• ذكرتم في جواب سابق في الآية الكريمة «وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ» أنه ليس هناك تكرار، لأن «مصدقًا» الأولى تعود إلى عيسى، و«مصدقًا» الثانية تعود إلى الإنجيل، فلماذا لم يقتصر على أحدهما، بما أن عيسى عليه السلام بعث بالإنجيل؟
في قول الله تبارك وتعالى: «وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ» تقدّم في الجواب أنه ليس هناك تكرار في هذا الجزء من الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: «ومصدقًا لما بين يديه من التوراة»، وذلك لأن هذا الوصف يعود أولًا إلى عيسى: «وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقًا لما بين يديه من التوراة»، أي أن عيسى هو المصدّق، جاء مصدقًا لما بين يديه من التوراة.
ثم قال ربنا تبارك وتعالى: «وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين» فالحال هنا ترجع إلى الإنجيل إذن، اختلف صاحب الحال في الموضعين؛ ففي الموضع الأول صاحب الحال هو عيسى عليه السلام، وفي الموضع الثاني صاحب الحال هو الإنجيل، هذا الأمر الأول.
أما الأمر الثاني في التصديق، وهو فيما يظهر ما يسأل عنه السائل: لماذا، بما أن عيسى عليه السلام جاء بالإنجيل، لم يكن كافيًا أن يُوصف أحدهما فقط بأنه «مصدقًا لما بين يديه من التوراة»، هذا السؤال له وجه، ذلك لأن هذا التصديق مختلف فبعدما تبيّن أن صاحبي الحال مختلفان، فإن كيفية هذا التصديق تختلف كذلك، فتصديق عيسى عليه السلام لما بين يديه من التوراة، أي لما تقدّمه من التوراة، تصديق حقيقي؛ فهو قد جاء عليه السلام آمرًا، داعيًا إلى ما في التوراة، حاكمًا بها، داعيًا إليها، ومطبّقًا لما فيها.
أما التصديق الذي هو من أوصاف الإنجيل الذي بعث به عيسى عليه السلام، فهو تصديق مجازي، أي أن الإنجيل يشتمل على ما يصدق ويثبت ويوافق ما في التوراة، هناك حديث عن تصديق عيسى عليه السلام بأداء الرسالة، والدعوة، والحكم بما في التوراة، وهنا الحديث عن الإنجيل الذي أنزله الله تبارك وتعالى على عيسى عليه السلام، حيث يتضمن تصديقًا لعموم ما جاء في التوراة مما يتعلق بالتوحيد والهداية، وكثير من الأحكام، لأن بعض الأحكام في شريعة عيسى عليه السلام، كما هو معلوم، قد نُسخت بنص من الله عز وجل، كما قال: «ولأحل لكم بعض الذي حُرّم عليكم».
وهذا أيضًا لا ينفي أن يكون الإنجيل مصدقًا لما في التوراة، لأن هذا النسخ، أي تحليل بعض ما كان محرّمًا، إنما هو في بعض الأحكام الشرعية، لا في عمومها، كما يُقال أيضًا: لما قال «مصدقًا لما بين يديه من التوراة» في وصف الإنجيل: «وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، وهدى، وموعظة للمتقين» فإن هذا الوصف، وإن كان حالًا، أي تقدير الكلام: «وآتيناه الإنجيل حالة كونه هدى ونورًا ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين»، فإن هذا الوصف مُثبت، والوصف المثبت لا عموم له.
وإذا ثبت هذا وتبيّن، فقد انقدح في نفسي الآن تكرار الهدى، حيث قال: «وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور، ومصدقًا لما بين يديه من التوراة، وهدى وموعظة للمتقين»، وهذا فيه معنى لطيف أشار إليه الإمام الرازي، وهو أن الإنجيل فيه هدى، وأصل الهدى هو التوحيد، ونفي كل ما يخالف توحيد الله تبارك وتعالى.
ففيه تحذير لبني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام من أن يقعوا في الشرك بنسبة الصاحبة أو الولد إلى الله تبارك وتعالى، ولذلك احتيج إلى تأكيد هذا المعنى، فتكرر الوصف بالهدى؛ أحدهما فيما يتعلق بالتوحيد وتنزيه الله تبارك وتعالى، ونفي الصاحبة والولد عنه، والآخر فيما يتعلق بجانب الشريعة والأعمال والأخلاق، وما اشتملت عليه أيضًا من مواعظ وهدى ونور والله تعالى أعلم.
• شخص لديه مبلغ من المال، وقد بلغ النصاب، وتجب عليه الزكاة في شهر شوال، لكن في الوقت نفسه لديه عقد مع شركة لبناء منزل خاص له ولعائلته، ويدفع للشركة المال على دفعات فهل تجب عليه الزكاة في المبلغ المتوفر لديه إذا كان أقل من مستحقات الشركة المنفذة للعمل؟
في حال كان المبلغ المتوفر لديه أقل من حق الشركة المنفذة، فلا أرى وجوب إخراج الزكاة من هذا المبلغ، لأنه حق متعلق بالمقاول أو الشركة، طالما أن هذا العقد قد أُبرم بينهما، وبدأ المنفذ في تنفيذ العمل، فقد ثبت له هذا المال، وإنما يُؤدَّى إليه على أقساط فلا يظهر لي وجوب الزكاة؛ لأنه ليس مالًا فائضًا عن الحاجة، بل هو مما تعلق به حق الغير، وهذا غير المنفذٌ ومؤدٍّ لما التزم به في العقد بينهما.
وبالتالي، يؤدي المتعاقد هذه الدفوعات بحسب ما يُنجز من أعمال، لذا لا يبدو لي وجه للقول بوجوب تزكية هذا المال، وهذه حالة خاصة لا يُقاس عليها كل تعاقد أو التزام مالي، فلا يُقال إن كل مال لا تجب فيه الزكاة لمجرد وجود التعاقد، وإنما في هذا النوع من العقود يثبت فيه الحق للطرف الآخر، وبما أن الملتزم بالسداد مستحق لحقوقه المالية، فإن هذا المال قد جُمع خصيصًا لهذا الغرض، فلا يكاد يتصرف فيه تصرف المالك التام، بل هو ملك غير تام لتعلق حق المقاول به.
هذا هو الرأي الذي أجده مقنعًا، وإن كان أكثر الفقهاء يرون وجوب الزكاة على المال إذا حال عليه الحول وكان في حوزة صاحبه، دون النظر إلى الحقوق المترتبة عليه للغير وهذا القول فيه احتياط بلا شك، وإذا كان قد تم الاتفاق بينهما، وبدأ المقاول العمل، فقد تعلق به حقه، وهذا الشخص ملزم بالسداد له وفقًا لمراحل الإنجاز أو جدول الدفعات المتفق عليه.
والمبلغ الذي في يده مخصص لهذه الدفوعات، وليس لديه فضلٌ منه فإن كان المال إما مساويًا لما عليه أو أقل، فلا زكاة عليه أما إذا كان هناك مال زائد بعد سداد الالتزامات، فتجب زكاته، هذه هي الصورة التي أرى أنه لا يجب عليه فيها إخراج الزكاة، وإن كان الأحوط عند كثير من الفقهاء إخراجها ومع ذلك، فإن هناك طائفة كبيرة من أهل العلم يرون عدم وجوبها في هذه الحالة، لذا فإن القول بعدم التزكية هنا أرجح، والله تعالى أعلم.
0 تعليق