دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- يمر الطريق السريع المغبر الذي يؤدي إلى سيدهبور، في ولاية غوجارات بغرب الهند، عبر مناظر طبيعية قاحلة، متجاوزًا المطاعم على الطرقات وقطعان الإبل، من دون أن يلمّح كثيرًا لما تخبئه هذه البلدة التاريخية.
في قلب سيدهبور، يمتد شارع تصطف على جانبيه قصور فاخرة تتكونّ من ثلاثة وأربعة طوابق، تُعرف باسم "Haveli"، وتزهو بألوان باهتة من درجات قوس القزح، بدءًا من الأزرق الفيروزي والوردي الفاتح وصولا إلى الأخضر الفستقي.
ويُعرف هذا الشارع محليًا باسم "Paris Galli" أو "شارع باريس"، حيث ينقل الزوار إلى مدينة أوروبية بطرازها المعماري النيوكلاسيكي الفاخر ومزيجها المتناغم من فنون الآرت ديكو، والأساليب الهندية الهجينة.

وتبعد سيدهبور أقل من ثلاث ساعات بالسيارة عن عاصمة ولاية غوجارات، أحمد آباد، لكنها لا تزال بعيدة عن أنظار المسافرين وعشاق العمارة.
ويبدو الحي المحيط بشارع "Paris Galli" مهجورًا إلى حد كبير، باستثناء بعض المارة الذين كانوا يرتدون غطاء الرأس الملوّن المميز والقبعات الذهبية والبيضاء التي يرتديها أفراد فرقة البهرة الداودية، وهي طائفة شيعية مسلمة استقرت لأول مرة في هذا الجزء من غرب الهند في القرن الحادي عشر.
ويُعرف البهرة بأنهم مجتمع تجاري مترابط نشأ في مصر، ثم تنقّل عبر شمال إفريقيا والشرق الأوسط وجنوب آسيا للتجارة في التوابل، والأحجار الكريمة، والعطور.
بعد ذلك، انتقل مقر الطائفة من اليمن إلى سيدهبور، حيث استعرض أتباعها ازدهارهم وثروتهم من خلال بناء مئات المنازل الفاخرة في النصف الأول من القرن العشرين. وأُطلق على هذه التجمّعات السكنية اسم "Bohrawads"، وسعى أصحاب هذه القصور للتفوق على بعضهم البعض عبر تعليق الثريات الفخمة، واستخدام الزجاج البلجيكي، وقطع الأثاث القديمة، أو من خلال إقامة الولائم الفاخرة.

ذكر المعماري زوياب كادي المولود في سيدهبور أنه قد تكون الروابط التجارية الوثيقة للمجتمع مع أوروبا قد أثّرت على الحس المعماري. وكان مهراجا المنطقة حينذاك، سياجيراو غايكواد الثالث، معروفًا بحبه للعمارة الأوروبية. وقد وضع قواعد تخطيط صارمة مستوحاة من المخطِط الحضري الاسكتلندي باتريك غيديس (الذي عاش في الهند بين عامي 1914 و1924)، ما أدى إلى تشكيل شوارع ذات طابع معماري موحّد بشكل لافت.
وقال كادي إن البهرة قدموا مساعدتهم للمجتمعات الأخرى خلال مجاعة وقعت في أوائل القرن العشرين، وبمثابة ردّ للجميل، "قام مهراجا ولاية بارودا بإهدائهم قطعة أرض، حيث كانوا يواجهون أزمة سكن".
وأضاف: "على هذه الأرض، بدأوا في بناء هذه المباني الرائعة، التي كان يجب أن تلتزم بقواعد تخطيط المدن الصارمة".
تقع هذه القصور الطويلة والضيقة بشكل رئيسي في منطقة نجامبورا، حيث يتواجد شارع "Paris Galli"، وهي مصنوعة غالبا من الخشب، بالإضافة إلى الجص والطوب. وتتميز التصاميم بأسطح الجملون، وأعمدة وزخارف، وأبواب منحوتة، ونوافذ مزخرفة ومتدلية تبرز من واجهة كل قصر.
أما الطابق الرئيسي للمعيشة، فيقع فوق مستوى الشارع أعلى قبو، بينما تعمل القواعد المتدرجة، كمداخل مسقوفة، وكانت تُستخدم تقليديًا كمناطق اجتماعية، وغالبًا ما تُعرض على واجهات المباني شعارات مزخرفة بأحرف أولى أو ألقاب العائلات بالإنجليزية.
في مكالمة عبر الهاتف، قال أشيش ترامباديا، وهو المهندس المعماري المختص بالحفظ ومقره مدينة أحمد آباد: "تُظهر المنازل ذات الأفنية، المبنية في صفوف أو بتسلسل، تناغمًا مع التنوع. في حين أن لكل منزل نظام ألوان فريد، وفنون جصية مميزة، وأعمال شبكية خاصة به؛ فإن المحاذاة الدقيقة للقواعد، وخطوط الأسطح والطوابق، منحت الشوارع طابعًا فريدًا".
تصميم فريد

وثّق المصور سيباستيان كورتيس، المقيم في الهند، المدينة وسكانها في سلسلته بعنوان "سيدبور: حاضر ماضي". وتجسد الصور حزنًا عميقًا، بدءًا من المجد الباهت للتصاميم الداخلية بالقصور، وصولا إلى النساء اللاتي يُحدّقن من النوافذ وهنّ يقمن بالأعمال المنزلية.
وقال كورتيس، المولود في مدينة نيويورك الأمريكية: "لقد استلهمتُ من المجتمعات التجارية في الهند ... التي أظهرت ثرواتها بشكل جمالي أخّاذ".
وأضاف: "كان ذلك بمثابة استعمار معاكس، إذ سافر البهرة حول العالم إلى دول مثل بورما (ميانمار)، وتايلاند، واليمن، وإثيوبيا، وأعادوا معهم تأثيرات مُختلفة، ثم مزجوها بعاداتهم وتقاليدهم، واستخدموا الحرفيين المحليين لإبداع أعمالٍ ساحرة".
ساهم كادي في لفت الانتباه الدولي إلى هذه المنازل من خلال تأليفه ثلاثة كتب عنها هي "سيدبور ومنازل البهرة الداودية"، و"فوهراواد سيدبور"، و"نشأة وفناء وأسلوب".
تراثٌ متلاشي

أشارت الأرقام الرسمية للبلدة إلى أنه خلال فترة السبعينيات، كان هناك ما لا يقل عن 1،400 قصر في أنحاء سيدبور. ولكن بعد استقلال الهند عن بريطانيا في عام 1947، هاجر العديد من سكان سيدبور إلى الخارج، أو إلى مدن هندية أكبر مثل مومباي وأحمد آباد، وتركوا صيانة المنازل لأصحابها أو أقاربهم.
اليوم، أصبحت العديد من هذه المنازل مغلقة، أو مهجورة أو عالقة في مشاكل قانونية بين أحفاد الملاك السابقين. وقد هدمت منازل أخرى لإفساح المجال للتطورات الحديثة، مع بيع التحف والأخشاب من قبل الملاك.
وأوضحت البيانات الرسمية أن أقل من 400 من منازل سيدبور مأهولة حاليًا.
بهدف المساعدة في الحفاظ على القصور المختفية، أسس كادي، إلى جانب آخرين من سيدبور، مجموعة تراث سيدبور في عام 2024. وتعمل المجموعة على توثيق الهندسة المعمارية للمدينة، إضافة إلى عقد ورش عمل، وجولات إرشادية.
0 تعليق