لم يكن هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 أول فشل استخباراتي لإسرائيل. في الحرب العربية الإسرائيلية التي اندلعت في العام 1973، فوجئت إسرائيل بالهجوم المدرع الذي شنته مصر وسورية على جبهتين. وقد تمثلت مهمة أجهزة الاستخبارات الوطنية في تجنب مثل هذه المفاجآت. ولكن، ليس ثمة ما هو مثالي؛ ينبغي توقع بعض مستويات القصور، ولا يرى الجمهور على الإطلاق تقارير ما بعد الحدث. في الواقع، غالبًا ما يتم اعتبار معظم حالات الفشل الاستخباراتي أقل بكثير من أن تكون غير قابلة للتسامح معها. لكنّ هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) كان فشلاً ذريعًا، لا يطاق ولا يمكن التسامح معه.اضافة اعلان
منذ ذلك الحين، أكملت إسرائيل مراجعة إخفاقاتها الاستخباراتية في ذلك اليوم، حتى أنها ذهبت، على ما يبدو، إلى حد منح وسائل الإعلام وصولاً كاملاً إلى مكتشفاتها. وقد نشرت صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، مؤخرًا، مقالاً عن النتائج التي تنطوي على إدانة دامغة لمخابرات الدولة. وتحكي الفقرتان الأوليان من المقال الحكاية:
"تلقت مديرية الاستخبارات العسكرية في جيش الدفاع الإسرائيلي معلومات وخططًا تؤكد نية "حماس" شن هجوم واسع النطاق ضد إسرائيل على مدى سنوات عدة، لكنها تجاهلت الخطة باعتبارها غير واقعية وغير قابلة للتنفيذ، وفقًا لتحقيق في الإخفاقات الاستخباراتية التي أدت إلى هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)".
"بدلاً من ذلك، افترضت مديرية الاستخبارات العسكرية -خطأ- أن زعيم "حماس"، يحيى السنوار، كان رجلًا براغماتيًا لا يسعى إلى تصعيد كبير مع إسرائيل، وأن الحركة اعتبرت حربها في العام 2021 فاشلة، وكانت تركز قدراتها على إطلاق الصواريخ وليس على القيام بغزو بري".
ترتكز النقطة الأولى على الواقع البشري. لا يمكن لأحد أن يكون متأكدًا مما يفكر فيه إنسان آخر، وبالتالي لا يمكن لأحد أن يكون متأكدًا من نيته. وينطبق هذا بشكل خاص على الشخصيات العامة، وخاصة القادة العامين. إن أفكارهم تتشكل من خلال الواقع. وهم يقدمون وجهًا واحدًا للجمهور ويحتفظون بأفكارهم لأنفسهم. كلنا نفعل ذلك. الأفكار يمكن أن يشكلها الخيال، لكن أفكار الشخص الناجح تتشكل من خلال الواقع. ويكون وجهه الذي يعرضه للعامة تكتيكًا يخفي النية، وسلاحًا لمتابعة تحقيق النية.
حاول الإسرائيليون قراءة عقل السنوار، وربطوا هذه القراءة بما اعتبروه قوة غير كافية. وقد أسبغ هذا التصور الصلاحية على نموذج معيب، حيث استنتج الإسرائيليون أن السنوار لا يستطيع أن ينوي الهجوم لأنها لم تكن لديه القوة الكافية لفعل ذلك.
لكنّ ما أغفله الإسرائيليون هو أن الواقع فرض على السنوار تفكيرًا مختلفًا تمامًا. كانت لديه قوة بالفعل -قوة يمكن أن تكون بمثابة نواة لقوة كبرى أو أنها يمكن أن تتحول بمرور الوقت إلى عجز محبط. وما كان السنوار ليتمكن من الاستمرار في قيادة "حماس" لو أنه استمر في عدم فعل شيء. كما تغاضت المخابرات الإسرائيلية عن شيء أكثر أهمية: أن إسرائيل احتلت الأراضي الفلسطينية، وأن الرغبة الفلسطينية في استعادة تلك الأرض تظل قوية بنفس قوة الرغبة اليهودية في الاحتفاظ بها. بعبارة أخرى، غاب عنها عنصر التعاطف -وليس التقمص الوجداني الضروري للاستخبارات، والذي يتخيل أفكارًا حقيقية في عقل الآخر، ويقدّر الضغوط التي يتعرض لها والفرص التي يراها.
