في اللقطات الافتتاحية من "أرزة"، تصور ميرا شعيب مع مديرة التصوير هاي جين جون الشخصية الرئيسية، أرزة (التي جسدتها المبدعة دياموند أبو عبود)، وهي تتنقل في شوارع بيروت المزدحمة لتقضي مشاويرها اليومية. هذه اللحظات الأولى ليست مجرد مدخل بسيط للفيلم؛ بل هي إيقاع بصري ينبض بطاقة المدينة وواقعها، يهيئ المشاهد لنسق سردي سريع، يعكس إيقاع الحياة التي تحاول أرزة أن تسيطر عليها.
اضافة اعلان
بيروت هنا ليست مجرد خلفية، بل هي بطل ثانٍ للفيلم، مدينة مفعمة بالتناقضات، تحيا على حد السكين بين الكوميديا المرة واليأس الخافت، وجاء عرض الفيلم في إطار مشاركة بالمسابقة الرسمية للدورة الـ35 لأيام قرطاج السينمائية.
أرزة هنا ليست مجرد شخصية أم تكافح لإعالة عائلتها الصغيرة، بل هي انعكاس للوطن اللبناني المنهك، الذي يتصدى للانهيار بشجاعة تشبه شجرة الأرز، شامخة رغم ما تواجهه. الفطائر التي تُعدّها أرزة بيديها، رمز للبقاء والتفاوض المستمر مع العالم المحيط بها. في رمزية أخرى، يمكن قراءة هذه الفطائر على أنها "الكرامة" التي تحافظ عليها، وسيلتها الوحيدة للتواصل مع مجتمعات متناقضة تُحيط بها من كل اتجاه.
على الجهة الأخرى، كنان (بلال الحموي)، ابن أرزة المراهق، يعكس تناقضات جيل كامل. إنه صوت الشباب الذين يتأرجحون بين الإحباط والرغبة الملحة في الهروب. كنان لا يرى في الوطن أكثر من عبء لا مفر منه؛ حلمه بالسفر إلى أوروبا يرمز إلى الحلم الجماعي لشباب لبنان، أولئك الذين يرون في الهجرة الخلاص من الحاضر العالق.
أما ليلى (بيتي توتل)، الأخت المنعزلة، فتمثل جموداً نفسياً واجتماعياً. تمسكها بالمجوهرات التي أهداها إياها حبيب مفقود منذ زمن طويل ليس مجرد تشبث بالذكريات، بل رفض لأي تغيير، وتجمد في الماضي الذي صار مأوى من حاضر قاس. إنها رمز للمجتمع الذي يرفض مواجهة التحديات ويفضل البقاء أسيراً لذكريات جميلة قد لا تعود.
استعادة السكوتر: رحلة بين الكوميديا العبثية والبحث عن الذات
الحبكة التي تبدو بسيطة في ظاهرها -محاولة أرزة استعادة السكوتر المسروق- تتحول تدريجياً إلى رحلة عميقة تكشف عن طبقات المجتمع اللبناني المعقدة. السكوتر هنا ليس مجرد وسيلة نقل، بل رمز للأمل الذي يُسلب من الطبقة الكادحة باستمرار. تستعرض ميرا شعيب الواقع الطائفي من خلال لحظات كوميدية عبثية، تسخر من الانقسامات الاجتماعية والدينية بأسلوب غير مباشر، يضحكك بقدر ما يحرجك.
عبر هذه الرحلة، نرى أرزة تتنقل بين الأحياء المختلفة، مضطرة إلى تغيير لهجتها واسمها وحتى مظهرها لتنسجم مع كل طائفة. هنا تكمن عبقرية الفيلم في استخدامه التفاصيل الصغيرة: كيف تختلف التسميات بين الطوائف للسكوتر نفسه؟ كيف تبدو الملابس والدلالات الثقافية علامة على الانتماء؟ هذه التفاصيل هي التي تمنح الفيلم خصوصيته وعمقه، وتجعله شهادة حية على التنوع اللبناني الذي يتحول أحياناً إلى مصدر صراع.
