فتش عنهم يا سلمان

صحيفة مكة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بلاط صاحبة الجلالة ساحر، يشبه إلى حد كبير سيدة فاتنة لا ترى إلا نفسها. وربما كالحب بدايته وردية ونهايته مسمومة. وممرات الصحف مُلهمة كثيرا، إذ إنها لطالما كانت شاهدة على مئات القصص والحواديت والأخبار. والفكرة ترتبط بمكانها وزمانها. لذا الأروقة لها رونقها الخاص. وحتى اتصالات رؤساء التحرير فجرا، مهمة للغاية. ولي معها ذكريات خاصة.

والصحافيون «غلابة»، مستقبلهم واستقرارهم الوظيفي على «كف عفريت». قد يرى كثير من العامة أنهم يتمتعون ببعض من النجومية واتساع العلاقات هنا وهناك، وهذا ربما يكون فيه شيء من الصحة؛ لكنه غير دقيق كما يتصور البعض. وله أسبابه، على رأسها، الكلمة المحسوبة والمسؤولية الأخلاقية الداخلية لدى كل فرد منهم. وهذه ليست قصتي هذا اليوم.

ما دفعني لتقليب الأوراق في هذا الملف؛ هو ما يعاني منه أبناء هذه المهنة العظيمة. والمؤلم أن تلك المعاناة خلقت شكلا من أشكال الفراغ، ودفعت الكثير من المتسلقين للقفز على مفهوم الصحافة والإعلام العام. ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال النظر إلى المشهد المحلي الذي بات يشوبه ما يشوبه، أعني بالتحديد تسيد من يُطلق عليهم وصف «المشاهير»؛ الذين تحولوا بقدرة قادر إلى إعلاميين، دون وعي وإدراك للتسمية.

أتصور أن مسؤولية «اللت والعجن» الذي تشهده الساحة الإعلامية في المملكة بالنسبة للمشهد الكبير، هي مسؤولية متقاسمة، بين المؤسسات الصحافية، تسبقها وزارة الإعلام التي على مر العصور لم تُشعر أحدا من الصحافيين أن خلفهم من يمكن أن يعتبرونه حاضنة يمكن الاستناد عليها، وذلك يتزامن مع عدم وجود لهيئة الصحافيين؛ التي أتصور أن حتى العاملين بها لا يعون أهمية العمل المفترض تقديمه.

مهما يكُن حجم القسوة التي أستشعرها في هذه السطور، التي إن كتب القدر لها الخروج للعلن وأخذت طريقها للنشر، إلا أن ضبابية في الصورة العامة، نابعة عن غياب العقلانية والرصانة الإعلامية في المشهد بشكل كبير، نظير غياب أبناء المهنة المخلصين، ممن يعرف لهم صولاتهم وجولاتهم في هذا الوسط.

والسؤال المشروع؛ ماذا لو غاب كليا مفهوم الإعلام الرزين والمسؤول؟ الجواب: فشل ذريع في نقل رسالة المجتمع. فالإعلام ذو دور محوري في صيانة المجتمعات والمساهمة في تنمية الدول. والإعلام أيضا أسهم بشكل رئيسي بأن تقترب شرائح من أخرى على النطاق الواسع العالمي. أذكر أن إذاعة لندن على سبيل المثال، كانت تلعب دورا كبيرا في نقل صورة المملكة المتحدة لدى البسطاء أو المعزولين عن العالم، والبي بي سي كذلك.

والقصد من هذا الحديث القول إن أي دولة بلا إعلام مُتزن ورصين، لا يراعي الابتعاد عن مخرجات الركاكة والعمل خارج الإطار المؤسسي، يعد نقصا في منظومة البناء والتعمير والتحديث.

أزعم أن أبناء جيلي من الإعلاميين يمكن أن يكونوا الأمثل والأجدر بالقيام في دور الإعلام المسؤول، ويمكن الاعتماد عليهم بالمشاركة في عملية البناء التي تشهدها الدولة، لعدة جوانب وأساسيات؛ أبرزها: الثقافة العامة والاطلاع؛ وعدم النظر برؤية أحادية تحقق المصالح الشخصية، وامتلاك مخزون تاريخي يخول الاعتداد بالنفس، وقبل ذلك وضع الوطنية عنوانا عريضا للعمل الصحافي المسؤول.

ما الأدلة على ذلك؟ كُثر. أولا: أجزم أن ذلك الجيل شهد على أقل تقدير الحرب العراقية الإيرانية. ثانيا: حروب البوسنة والهرسك. وقبل ذلك وهذا ثالثا: كيف انقلب صدام حسين على الخليج من خلال غزو دولة الكويت. رابعا: الكثير شهد أو قرأ عن قرب حروب مصر ونزاعاتها مع إسرائيل، وصولا إلى الوحدة بين مصر وسوريا. خامسا: الرؤية الخاصة لما يسمى بالربيع العربي وما نتج عنه. وحتما الكثير كان له اطلاعه الخاص على الانقلاب في العراق على الملكية، والانقلاب في مصر على الحقبة أيضا الملكية، وفي ليبيا كذلك. هذا على المستوى الخارجي.

أما داخليا، أقلها أن الكثير عاصر أربعة ملوك على الأقل، ومجموعات من الوزراء والمسؤولين، وذلك بطبيعة الحال سيشكل شخصيات مسؤولة، تملك مفاتيح أخلاقية، تراعي فكرة الوطن والوطنية والمجتمع والبناء.

فقد شكل ذلك ذهنية سياسية واقتصادية واجتماعية ذات وعي على مستوى الدولة والإقليم لدى أشخاص نذروا أنفسهم للبحث عن الحقيقة أيا كانت وأينما وجدت؛ وهذا ما يفتقده بكل أسف صحافيون - حتى لا أعمم سأقول بعض - من الجيل الحالي العامل في القطاع الإعلامي.

أعي أن هذا الحديث قد لا يرُق للكثير من الزملاء؛ لكن هذا الواقع والحقيقة المرّة. فالإعلام غير الرصين يعتبر عبئا على الدولة والمجتمع في شتى المجالات. وعن نفسي أرفض أن يمثلني مجموعة من المتسلقين على مهنتي التي صقلت من شخصيتي أنا ومئات الأشخاص الأفضل مني خلقا ومهنية.

أذكر أن ولي العهد قال ذات يوم «إن كان هنالك إمّعة في مَن حولي، فيجب أن يرحل في أقرب وقت ممكن». وحديث الأمير محمد ليس متعلقا بالإعلام؛ إنما حول ما إذا كان لديه مستشارون ممن ينطبق عليهم الوصف ذاته.

في الإطار العام أتصور يمكن الاستعانة برؤية العراب، وإبعاد الإمعات ممن اقتحموا أسوار الإعلام والصحافة العالية. فالدولة التي تعيش حالة كبرى من التجديد، يجب أن يواكبها إعلام يتناسب مع ثقلها البشري والتنموي.

إن استمرار الحالة الإعلامية في المملكة بهذا الشكل الهزيل الذي لا يتناسب مع حجمها السياسي والاقتصادي والبشري، يحولنا كإعلاميين إلى حفنة لا نجيد الكتابة؛ نقابل أناسا لا يجيدون الحديث، ولا يجيدون القراءة.

نبعت هذه السطور عقب مشاهدتي ظهور وزير الإعلام الزميل سلمان الدوسري مؤخرا. خشي الرجل من موت الصحافيين. لتجنب ذلك، يجب عليه احتواء العناصر المهنية، وإعادة الحياة لهم، للمشاركة في صناعة الحياة. الحل يكمن في البحث عنهم. مختصر الرسالة.. فتش عنهم يا سلمان.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق