الولايات المتحدة لم تعد زعيمة العالم الحر وكندا تستعد للمواجهة

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تواجه كندا تهديداً وجودياً من الولايات المتحدة بقيادة ترامب، مما دفع الكنديين إلى توحيد صفوفهم واتخاذ إجراءات اقتصادية وسياسية لحماية سيادتهم، مع إعادة ترتيب تحالفاتهم مع أوروبا وبريطانيا كشريكين أكثر انسجاماً مع قيمهم. لقد أثبتت زعامة دونالد ترامب أن الولايات المتحدة لم تعد حليفاً يمكن الوثوق فيه أو شريكاً تجارياً يمكن الاعتماد عليه. لكن كندا واثقة في مقاومتها محاولات تحويلها إلى "الولاية الأميركية الحادية والخمسين".اضافة اعلان
***
تكشفت خلال الشهرين الماضيين حقيقة مرة يصعب تجرعها، تمثلت في أنه لم يعد من الممكن اعتبار الولايات المتحدة من بين الدول الحرة في العالم. وبينما يشكل هذا التحول بالنسبة لأوروبا خسارة عميقة ومؤلمة، ويفرض عليها إعادة تقييم جذرية لأولوياتها، وبخاصة جيوشها والأنظمة الاقتصادية، فإن فقدان أميركا العاقلة بالنسبة لكندا يعد تهديداً وجودياً مباشراً لبقائها على المستوى الوطني، وطعنة لشراكة كانت ركيزة لأطول علاقات سلمية في تاريخ العالم.
لطالما نظر الكنديون إلى الأميركيين باعتبارهم أكثر من مجرد جيران وحلفاء، واعتبروهم أقرباء لهم بحيث يشكلون معهم أسرة واحدة -أحياناً بالمعنى الحرفي للكلمة. لكننا نواجه الآن الواقع المتمثل في أن أبناء عمومتنا يتآمرون بشكل علني للسيطرة علينا واستعبادنا.
منذ أن أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن طموحه إلى ضم كندا إلى الولايات المتحدة لتصبح "الولاية رقم 51"، دخلت البلاد بشكل أو بآخر في حالة تأهب للحرب. وقد أحدثت تصريحاته شعوراً غير مسبوق بالوحدة الوطنية في كندا، وهو شعور لم نشهده منذ نشوب "الحرب الأهلية الأميركية" الأولى، عندما هدد الانهيار الداخلي الأميركي بالانتشار عبر الحدود، فاستجابت كندا بتوحيد صفوفها من خلال اتحاد قوي بين أبنائها.
يُظهر البلد في هذه المرحلة وحدة تامة بين قيادته السياسية ومواطنيه، وتوافقاً كاملاً في الأهداف والاستراتيجية على حد سواء. فمواجهة متنمر تتطلب مرونة لجهة الصمود في مواجهة الضربة الأولى، ومن ثم الرد عليها بحسم، مع الاستعداد لتحمل العواقب. وقد ذهب رئيس وزراء مقاطعة أونتاريو، دوغ فورد، شوطًا أبعد نحو اتخاذ التدابير الاقتصادية المضادة لجهة فرض تعريفات جمركية مقابلة على الولايات المتحدة. كما هدد أيضاً بقطع إمدادات الطاقة الكندية عن منطقة "نيو إنغلاند" الأميركية (منطقة في شمال شرقي الولايات المتحدة، تتألف من 6 ولايات هي: كونيكتيكت، ماين، ماساتشوستس، نيو هامبشير، رود آيلاند، فيرمونت)، وقال إنه سيفعل ذلك "بابتسامة على وجهي" على حد تعبيره. وفي الوقت نفسه، اتخذت أونتاريو، وهي أكبر مشترٍ للكحول في العالم، موقفاً حاسماً قضى بسحب جميع المنتجات الأميركية من على رفوف متاجرها.
في هذا الإطار، لم يعد ممكناً في كندا هذه الأيام شراء مشروب البوربون، وبدأ كل من المستهلكين الكنديين وحكوماتهم المحلية في تغيير عاداتهم الشرائية، بينما يقوم المواطنون بإلغاء عطلاتهم في الولايات المتحدة، ويتركون المنتجات الأميركية على رفوف المتاجر حتى انتهاء مدة صلاحيتها.
بصراحة، لم أتخيل قط أن هذا المستوى القوي من الوحدة الوطنية الذي يظهره الكنديون الآن، كان ليتحقق. فكندا بلد لديه تنوع هائل في سكانه -سواء من حيث العرق أو اللغة- وهم منتشرون على مساحات شاسعة من الأراضي (جزيرة بافن وحدها التي تزيد مساحتها على مساحة بريطانيا وإيرلندا مجتمعتين، لا يقطنها سوى 13 ألف نسمة). وحتى قبل هذا الجنون الأخير الذي أظهره دونالد ترامب، كان رئيس وزرائنا، جاستن ترودو، يدافع عن فكرة أن كندا هي "أمة تتخطى مفهوم القومية". وعلى مدى العقد الماضي، انهمكت البلاد في نقد ذاتي مستمر ومناقشات أيديولوجية حول ماضيها. لكن هذه المرحلة انتهت الآن وتلاشت الانقسامات بحيث يقف "الليبراليون" و"المحافظون" بثبات جنباً إلى جنب.