الحوار هنا ليس مُحمّلاً بالشعارات؛ بل هو طبيعي، يمر بسلاسة بين الجد والهزل. النص الذي كتبه سام فيصل شعيب ولؤي خريش يتميز بواقعية لاذعة، تحاكي يوميات المواطن اللبناني الذي يركض بين سراب الحلول. وبينما التوتر الدرامي يتصاعد بهدوء، تواصل أرزة بحثها وسط عقبات تثير الضحك أحياناً وتكسر القلب في أحيان أخرى.
دياموند أبو عبود في قمة توهجها
إن كان فيلم "أرزة" قد حقق هذا التأثير العاطفي القوي، فإن الفضل يعود أولاً للأداء الاستثنائي لدياموند أبو عبود. تلعب دور أرزة بصدق مبهر، تمزج بين الهشاشة والقوة في آن واحد. بلال الحموي، الممثل غير المحترف، يفاجئنا بدور كنان الذي يمتلئ بغضب المراهق، ليشكل مع والدته ثنائياً مؤثراً، حيث يتحول الجفاء إلى تعاطف تدريجي.
الأداءات الثانوية تضيف نكهة خاصة للفيلم؛ خصوصاً بيتي توتل في دور الأخت التي ترفض بيع مجوهرات من حبيب مفقود، رغم حاجة الأسرة الماسة. هذه التناقضات الإنسانية الصغيرة تُغني النسيج الدرامي للفيلم وتجعله أكثر صدقاً وقرباً من الواقع.
لغة بصرية تعكس التوتر المجتمعي
على مستوى الصورة، يلمع الفيلم بتكوينات ذكية تظهر التناقض بين الشخصيات وبيئتها. اللقطات القريبة تكشف عن التوتر الداخلي للشخصيات، بينما اللقطات المتوسطة ترسم التفاعلات الاجتماعية. في مشاهد البحث عن السكوتر، تتحول بيروت إلى متاهة عبثية، حيث تفصل الحواجز الطائفية بين الأحياء حتى في أكثر التفاصيل تفاهة.
الإضاءة أيضاً تلعب دوراً مهماً؛ فالظلال الناعمة تلمّح إلى اليأس الخفي الذي يحاول الجميع إخفاءه. أما التصميم الإنتاجي، من الهاتف القديم إلى المروحة الصدئة، فيُبقي الفيلم عالقاً بين الماضي والحاضر، بين التقدم والتخلف.
تأثيرات "سارق الدراجة"
من المستحيل تجاهل أصداء فيلم "سارق الدراجة" لفيتوريو دي سيكا، الذي يعد مرجعاً في السينما الواقعية، فكلا الفيلمين يُبنى على حبكة بسيطة: فقدان وسيلة العيش وبدء رحلة البحث عنها. في "سارق الدراجة"، تصبح الدراجة رمزاً للبقاء بالنسبة للأب والابن، وكما في فيلم دي سيكا، السكوتر المسروق في "أرزة" يتجاوز وظيفته كوسيلة نقل ليجسد الأمل المسلوب والنجاة المهددة.
لكن الفارق بين العملين يكمن في النبرة السينمائية. بينما ينزلق دي سيكا نحو الحتمية المأساوية، حيث ينتهي الفيلم بتسليم مر للعجز واليأس، تأخذ ميرا شعيب طريقاً مختلفاً. "أرزة" يختار الأمل، حتى لو كان أملاً خافتاً. النهاية قد تكون متوقعة لكنها مكتوبة بذكاء؛ تُجبر المشاهد على رؤية الضوء وسط ظلام المعاناة اليومية.
قد يصنف "أرزة" كفيلم خفيف، لكنه في الحقيقة أخف من أن يثقلنا بألم الواقع وأعمق من أن نمر عليه مرور الكرام. يكشف الفيلم كيف تعيش الطبقة الكادحة في قلب الأزمات: الفقر، الهجرة، انعدام الفرص. لكنه يقدم هذه القضايا من دون وعظ أو شجن مفرط، بل بروح مرحة تذكرنا بأن الحياة -رغم كل شيء- ما تزال تحتمل الضحك.
"أرزة" ليس مجرد فيلم عن سرقة سكوتر؛ بل هو واقع يتجسد يوميا في لبنان عن الأمومة، الصمود والبحث عن الأمل في زمن يغيب فيه اليقين. وميرا شعيب تثبت في فيلمها الأول أنها مخرجة واعدة، قادرة على الإمساك بخيوط الحكاية ببراعة تجمع بين الجدية والعبث.
0 تعليق