دولة القانون أم "دولة الفتوى"؟: صناعة الفوضى بغطاء ديني

الغد 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

loading ad...

هذا السؤال الذي يبدو ظاهره تقابليا، يكشف عن إشكالية أعمق تتعلق بطبيعة الفقه ومقاصده، وحدود الدولة ووظيفتها، وإمكانات استيعاب التشريع لمقتضيات الواقع المتغير.اضافة اعلان
الفقه بصفته تراثا معرفيا متجذرا يمثل منظومة اجتهادية ضمن منهج معرفي منضبط لفهم نصوص الوحي، في حين أن القانون هو منظومة من القواعد التي تضعها سلطة تشريعية لتنظيم المجتمع من نواح متعددة وتوازنات معقده تحفظ أمن المجتمع وحاضره ومستقبله، فهل يمكن للدولة أن تكون «دولة فتوى» فيما يتعلق بالشأن العام؟ أم أن الفتوى، بطبيعتها، لا يُناط بها الإلزام التشريعي، بل يُستلهم كمرجع توجيهي في صناعة القوانين؟
الفتوى بين الإلزام والتوجيه:
الفتوى، في جوهرها، ليس خطابا سلطويا ولا تحمل في طياتها صفة الإلزام القانوني، بل هو اجتهاد استنباطي يتجه إلى تقويم أفعال المكلفين من زاوية تعبدية تكليفية (ما يجب وما لا يجب)، بينما يُعنَى القانون بتنظيم العلاقات بين الأفراد والسلطات وفق مفهوم الإلزام القانوني، هذه الطبيعة تجعل الفتوى أقرب إلى المجال التربوي والأخلاقي والتعبدي، حيث يقوم على قناعة المكلف وسعيه للامتثال، وليس على قهر السلطة وإجبارها للأفراد، فالاختلاف بين الفتوى والقانون يكون في الغاية والوظيفة.
فالفتوى توجّه، بينما القانون يُلزم، والفتوى تُعلِّم، بينما القانون يُجبر، لهذا لا يمكن للدولة أن تدار بالفتاوى، ولكن يمكن أن تعتمد الفتاوى الفقهية فيما يتعلق بالشأن العام، بشرط أن تتحول إلى قانون يُكسبها الإلزام التشريعي، فهناك فرق بين الحكم الشرعي، والقانون التشريعي المتعلق بالشأن العام ويؤثر على حياة المواطنين مباشرة، على اختلاف أديانهم وثقافاتهم.
دولة القانون بروح الفقه:
إذا كانت الدولة تحتاج إلى قوانين واضحة ومنضبطة، فإنها في الوقت ذاته ليست معزولة عن منظومتها القيمية والحضارية، وهنا يأتي دور الفقه كمصدر يُستقى منه في بناء التشريعات، ولكن لا يُؤخذ به في صورته التقليدية غير المؤطرة قانونيا فيما يتعلق بالشأن العام، التجربة الإسلامية نفسها لم تُبنَ على تطبيق فقهي، بل على سياسة شرعية تراعي المصالح العامة، ولعل من أبرز نماذج ذلك «مجلة الأحكام العدلية» التي قنّنت الفقه الحنفي في صورة قوانين ملزمة، فانتقلت من طور الاجتهاد النظري إلى الإلزام التشريعي، وكذا قانون الأحوال الشخصية الأردني حيث انتقل من صفة الفتوى إلى قوة القانون وإلزاميته من أجل استقرار حياة الناس وتحقيق مصالحهم، مما يؤكد أن الدولة ليست مطالبة بأن تكون «دولة فتوى» بالمعنى التقليدي، بل هي «دولة قانون»، وهذا يوضح أن الدولة بصفتها الضامن لحفظ النظام العام يمكنها أن تستمد قوانينها من الفقه، ولكن بعد إخضاعه لعملية تقنين تحوله من اجتهاد نظري إلى منظومة تشريعية محكمة.
المذاهب الفقهية مناهج استنباط لا هويات:
إن التعامل مع المذاهب الفقهية كأنها هويات لا تقبل التغيير، يُلزم الفرد والدولة بالانتساب إليها، هو إخلال بالمقاصد المعرفية للفقه ذاته، فالمذاهب لم تكن يوما حجرا على الفكر، بل هي مدارس اجتهادية تهدف إلى ضبط عمليات الاستنباط، وليست غايتها تقييد حركة الاجتهاد أو حَجْر الفقه في قوالب ثابتة.
وإذا كانت الدولة بحاجة إلى إطار تشريعي منبثق من تراثها الفقهي، فإن من حقها أن تنتقي من جميع المذاهب الإسلامية، بل ومن الاجتهادات المستجدة، ما يحقق المصلحة العامة، دون أن تتقيد بمذهب واحد، أو اتجاه فقهي بعينه، فالقانون المستمد من الفقه لا يجب أن يكون انعكاسا لنظرية فقهية بعينها، بل يجب أن يكون نتاجًا لعملية استقراء واسعة لتراث الفقه الإسلامي بكل مذاهبه، بهدف اختيار الأنسب للدولة والمجتمع، في ضوء المستجدات.
وفي هذا السياق، لا بد من التوقف عند ظاهرة باتت تتكرر في الأزمات، وهي صدور فتاوى تخص الشأن العام كإعلان حالة الحرب والسلم، أو العصيان المدني، أو التمرد على القانون، من جهات غير مخولة – أفرادا أو جماعات أو هيئات- وإثارة الشارع تحت عناوين دينية أو شعارات نضالية، إن هذا التوظيف غير المنضبط للفتوى، في الشأن العام والسياسي، يُشكل خطرا على استقرار الدول، ووحدة الشعوب، وهيبة القانون، ومن واجب كل عاقل غيور على وطنه، أن يرد تلك الفتاوى إلى نصابها، وأن يرفض استخدامها كأداة لزرع الفوضى تحت غطاء ديني.
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق