مَـقـام الـذّات

صحيفة عمان 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

للإنسان مـقـدارٌ من الاعتـداد بالذّات يكاد أن لا يَـعْـرَى منه أحـد؛ فهو شديـد التّـعـلُّق بذاته بما لا يناظـره تعـلُّـقٌ آخـر بغيرها؛ وقـد لا يـثق إلّا بها في الأغلب، بـل نادرًا ما قـد تـتزعزع لـديه الثّـقـةُ أو تصيبُها ذَرّةٌ من شـكّ. وحتّى في الأحـوال التي يـثـبُتُ له فيها بطلانُ ما قـرَّ عليه يقيـنُ ذاته فيدعوهُ ذلك إلى المراجعـة وتصويـب وِجهـة الإدراك، يأبى إلّا أن يوفّـرها من أيّ نـقـدٍ فـيلتـمس لها الأعـذار ويبـرِّر لها ما أخطأت حسبانـه، أو يسكت عمّـا ذهلت عنه. هـذا مسْلَـكٌ إنسانيّ طبـيعيّ في مقـام الفعل النّابع من محض الغريزة، لذلك ليس في هذا الولـع الشّـديد بالذّات ما يدعو إلى الاستغراب أو الاعتـقاد بمجافاته للطّـبائع. ومن الثّـابت أنّ هذا المنزع إلى التّمسُّك بالذّات والانصرافِ إلى إشباع مطالبها هـو عينُـه الذي تـتولّد منه ظواهر عـدّة في حياة الإنسان من قـبيل: حبّ التّملُّك، والأنانيّـة، والغرور، والاستعلاء، والشّعور بالتّـفوّق، والشّعور بالكرامة...، وسواها من الظّواهر الطّبيعيّـة الإنسانيّـة المتراوحة بين حـدّ السّواء وحـدّ المَـرض، والتي تـترجم تـيّارات الطّبيعة الإنسانيّـة (والحيوانيّـة) المعتملة في الكائـن الإنسانيّ.

على أنّ الذّاتيَّ في الإنسان ليس منحصرًا في ذلك المعطى الطّبيعيّ، بـل كثيـرًا ما يحتاجُ فـكُّ لُـغـزِه إلى العودة إلى الاجتماعيِّ والثّـقافيِّ لرؤية أبعادٍ أخرى فيه قـد تكون محجوبةً أو قـد تُـنْسَب، خـطأً، إلى المَنازع الطّـبيـعيّـة حصرًا.

معنى ذلك أنّ الذّات منـتوجٌ اجتماعيّ وثـقافيّ مـتولّـدٌ مـن تاريخ كـلّيّ هو عيـنُـه تاريخ الإنسان في أبعاده الشّاملة: الاجتماعيّـة والفرديّـة والثّـقافيّـة، وليس معطًى من الطّبيعـة فحسب. قـد يـبدو الذّاتيُّ في الإنسان صعيـدًا مستـقلًّا عـمّـا هـو في حكم اجتماعيّـات الإنسان أو مـا هـو اجتماعيٌّ في الإنسان، بل إنّ ذلك -بالذّات- هو ما سعتِ الفلسفاتُ الوجوديّـة واللّـيبراليّـة والفردانيّـة إلى التّشديد على بداهـته، وعلى ضرورته، في مواجهة النّـظام الجمعانيّ التّـقـليديّ أو الأيـديولوجيّـات والفلسفات الاجتماعيّـة والاشتراكيّـة. غير أنّ حقيقة الذّاتيّ خلافُ ذلك تمامًا؛ إذْ مـع أنّ الذّات تنطوي على مساحةٍ من الفرديّـة والاستقلاليّـة عن المحيط الخارجيّ، هي ما يصنع لحظةَ الحرّيّـة في الكينونة الإنسانيّـة، إلّا أنّها -في الوقـتِ عينه- لم تـتكـوّن كـذاتٍ إلّا في سياق مؤثّـرِات موضوعيّـة فاعلة.

ومهما بالغت الذّاتُ في النّـظر إلى نفسها بحسبانها جوهرًا ومبدأً للوجود -على ما أشاعه الكوجيتوالدّيكارتيّ- فإنّ كـينونتها تشكّلت من مجموع العوامل التي اتّصلت بها أو حدّدتها بوصفها ذاتًـا. ومعنى ذلك أنّ الموضوعَ، ما خارجَ الذّات، هـو ما يحـدّد الذّات وما يجعل الأخيرةَ تُدْرِك أنّها ذاتٌ تتـمتّـع بكيانيّـةٍ مستقـلّـة؛ وهـو ما يحصل لها حين يفضي بها اتّـصالُها بمحيطها التّاريخيّ إلى تحقيق لحظة الوعـي الـذّاتيّ.

