في لقاء وزير الإعلام السعودي سلمان الدوسري مع الإعلامي عبدالله المديفر قبل أيام، قال كلاماً سياسياً غاية في الأهمية مبنياً على فكرة الواقعية السياسية، ملاحظاً أن بعض المحللين أو قارئي المشهد السياسي، يتوقفون في مرحلة ما غير مدركين لتبدّل الظروف السياسية، أو غير قادرين على تجاوز خلاف سياسي ما.
ما قاله الوزير لا يتعلق بالمحللين السياسيين فقط، بل يتعلق بفكرة السياسة نفسها كونها مبنية على المصالح، ولا شيء سوى المصالح، ولذلك تبدو أمام المراقب البسيط غاية في التعقيد، ومثار استغراب الشارع.
ولعلنا نستعيد بعض المواقف الواقعية في السياسة السعودية على مدى عمر الدول الثلاث، لنشهد كيف كانت الدرعية ثم الرياض تتمتع برصيد متراكم وخبرات سياسية واقعية.
ففي فترة الدولة السعودية الأولى وفي خضم الحرب الدعائية الكبرى التي شنتها قوى معادية محلية في الجزيرة العربية، وخارجها مدّعية أن الدولة الجديدة والتي تحمل مشروعاً دينياً مخالفاً لما اعتادت عليه الأمة لقد كانت عدته هي التهمة الأكثر انتشاراً مع قوى لديها المنابر والمراكز الدينية، بينما الدرعية كدولة ناشئة لم يكن لديها بمقاييس تلك الأيام القوة المناهضة القادرة على مواجهة تلك الأباطيل والتي روّجت فقط لإسقاط شرعية الدولة السعودية الأولى وإفشال مشروعها الإصلاحي.
وعلى إثر انتشار الدعوة الإصلاحية في الجزيرة العربية منطلقة من إمارة الدرعية، بعث الإمام عبدالعزيز الأول ابن الإمام محمد بن سعود سنة 1226هـ - 1811م رسائل إلى عدد من الدول الإسلامية وسلاطينها وحكامها شارحاً فيها توجه الدعوة الإصلاحية وبناءها الفقهي والعقائدي، في مواجهة التشويه المتجمد وحرب الاغتيال المعنوي التي ووجهت بها بلاده، وكان ضمن من تلقوا الرسائل مجموعة من علماء تونس، وكذلك السلطان «سليمان العلوي» سلطان الدولة العلوية في المغرب.
هذه الواقعية السياسية سبغت الدولة الثانية، وظهرت جلية في الدولة الثالثة، ولعل موقف الملك عبدالعزيز من الحرب العالمية الثانية واتخاذه موقفاً محايداً في بداية الحرب، وكذلك القيام بواجب دولته في حماية خطوط الملاحة في البحر الأحمر وعدم استخدامها لصالح القوى المتناحرة أثره في تحقيق مكاسب بعيدة المدى لبلاده.
الواقعية العبقرية للملك عبدالعزيز جعلته يستشرف ما بعد تداعيات الحرب، من خلال بنائه لعلاقات وثيقة مع المستقبل، فقد كانت نهاية الحرب العالمية الثانية، مفصلاً تاريخياً لحقبة انتهت، وبداية عالم جديد تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ومن ورائها المنتصرون في الحرب، ولذلك اقتنص الفارس العربي القادم من وسط الصحراء تلك اللحظة لصالح مشروعه الوحدوي والتنموي لبلاده، لقد كانت واقعية سياسية نبيلة.
ما فعله الملك المؤسس، استمرت فيه دولته مع الملوك السعوديين من بعده، فالملك فيصل الذي واجهت بلاده تحديات مزلزلة مع وجود تيارات ضخمة ومعادية (تيارات قومية - تيار اليسار - تيار الاشتراكية - تيار الشيوعية)، تؤيدها دول كبرى وإقليمية انخرطت في مشاريع عسكرية وانقلابية ومخططات تدميرية، ومع ذلك استطاع الملك فيصل الإبحار في ذلك البحر المتلاطم والموجات العاتية دون خسائر بل ربحت بلاده أيما ربح، واستطاعت أن تأتي بكل الأعداء إلى فضائها لطلب رضاها ودعمها.
كذلك استيعاب الثورة المفاجئة وسقوط الملكية في الضفة المقابلة من الخليج، والحربان الأهليتان في الأردن ولبنان في عهد الملك خالد كلها تحديات سياسية وأمنية تجنّبت الرياض تداعياتها بل وساهمت في حلها، وهو ما جاء بشكل واضح على يدي الملك فهد، الذي أدار ملفات كبرى في مجال الطاقة والتسلح العسكري، وحماية العالم الإسلامي ببناء جدار عالٍ جداً ضد الشيوعية، ودعم جهود السلام في المنطقة، بتحقيق اعتراف كامل من واشنطن بمنظمة التحرير الفلسطينية، وتحقيق السلام في لبنان باتفاق الطائف الشهير، وحتى مع احتلال العراق للكويت حاول الفهد تجنيب المنطقة ويلات الحرب من خلال دفع بغداد للانسحاب مع التأكيد على أن بلاده لن تقف حتى تتحرر الكويت وهو ما حصل فعلاً، لقد تخللت أشهر الاستعداد لعملية التحرير سياسات واقعية لا يمكن تجاوزها مع الاتحاد السوفييتي قائد المعسكر الشرقي، ومع قوى إقليمية كانت تقف في الطرف المضاد، ومع ذلك غلبت المصلحة الوطنية للسعودية.
لقد كان لأحداث الحادي عشر من سبتمبر وقع هائل في العالم، ولولا العبقرية السعودية في احتواء وتفكيك تلك الأزمة بعيداً لأصابت العالم كله، فهي مؤامرة لم تكن ضد أمريكا فقط، بل وضد السعودية، لمحاولة توريطها في جريمة خططها وقام بها أعداء مشتركون لواشنطن والرياض.
ولعل أحداث وتداعيات ما سمي بالربيع العربي، الممتدة من 2010 وحتى اليوم تشير بوضوح للواقعية السياسية السعودية في احتواء تلك الموجات المخطط لها لإفشال وتدمير الدول والتصدي لها، وفي الوقت نفسه حماية أمن البلاد السعودية وكذلك الفضاء العربي، مع وجود سياسات دولية متقلبة وغير عادلة في التعامل مع قضايا المنطقة.
كما أن مقاربة للسياسات السعودية مع جيرانها في الإقليم وبالذات مع دول التخوم، وإعادة بناء العلاقات على أساس المصالح المشتركة وتفكيك الملفات الخلافية، تؤكد عبقرية السياسة السعودية وسلامة توجهاتها، والانحياز لمصالحها الكبرى، ولبناء إقليم أكثر أمناً وتصفير أو تخفيض الخلافات فيه.
كذلك التعامل مع الأزمة الأمنية بين أوكرانيا وروسيا والتي كادت أن تقود العالم لحرب عالمية ثالثة، أو مواجهة نووية، أكدت للعالم كيف أن الحياد السعودي الإيجابي والتعامل الواقعي مع ظروف الأزمة هو ما مكّن الرياض من أن تكون وسيطاً موثوقا بين الجميع، إنها بلا شك الواقعية السياسية التي تعامل بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، مستلهماً الإرث السياسي السعودي الممتد من عهد الأئمة في دولته الأولى وحتى اليوم.
لقد أثبتت السياسات السعودية على مدى ثلاثة قرون واقعيتها الإيجابية في معالجة القضايا الكبرى التي تواجهها، وهو ما مكّنها من الاستمرار مع انقطاعات لا تذكر في عمر الأمم بين الدولتين الأولى والثانية، وبين الثانية والثالثة.
أخبار ذات صلة
0 تعليق