يبدو أن العنوان مستفز للقارئ؛ لأنه يوحي إلى أن التخلي عن الكتابة يعد نوعًا من الموت، فهذه المقولة المستفزة كتبها أحد أشهر كُتّاب اليوميات هو الكاتب الإنجليزي صامويل بيبس (1633-1703) صاحب المذكرات المعروفة بيوميات (Diary)، عندما ضعف نظره وشعر أنه عليه التخلي عن مواصلة الكتابة قال: «إن ترك كتابة اليوميات هو نوع من الموت»، وهذا ما أوردته الكاتبة الإنجليزية ميري ورنوك (1924- 2019) في كتابها «الذاكرة في الفلسفة والأدب» ترجمة المترجم العراقي فلاح رحيم.
عندما سُئل أحد المسؤولين العرب عن إمكانية كتابة مذكراته، أجاب أن كتابة المذكرات والسِير هي عادة سنها الإنجليز؛ ليثيروا الجدل بعد نشرها. صحيح أن المسؤول العربي محق في طرحه، إذ بدأت كتابة السير الذاتية في إنجلترا في بداية القرن التاسع عشر، ولكن السيرة الذاتية بحد ذاتها وثيقة أو ميثاق مثلما ذكر الكاتب الفرنسي فيليب لوجون (86 عاما) في كتابه «السير الذاتية: الميثاق والتاريخ الأدبي»، ترجمة عمر حلي. وعرّف لوجون فن السير الذاتية بأنه «حكي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخه الشخصي».
نختلف مع المسؤول العربي في أهمية كتابة السير الذاتية والمذكرات واليوميات، سواء كان صاحبها شخصية سياسية أو فردًا من عامة الناس؛ لأن لكل إنسان تجربة تستحق أن تروى، وإن كانت الشخصيات العامة أو التي تبوأت مناصب سياسية هي الأولى بالبوح والحديث عن مجريات الأحداث، بهدف اطلاع الآخرين على جانب غير مرئي من الحقيقة، فمثلا حين كتب النائب العمالي البريطاني ريتشارد كروسمان (1907-1974) « يوميات وزير»، اكتشف القراء شخصية سياسية معتدة بنفسها، لعبت دورا كبيرا في المشروع الاستيطاني في فلسطين، إذ كان أحد أعضاء اللجنة المشتركة بين البريطانيين والأمريكان للنظر في المسألة الفلسطينية، وليس من قبيل الصدفة أن جل أعضاء اللجنة من الشخصيات الداعمة للصهيونية، ومن ضمنهم ريتشارد الذي أفصح في كتاباته عن تعاطفه مع الشعب اليهودي في فلسطين.
يهمنا في السير الذاتية والمذكرات التعرف على الوجه الآخر للإنسان الذي ألزمته وظيفته بالصمت والتواري عن الأنظار، فالكتابة بعد الخروج من المسؤولية تمنح صاحبها حرية القول وإبداء الرأي والانعتاق من وطء الوظيفة ودهاليزها المرهقة. قد يضطر البعض إلى تضخيم دوره في السيرة الذاتية، ويركز فقط على بطولاته أو إنجازاته سواء كانت واقعية أو متخيلة، ولكن في كل الأحوال فإن روايته وشهادته مطلوبة للزمن والتاريخ، حتى وإن تعرضت المذكرات لسلطة الانتقاء التي تمارسها الذاكرة. صحيح أن السيرة الذاتية الأدبية على وجه الخصوص ليست نوعا من الاعترافات التي تتطلب قول الحقيقة المطلقة، ولا التحري والتدقيق في التواريخ التي يلتزم بها كاتب المذكرات.
لقد سألت العديد من الأشخاص عن محاولة كتابة تجاربهم الحياتية التي أراها تستحق التدوين والبقاء في الذاكرة، بدلا من أن يلتهمها النسيان، فتضيع الذكريات والمواقف الإنسانية المهمة والملهمة، في زمن يمكن أن يوثق كل شيء بالصوت والصورة. ومعظم من سألتهم يشتركون في إجابة واحدة «ماذا لدي لكي أحكيه؟!». هذه الإجابة غير مقنعة فمن أوجه إليهم الأسئلة أدرك مسبقا تفرد تجاربهم الشخصية في الحياة، وتراكم الخبرات العلمية والعملية لديهم، وأحيانا أقترح عليهم كتابة التجربة دون نشرها في الوقت الحاضر، ولكن من حقنا أن نعرف ونتعرف على قصص الشخصيات التي تستحق أن تُروى، «فالقصة الجيدة هي تلك التي تبذل الجهد لجعلها تنقل حقيقة ما، وهي توجه هذه الحقيقة للجمهور الواسع وليس لكاتبها فقط» مثلما ذكرت الكاتبة الإنجليزية ميري ورنوك. لا نود ممارسة القسوة على أحد ممن وجد في الصمت ملاذا آمنا وراحة بال وسكينة واطمئنانًا، فتلك قدرات بشرية تعي حجمها، ولا طاقة لها على الحكي أو إلباس شخصيات سردية أدوارها ومنحها فسحة القول، فتدوين الكلمات ورصف المعاني مهنة المولعين باختلاق الأحداث وروايتها.
0 تعليق