضطر للعودة إلى اللغة التي فقدنا الصلة بها، وتحولت كثير من المجتمعات العربية إلى العجمة حتى في تعبيرها عن ذاتها باللغة العربية.
في الأخير، إن قراءة ألكسندر دوغين توفر فهم التحركات الروسية نحو أوروبا وآسيا، كما أنها توفر فهما لكيفية التعامل مع هذه التحركات من خلال فهم جذورها الفكرية والفلسفية، فعلى سبيل المثال، يُمكن من خلال هذه القراءة أن توفر فهما للتحركات الروسية في الخليج والمنطقة بشكل عام، إضافة لذلك، فإن هذه القراءة توفر فهما لكثير من أحداث الساحة الدولية المتعلقة بروسيا، فضلا عن الاستماع لسردية أخرى غير السردية الغربية المهيمنة، واستخلاص ما يُمكن الاستفادة منها أو نقدها أو الوصول إلى سرديات أخرى مناوئة عنها.
0 تعليق