«لربما توقفَ المطر في الخارجِ، ولكن صوت انهماره داخلي لا يزال مستمرا» حاولتُ تجاهل الصوت الذي يلحُ عليّ لمغادرة المكان، كنتُ على قناعةٍ بأن هناك قوى سحريةً وضعتني هنا، وفي هذا التوقيت بالذات، وربما سيصنع ذلك فارقا في حياتي، كما كنت على يقين أن مصباح الأمنيات حقيقة، والمارد كذلك، وأمير القصر وسندريلا، بل كل أبطال الحكايات يختبئون بين البشر في زمن شحّ فيه اليقين، وأصبح التلاعب بالآخر تجارة.
صوت رسالة جديدة تصل لهاتفي، حاولت مقاومة فتحها، لكن تلتها عدة رسائل أخرى، هل قلِقتْ عليّ أمي كعادتها، أم هناك شخص آخر يفتقد وجودي؟ وضعتُ الهاتف أمام وجهي لكنه رفض التعرف عليّ، وبعد عدة محاولات اخترتُ إدخال الرقم السري، هل تغيرت ملامحي حتى أصبح هاتفي لا يعرفني أم أن هناك ما يمنعني أن أفتحه وأنشغل عن هدفي الذي يقترب مني بخطوات لا صوت لها ولا أثر؟
تلفَّتُّ لأتأكد أن كل شيء حولي لم يتغير: الكراسي، الطاولات، النادل الذي يتكئ على طاولة الطلبات وقد نال التعب من ملامحه، وعلى مقربة منه يجلس رجل غارق في صفحات كتابه، أما في الواجهة المقابلة للشارع، فيجلس شاب منكبا على هاتفه. تساءلت: إذا كان اختار هذا المكان ليستأثر بمنظر المارين، فلماذا ينشغل عنه بهاتفه منذ وصوله؟
تذكرتُ الرسائل التي وصلتني، فوضعت الهاتف أمام وجهي من جديد، علَّهُ يتعرف عليّ، لكن شتتني صراخ صبي علا فجأة، كانت عائلته تجلس خلفي، أجزمُ أنهما أب وأم وهذا صراخ ابنهما الوحيد، أردتُ الالتفات لكني خشيت ردة فعلهم. تذكرتُ صراخ وليدي عندما حملته الممرضات بعيدا عني، لا تزال صورته أمامي لم تغب، أبيض مشربا بحمرة، شعره الفحمي متناثر على جبهته، عيناه واسعتان، وفمه الوردي متورم. لفت انتباهي لون أزرق يغطي بطنه ورجليه، كانت الممرضات يبتعدن به، فاشتعلت الأسئلة داخلي، أردتُ الصراخ بأعلى صوت «لا يمكنني تحمل فقدهِ كسابقيه، سمعتُ صراخه، رأيت ملامح وجهه، ومحاولاته للبقاء، أعيدوه لي»، لكن كلّ خلية في جسمي خذلتني، فهويتُ على السرير، ووجدتني أغوص في البياض. كانت الساعة التالية كفيلة أن تسحبني لدوامةٍ لم تخلصني منها مواساة من حولي.
لماذا عليّ أن أشعر بأن الأمر كان عاديا؟! لم يكن أبدا كذلك؛ كان شاقا، كنت أشعر أنني أغوص داخلي أبحث عن الأجوبة فلا أجدها، أتخبط بين اليقين والشك، بين الحزن والفرح، بينهما لم أستطع إقناع نفسي أو من حولي بأن أطفالي يموتون بمجرد ولادتهم بدون سبب، لابد أنهم يخطفون، أو أن هناك من يتآمرون عليّ، وربما يمتلكون قدرات خارقة، أو أنهم يأخذونهم ليكونوا فئران تجارب، لكن لماذا أطفالي بالذات؟ كان البحث عن قناعة في كومة الفوضى، وتوالي فقدي لفلذات كبدي، أشبه بالصراخ دون صوت، الجري في وقت الظهيرة بقدمين حافيتين، النوم وسط الضجيج.
ارتفع صراخ الصبي من جديد، حاولتُ استراق النظر، فالتفتُّ أبحث عن النادل، الذي جاء دون إشارة مني، طلبتُ مزيدا من القهوة، التي لم أكن أريدها، لكن الفضول استبد بي، ولم أرد إحراج العائلة، لم يكن طفلا واحدا، كان يجلس الأب والأم وحولهما ثلاثة أطفال بأحجام مختلفة، يتبادلون الصراخ وكأنها لغة يجيدونها، كان سهلا عليّ تبين مشاعر التعب والإرهاق البادية على الأم، بينما يحاول الأب مساعدتهم وقلة الحيلة بادية في حركات يده، وهو يحشر الألعاب أمام كل واحد منهم.
هرب أحدهم من بين يدي والده، سمعت صوت خطواته المتخبطة، جميع من في المقهى أخذ يتابع ما يحدث، صوت صراخه لم يتوقف منذ بدأ الركض، تبعه الآخر، فزادت الجلبة في المكان، اعتدل النادل في وقفته متحفزا لمساعدة الوالد. تزايدت أصوات سقوط الأشياء حولي، وتعالت نداءات الأب. امتدت نحوي يد صغيرة وناعمة وأمسكت بذراعي، لم أستطع الالتفات، أو إبداء أي ردة فعل، كنت أتمنى أن يكون طفلي، يسحب لي طرف ثوبي لأشتري له الحلوى، لم يزعجني صراخه المتواصل وتشبثه بي، أمسك الطفل الآخر بذراعي الثانية، وقفا حولي مستنجدين، وفي داخلي ارتسمت صور الأكفان الصغيرة التي حملها زوجي بين يديه برباطة جأش.
نظرت إليهما، فقفزا دفعة واحدة لصدري، سحبت شهقة هواء مليئة برائحتهما، فيهما دفء أطفالي جميعهم، شعرت بقوة تسري داخلي، احتضنتهم معا، لم أكن أشعر بما حولي، كل ما كنت أسمعه هو نبضات قلبيهما، وتنفسهما المتلاحق، مررت كفي على شعرهما، وهما لا يزالان يغرسان رأسيهما في صدري، سمعت والدهما يعتذر، فرفعت عيني إليه ولم أتبين ملامحه حتى مسحت بطرف كمي دموعي، أردت إخباره أنني أحتاج الحديث معهما عن أطفالي، ربما يعلمان مكانهم، لكن كل شيء هدأ فجأة، رفعا رأسيهما معا، ثم انسحبا رويدا رويدا لوالدهم الذي وقف ينظر لي باستغراب.
لم يكن أمرا خارقا أو سحريا، ما زلتُ مفقودة في غياهب الجب، «عودا فأنا لم أحصل على الإجابات» وحين عاد كل شيء لمكانه، رحل الشاب أولا، ثم الرجل القارئ. بعدها بفترة سمعت العائلة تلملم أغراضها للخروج، كان الزوجان يوزعان الأطفال بينهما ليصحباهم للخارج، همستْ في أذن الأب: «لا تغضب، تحملهم وتذكر ما أخبرك به الطبيب فآجالهم قريبة والعلم عند الله، فمثل حالاتهم لا تعيش طويلا».
اختنقتُ بالأسئلة، ليس عن مرضهم أو إعاقتهم، ولكن عن اليقين الذي يجعلهما يربيان أطفالا سيفقدانهم في كل الأحوال، لماذا جميعهم على الرغم من أنهم ليسوا توائم؟ أردت سؤالهما كذلك كيف يمكنهما الخروج بهم للمقاهي والنزهات، وربما يشركانهم في المناسبات، ويذهبان بهم إلى الألعاب، ويلتقطان لهم الصور. ماذا عن ملابسهم، وألعابهم وأماكن نومهم؟ كل هذه وأكثر تنبت شوكة في خاصرة ذاكرتهم، فأين سيفرّان منها بعد فقدانهم؟ إذا كان الموت محتما، ماذا بعد الفقد؟ هل المعرفة به تؤدي لليقين أم أنه اليقين أنبت القوة داخلهما أم أنهما يسلمان الأمر للعيش في هذه اللحظة؟
تناولتُ هاتفي ووضعتُه أمام وجهي، فتعرفَ عليّ هذه المرة. ظهرت رسائل أمي تسأل عن مكاني، واتصالات عديدة من أخي وزوجي، ورسائل من صديقتي، اختنقتُ بشهقة علت أمام سيل ذكرياتهم، نهضتُ حاملة حقيبتي عائدة إليهم.
فاطمة بنت سعيد الزعابي قاصة عمانية
0 تعليق