وهو ما يعني الضرورة، أو الحتمية الجيوسياسية التي أتحدث عنها كثيرًا. والحتمية هي الجمع بين القوى الأخلاقية والجيوسياسية، التي تقود أمة أو مجموعة. وقد خلقَ تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم وطردهم واجبًا أخلاقيًا لا يختلف عن ذلك الذي نشأ بين الإسرائيليين، يتمثل في استعادة ما فُقد. وكانت الضرورة الجيوسياسية بالنسبة للفلسطينيين هي أن الوقت يمر ولم يكن يحدث شيء. كانت الدول العربية تتوصل إلى تسويات مع إسرائيل، كما يتضح من "اتفاقيات إبراهيم". وبالنسبة لـ"حماس"، إذا تم التوصل إلى تسوية، فإن ذلك سيخلق واقعًا جيوسياسيًا يُلغي الواقع الأخلاقي.
رأت "حماس" أن الوقت كان ينفد بالنسبة للفلسطينيين، وكان يُمكن أن يظهر تحليل مُتعاطف أن على "حماس" أن تتصرف بأسرع ما يمكن لتقويض التسوية العربية - الإسرائيلية. ولو أخذت المخابرات الإسرائيلية في الاعتبار هذه الحتمية، لكانت قد رأت ما يجب أن يفكر فيه السنوار، بعد أن عاش حياته كلها وهذا في ذهنه. لكنّ أفكارهم كانت محجوبة. ربما كانت الوثائق التي تلقتها المخابرات الإسرائيلية حقيقية في ذلك الوقت، وجواسيسها صادقين، ولكن كان من الممكن أيضًا أن تكون هذه كلها إيحاءات مزروعة بقصد تضليل الإسرائيليين.
لو أن "حماس" ظلت ملتزمة بالسلبية، لكانت ستذوي أو تُدمَّر. وهكذا كانت حتميتها الاستراتيجية -مدفوعة بالضرورات الأخلاقية والجيوسياسية- هي استباق هجوم إسرائيلي بهجوم خاص بها. ولن يدمّر الهجوم إسرائيل، لكنّه سيقسمها. كان المقصود منه أن يتوجه إلى الجمهور العربي، والرسالة هي أن إسرائيل ليست كيانًا لا يُقهر. يمكن لقوة صغيرة ليس لها عناية وليس لديها حرص على الحياة أن تصعق إسرائيل -حتى لو لم تستطع أن تهزمها. تخيلوا ما يمكن أن تفعله قوة كبيرة؟! إذن، لن يكون التوافق مع إسرائيل ضروريًا.
أدت هذه الحتمية إلى تبني استراتيجية لم تهدِّد بأي حال من الأحوال بقاء الدولة الإسرائيلية، ولو أنها هددت فعليًا بقاء المواطنين الإسرائيليين. كان ما فعلته "حماس" في الحقيقة عرضًا مصغرًا لما هو ممكن. وكانت محاولات مماثلة قد جُربت، لكن "حماس" قصدت أن تنجح هذه المحاولة.
كان المفتاح هو بناء قوة مناسبة من دون تنبيه إسرائيل. وقد رأت المخابرات الإسرائيلية النمو البطيء لقوة "حماس"، لكنها لم تستطع الهروب من نموذجها الجيوسياسي: إن إسرائيل قوية بما يكفي لتدمير أي قوة تابعة لـ"حماس" من أي حجم يمكن تصوره. ولذلك لم تر إسرائيل أي حاجة إلى توجيه ضربة استباقية يمكن أن تمزق عملية التسوية العربية، أو أن توتر العلاقات مع الولايات المتحدة التي ستدعم دفاعها عن نفسها، لكنها قد ترفض شن عملية هجومية واسعة. كان ما لم يفهمه الإسرائيليون هو أن الهدف من الهجوم لم يكن هزيمة إسرائيل بقدر ما هو إظهار ضعفها وهشاشتها المتأصلة، وكشف قدراتها المحتملة، وإطلاق عملية أكبر وأطول يمكن أن تدمرها. وهكذا، أخطأت المخابرات الإسرائيلية أيضًا -بعد أن أساءت قراءة النية، وقللت من شأن الحتمية باعتبارها محض وهم- في قراءة عملية الحشد والتحضيرات. وحتى عندما كان الرجال والمعدات جاهزين، وبينما كان المهندسون عاكفين على إعداد مسارات الاجتياح، لم تستطع إسرائيل التخلي عن نموذجها.
لقد أصابت استخبارات إسرائيل في الاعتقاد بأن السنوار كان براغماتيًا، ولكنها أخطأت بشأن تحديد المكان الذي ستقوده إليه براغماتيته. كيف أمكنهم معرفة ما إذا كانت براغماتية السنوار ستقوده إلى عمل عدواني أو إلى التقاعس عن العمل؟ وهكذا، خلقت القراءة الخاطئة للنية سوء فهم مرتبطا بالواقع العسكري. كقوة مقاتلة، كانت "حماس" صغيرة"، لكن الحجم لا يهم إذا كان القصد هو خلق أزمة ثقة في إسرائيل يكون من شأنها أن تجعلها أكثر ارتيابًا من ناحية، وتهزم عملية التسوية مع العرب من ناحية أخرى. وبمرور الوقت، سيؤدي خوف إسرائيل من المفاجأة إلى شن هجمات استباقية على مصادر تهديدات متخيلة، ويعيد إحياء خوف العالم العربي من إسرائيل -أو على الأقل الحفاظ على علاقة العداء العربية - الإسرائيلية.
كما أن من شأن العداء العربي لإسرائيل أن يؤثر أيضًا على الولايات المتحدة، كما تجدر الملاحظة. كانت الخطوة المضادة التي اتخذتها الولايات المتحدة هي الاقتراب أكثر من التفاهم مع المملكة العربية السعودية، باستخدام هراء الاستيلاء على غزة كمؤشر على كَم هي الولايات المتحدة غير قابلة للتنبؤ، وبالتالي إجبار السعوديين على تقديم استراتيجية مختلفة تتحمل فيها مسؤولية عن السلوك الفلسطيني.
وهكذا، فإن السؤال المطروح الآن هو ما إذا كانت "حماس" قد نجحت في استراتيجيتها لإنهاء التسوية العربية مع إسرائيل، أم أنها خلقت أسوأ كابوس لها: واقعًا تتسارع فيه التسوية مع الرياض تحت غطاء أميركي وإجبار الدول العربية الأخرى على أن تحذو حذوها.
كان هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر)، إذن، محاولة أخيرة يائسة، ربما تنتهي بالنجاح أو بالفشل. لكن "حماس" اتخذت الخطوة الوحيدة التي أمكنها اتخاذها. وحيث كان يجب أن يشعر محللو الاستخبارات الإسرائيليون بأن ثمة حتمية وراءها، اختاروا طمأنة أنفسهم بالتظاهر بقراءة أفكار العدو.
الآن، يجب على إسرائيل أن تعيد النظر في ضروراتها وحتمياتها الخاصة. هل يمكنها تحمل استراتيجية فلسطينية تقوم على شن هجمات دورية تجرحها وتقوض ثقة شعبها، وهو أمر أساسي للغاية لاحتياجاتها الجيوسياسية؟ سوف تتم بالتأكيد مناقشة هذا في مراجعة البدائل.
مع ذلك، يشكل هذا المثال في الوقت الحالي درسًا لكل من يعمل في مجال الاستخبارات. إن الاستخبارات هي فن تجاهل النية والتركيز على الحتميات. ولا بد أن تكون الضرورات مقترنة بالقيود -أي ما لا يستطيع القائد أن يفعله. إن الضرورات والقيود هي التي تخلق الواقع، والجيوسياسة هي تولِّد كليهما.