يشار هنا إلى أن ستيفن هاربر رئيس الوزراء "المحافظ" السابق، وربما الزعيم الأكثر تأييداً للولايات المتحدة في تاريخ كندا، قال "إن على بلادنا أن تكون مستعدة لتحمل أي مستوى من الضرر" من أجل حماية سيادتها. ومن اللافت للنظر أن لوسيان بوشار، زعيم الانفصاليين في مقاطعة كيبيك الذي كاد ينجح في إخراجها من الاتحاد الفيدرالي الكندي في العام 1995، أعرب بحماسة عن استعداده للقتال دفاعاً عن البلاد. ويمكن القول إن النقطة الوحيدة التي يتفق عليها الجميع، وباقتناع تام، هي أننا لن نصبح أميركيين. والأمر الأكثر إثارة هو أن هناك في تكساس اليوم مشاعر داعمة للانفصال عن الولايات المتحدة مقارنة بمثيلتها في مقاطعة كيبيك، وهي حقيقة لم تكن لتخطر على بال أحد، حتى قبل بضعة أشهر.
لكن كل ما يمكن أن يحدث في المستقبل يصعب تصوره عندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة. فهذه الدولة التي عرفناها وأعجبنا بها ذات يوم، انتهت إلى غير رجعة، ولن تعود إلى ما كانت عليه، بالنسبة لجيلنا على الأقل. ولم يعد ممكناً في المقابل الاعتماد على الأميركيين كحلفاء. فإذا ما خضنا حروباً إلى جانبهم كما فعل البريطانيون، من المرجح أن نرى جنودنا الذين يسقطون في المعارك معهم يتعرضون للسخرية. كما لا يمكن الوثوق بهم كشركاء. فبمجرد أن تنتهي مصالحهم، سيتخلون عن أي اتفاق تجاري تماماً كما يتخلصون من قشور الفاكهة. أما الضمانات الأمنية التي يقدمونها، فلا قيمة لها ولا تساوي الورق الذي كتبت عليه. إن ما نحتاج إليه الآن هو بلورة ضمانات أمنية تحمينا من الولايات المتحدة نفسها.
لا شك في أن الانسحاب المفاجئ للولايات المتحدة من العالم الحر، سيعيد تشكيل توازن القوى الجيوسياسي برمته على مستوى العالم. ونتيجة لذلك، ستجد كندا نفسها، بحكم الضرورة، أقرب إلى أوروبا وبريطانيا، باعتبارهما شريكين أكثر انسجاماً مع قيمنا الأساسية. وقد بدأت ملامح هذا التحول في التبلور بالفعل. الكنديون، الذين لم يولوا العائلة المالكة اهتماماً كبيراً في العادة، وكانوا ينظرون إلى صورة الملك تشارلز على عملتهم باعتبارها مصدر إحراج جرى تقبله، أصبحوا اليوم يرونه شخصية ذات أهمية متزايدة بصفته رئيساً للدولة. كما أن ظهور تشارلز مؤخراً في مناسبات عامة متشحاً بأوسمة وميداليات عسكرية كندية، لم يمر مرور الكرام في نظر الكنديين. قد تكون الولايات المتحدة بمثابة عائلة لنا، إلا أن العالم الحر هو وطننا الحقيقي. وسيجب علينا جميعاً الاعتماد على بعضنا بعضاً.
من هذا المنطلق، يتملك الكنديين شعور غريب بالثقة وهم يقتربون من خوض هذه المواجهة غير المتكافئة التي تشبه المواجهة بين داوود وجالوت. نحن ندرك تماماً أننا سنعاني، لكننا نعلم أيضاً أنها معاناة لا بد منها. الخبر السيئ هو أن الولايات المتحدة تتداعى، لكنه أيضاً جانب إيجابي بما أنها أصبحت خصماً لنا. إنها تزداد ضعفاً بمرور الأيام على المسرح العالمي. إن الأميركيين يدمرون اقتصادهم بأيديهم، ويتسببون بأزمة غلاء معيشة داخل حدودهم. وقد فككوا خدماتهم المدنية من أجل توفير مدخرات قد لا تصل حتى إلى 5 مليارات دولار. كما أنهم يهدمون بنيتهم العلمية ويقوضون نظامهم التعليمي. وقد ألحقوا أضراراً جسيمة بـ"مكتب التحقيقات الفيدرالي" (أف. بي. آي) و"وكالة الاستخبارات المركزية" (سي. آي. إيه). وهم يفككون مؤسساتهم الوطنية الواحدة تلو الأخرى. أما على مستوى القرارات السياسية المدمرة للذات، فإنهم يواجهون في هذه المرحلة أزمة تعادل "بريكست" بشكل أسبوعي.
أخيراً، يمكن القول إن الشهرين الأخيرين لم يكونا سوى بداية فوضى قادمة أعظم. غالباً ما تؤدي التهديدات التي تتعرض لها السيادة الوطنية إلى وضوح في الرؤية وتدفع إلى التركيز على الأولويات. وقد أصبحت الولايات المتحدة اليوم أشبه بنجم يحتضر. وعندما تموت النجوم، فإنها إما أن تنفجر أو تنهار على نفسها. وفي كلتا الحالتين، عليك البقاء بعيداً من الكارثة ما أمكن. ويتعين على كندا، كما على بقية دول العالم، أن تسارع إلى تحييد نفسها وأن تنأى بشعوبها عن تداعياتها قبل فوات الأوان.
*ستيفن مارش: مؤلف كتاب "الحرب الأهلية المقبلة: رسائل من المستقبل الأميركي" The Next Civil War: Dispatches from the American Future
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق