كيف يتخيّل العربي نفسه في زمن الإبادة المستمرّة؟ وكيف يتخيّله الآخرون في ظلّ عجزه الرسمي والشعبي معًا، عن إيقاف واحدة من أكبر الإبادات الجماعية في تاريخ أمّته المتخيَّلة؟ والأهم من ذلك: كيف يتخيّل العرب أنفسهم أمّةً، بينما هم مختلفون على إجابة سؤال المعركة الأهم: من هو العدو؟
يتصاعد قلق الهوية في زمن الإبادة إلى الحدّ الذي يحاول فيه العربي أن يتشبّث بالمشتركات في عربيٍّ آخر، فلا يكاد يمسك بغير هذه اللغة التي تشعّبت إلى لهجات. ويتمظهر هذا القلق، في كثير من الأحيان، بالنزوع العنيف إلى عصبيّات جاهلية، عشائرية أو طائفية، ويجد، في حالاتٍ أخرى، خدره الملائم في الانتشاء بنرجسيّات وطنية منفوخة على حساب الشعور العربي. غير أنّ النموذج الفاقع للردّة عن العروبة، والذي لطالما لفتني، هو ذلك الذي يكره نفسه لمجرد أنّه عربي. واللافت أكثر أن تصدر كراهية الذات هذه عن البعض كوسيلة للتعبير عن براءة الذمّة من الحال العربية، أو القول على طريقة المتنبي: «وما أنا منهمُ بالعيش فيهم-». فهل يجب علينا أن ننحت مصطلحًا قابلاً للتداول للتعريف بهذا النوع؟ مصطلحًا على غرار «اليهودي الذي يكره نفسه» مثلًا؟
لا شكّ في أنّ تعريف أنفسنا عربًا في هذا المناخ الإبادي والمهين من تاريخنا مسألةٌ صعبة، وشاقة، ومحرجة أمام الذات قبل كلّ شيء، وتتطلّب الجسارة. كما أنّ السؤال عن العروبة اليوم يستثير غبار أرشيف أدبيّاتنا القومية للتنقيب عن المعنى الجوهري لهذه اللفظة، إن كانت لا تزال صالحةً للاستخدام في أيامٍ كهذه، بعد أن تلوّثت بصيت الاستبداد والفشل والشعبوية.
الخطاب الليبرالي العربي يساهم هو الآخر في التعامل مع الهوية القومية وكأنّها مجرّد حنينٍ ماضوي «رومانسي» إلى عروبة مستحيلة كان حاتم صاغية قد سارع إلى نعيها بانتشاء قبل ثلاثين سنة، فضلًا عن تسفيه الاعتقاد بالعدو المشترك. في حين أنّ مثقّفًا عربيًّا آخر كعزمي بشارة لا يرى أيّ تناقض بين ليبراليّته واهتمامه بالمسألة القومية، مؤكّدًا أنّ «التخلّي عن القومية العربية القائمة في وجدان الناس وثقافتهم ومتخيَّلهم واهتماماتهم، كانتماء عربي واهتمام بالشأن العربي، ارتياحًا أو تذمّرًا، هو تخلٍّ عن طاقة وحدوية علمانية حداثية من الدرجة الأولى» (أن تكون عربيًّا في أيامنا، ص27).
من البدَهيّ أن تتضمّن الحرب، في سياقها، عملية محو هويّاتي. هذا المحو، سواء أكان منهجيًا أم عشوائيًا، هو نتيجة تلقائية لفعل الحرب في أيّ مكان. وحتى لو لم تُسفر نهايتها عن إبادة كاملة لهوية معيّنة، فلا شكّ في أنّ الحرب تخلق تشوّهات غائرة في الصورة المتخيّلة للشعوب عن نفسها. قد تنتهي الحروب بتحوّل القوميّات إلى مللٍ وطوائف وعشائر، معزِّزةً المُختلَف على حساب المؤتلَف القومي، وهذا ما يقوله تاريخ الحروب الأهلية إجمالًا. في المقابل، قد تكون الحرب ضدّ عدو خارجي فرصةً سانحةً لتعزيز الهوية القومية الموحدة، انطلاقًا من التعريف الموحَّد للعدو. خلاصة الفكرة تتمثّل في فهم الحرب بوصفها مناخًا لإعادة تعريف الهوية وتشكيلها، تبعًا لثنائية النصر أو الهزيمة، أو ما بينهما من احتمالات وخيارات، فالهويات تصنعها الهزائم كما تصنعها الانتصارات.
منذ احتلال فلسطين عام 1948، وفكرة الصراع العربي مع إسرائيل، نظريًّا على الأقل، هي العامل الأبرز - بلا مبالغة - في تشكّل هويتنا العربية المعاصرة. وبالنسبة لي كعربيّ، فإنّ الإصرار على تعريف الصراع بوصفه صراعًا «عربيًّا إسرائيليًّا» مسألةٌ تمسّ هويّتي وتعريفي لمن أكون بصورة مباشرة. فوصْف الصراع بأنّه صراع عربيّ إسرائيليّ هو نقطة ارتكاز هوياتية في ظلّ تلاشي المشتركات العربية، حتى لو بدا ذلك -مجددًا، بالنسبة لليبراليّ العربي- مثارًا للسخرية والتهكّم، على أنه محض مكابرة «رومانسيّة». فالحرمان من تعريف العدوّ المشترك هو حرمان قسريّ لأهمّ محرّكات الهوية القومية، وهو ما يذكّرنا بالعبارة المنسوبة إلى ألكسندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي لآخر رؤساء الاتحاد السوفييتي، حين قال للأمريكيين: «سنقدّم لكم أسوأ خدمة: سنحرمكم من العدو!».
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
0 تعليق