أستطيع أن أستمد من هذا المثال عددًا من المبادئ المتعلقة بالاستخبارات. لا تتخيل أنك تعرف نية قائد العدو. إن ما يريد القادة فعله وما يجب عليهم فعله هي أشياء مختلفة. لم يكن القادة ليصبحوا قادة من دون رسم صورة ظاهرة لأنفسهم وإخفاء أفكارهم الأعمق. إنهم قادة، سواء كانوا ديمقراطيين أو ديكتاتوريين، لأنهم فهموا ما يتطلبه الأمر لكي يصبح المرء قائدًا ويظل قائدًا. وقد فعلوا ذلك من خلال امتلاكهم عقلًا عامًا مصممًا للحفاظ على السلطة في وضع مناسب لأممهم، وحيث تكون حقيقة ما يفكرون مخفية لإحباط تكوين رؤية عن مخاوفهم، وآمالهم، وقسوتهم وملذاتهم.
لا تثق في المصادر الاستخباراتية لأنها قد تكذب -أو ربما لا تعرف، أو ربما تم إرسالها لتضليلك. نحن البشر مخادعون، والوصول إلى زوجة الجنرال لا يمنحك الكثير أكثر مما تجلبه لك الرشاوى أو الابتزاز. إن الاستخبارات المضادة لا تعتمد على الحقيقة. كما أن التجسس المضاد أسهل من الاستخبارات.
ركز على الأمة وما يجب أن تمتلكه كأمة. إن القادة يصبحون قادة ويتمكنون من البقاء كذلك من خلال معرفة ذلك. إنهم يتصرفون بناء عليه، لكنهم نادرًا ما يكشفون عنه.
اعرفْ ما لا تستطيع الأمة المعنية فعله. هذا هو أهم شيء. إذا كنت تعرف ما هو مستحيل، فسوف تعرف ما هو ممكن، وهذا يحد من المفاجآت.
الشخصي هو أي شيء يتم توصيله شخصيًا أو إلكترونيًا إلى أحد تعتقد أنه لا يتحدث عمدًا ويأمل في أن يتم اعتراض رسائله وتصديقها.
لاحظ أن هذا لا ينطبق على المعلومات الاستخباراتية حول القوة العسكرية المتاحة. في هذا الصدد، لا غنى عن الاستخبارات، لأنها تساعد في تعريف ماهية المستحيل.
يمكن للتحليل أن يقدم لمحة عن الحتميات والمحددات الوطنية -ليس فقط بين دولتين ولكن في ما يتعلق بجميع المعنيين. إن دور الاستخبارات هو معرفة ما يجب أن يحدث وما يمكن أن يحدث. ويجب أن يكون هذا معروفًا أولاً على أوسع مستوى، ويجب أن يوجه الاستخبارات على مستوى أكثر تفصيلاً. هذا هو الدرس الإسرائيلي. وقد تعلموه -بل وحتى نشروه. ومن شبه المؤكد أن الاستنتاجات التي يستخلصونها حول تحسين الاستخبارات لن تكون لي. كان الاعتماد على نمط شخصية زعيم "حماس" اقتراحًا محفوفًا بالمخاطر وغير مضمون العواقب.
*جورج فريدمان George Friedman: متنبئ جيوسياسي واستراتيجي دولي بارز، وهو مؤسس ورئيس مجلس إدارة Geopolitical Futures ومعروف عالميًا بتحليلاته الدقيقة في الشؤون الدولية. وهو مؤلف لبعض من الكتب الأكثر مبيعًا في "نيويورك تايمز"، مثل "العاصفة قبل الهدوء" و"الـ100 عام المقبلة"، حيث تتناول أعماله توقعات حول تحولات وأزمات مستقبلية ستعيد تشكيل السياسة والاقتصاد والثقافة الأميركية. كما قام بتقديم إحاطات للعديد من المؤسسات العسكرية والحكومية وظهر كخبير في وسائل الإعلام الكبرى. حصل على درجة البكالوريوس من كلية مدينة نيويورك والدكتوراه في الحكومة من جامعة كورنيل، وكان الرئيس التنفيذي ورئيس مجلس إدارة شركة Stratfor لما يقرب من عشرين عامًا قبل استقالته في أيار (مايو) 2015.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Israel’s Intelligence Failure
0 تعليق