نحن لا نـتعرّف إلى ذواتـنا، لا نـتمـيّـز ما تـنماز بـه ويصنع كيـنونها الخاصّـة، إلّا في علاقاتها بغيرها الآخر. الآخـر -وهـو موضوع خارجيّ- هو ما يحمل الذّات على وعيها نفسَـها؛ على وعي غيْـريّـتها واختـلافها. وهـذا التّـقابل بين الـذّات وآخَـرِها، بينها ومحيطِها الخارجيّ هو ما ينفي، تمامًا، النّـظرة الجوهـرانيّـة إلى الذّات بوصفها ذاتًـا مفـردَةً مستـقـلّـة عن أيّ تأثـيرٍ خارجها ومستكـفيـةً بنفسها عن غيرها، متـشـبّعة عن غيرها، متـشبّـعة بحيّـزها الخاصّ ومتـغـذّيـة من ينابيـعها الخاصّـة...

قـد لا يَـحْـفِـل بأمر الذّات، بما هي كيانٌ مفـرَدٌ مجـرَّدٌ من الأخـلاط، سوى الفلسفة والفلسفة الوجوديّـة على نحـوٍ خاصّ. حتّى التّـحليل النّـفسيّ وعلم النّـفـس إجمالًا (وليس علم النّـفس الاجتماعيّ فـقط) لا يجرّدان الذّات المفـرَدة من آثار المحيط الاجتماعيّ فيها؛ لأنّ من شأن مثـل ذلك التّـجريد أن يـحُول دون معرفة حالها على التّحقيق. أمّـا في علوم الاجتماع وعلم التّاريخ وفلسفة السّياسة وفلسفة الدّيـن...، فالذّات مرآةٌ تـنعكس فيها مؤثّـراتُ المحيط ولا تُـدْرَك إلّا بمـا هي جـزءٌ منه.

الأهـمّ من ذلك أنّ هذا المفهوم فـوق- الفرديّ للذّات، الذي تتـوسّله هـذه الميادين من المعرفة، يتيح إمكانًا لتعريفٍ آخر مختلفٍ لها تكون فيه الذّات أوسعَ مدًى من الفـرد وأكـثـر إجرائيّـةً لفهم الاجتماع والتّاريخ. وهكذا، فبمقدار ما ترمُز إلى الفرد (الذّات المفـردَة)، ترمز إلى المجتمع (الأمّـة، الحضارة) وإلى التّاريخ فـيُـنْـظَـر إليها، بهذا الاعـتبار، من حيث هي ذاتٌ (أو أنا) جماعيّـة.

والحـقّ أنّ ما يَـعْـرِض لذات الفـرد من ضروب الإدراك للعالم ومـن ضروب التّـفاعل معه، سِلبًا وإيجابًا؛ وما يَـرْقُـد في جوفها من ضروب اليقيـن والإيمان والثّـقة بالنّـفـس يَـعْـرِض للذّات الجماعيّـة (المجتمع، الأمّـة، الحضارة)؛ حتّى لقد تبدو الذّاتُ الثّانيـة في هـذا امتـدادًا لذات الفـرد أو تجسيمًا مكـبَّرًا لها، مع أنّ ميلاد هذه الذّات الجماعيّـة -لِـنَـقُـل الهُـويّـة- لا يكون إلّا بتـكـوُّن وعـيٍ جمْعيّ أو وعـيٍ بها من حيث هي ذاتٌ جماعيّـة؛ وهـذا، أيضًا، لا يتـأتّى ويُمكن أمـرُه إلّا بتجاوز الوعي الذّاتيّ الفرديّ ومجاوزةِ حدود عالم الفـرد وهواجسه ومصالحه، أي جملة ما يجعله منكفـئًا على داخلٍ مغلَـق. في هذا الوعي بالذّات الجماعيّـة، فـقط، يمكن تحقيقُ وعيٍ ذاتيّ فـرديّ متوازن وفاعـلٍ، غيرِ مضطرِب ومتخاصم مع المحيط الجماعيّ؛ أو، لِـنَـقُـل، تحقيق وعـيٍ غـيـرِ شقيّ.

ولأنّ الذّات شديدةُ الاعتداد بنفسها والتّـمركُزِ على ذاتها فـإنّها، في صورها الثّـلاث (الفرد، الجماعة، الحضارة)، تبدو من الدّاخـل على هيـئة طـبقـاتٍ متـكلّـسة من مـواردَ شعوريّـة وعَـقـديّـة وفكـريّة متعاقبة على ساحة وعيها.

وهـذه كنايـةٌ عن مشاعـرَ إيجابيّـة أو سلبيّـة (فرديّة وجماعيّـة)، وعن نظيرها من الاعتـقادات واليقـينـيّـات الرّاسخة عميقًا التي تكاد أن لا تـتزعزع. إنّ ما تعيه هـذه الذّات في حاضرها ليس من تـلقاء وعـيٍ شَـحَـذهُ عصـرُهُ وزمـنُـه، بل الغالبُ عليه أنّـه ثمـرةُ وعـيٍ مسكـونٍ بمحصَّـلة ما انـتهى إليه -بالمواريـث- من يقيـنيّـاتٍ منحدرة من أزمـنـةٍ سالفة.

بـل إنّ كثـيرًا ممّـا تفعله تلك الذّات وتسـلكُـه لا يكون ممّا تُمليه عليها أوضاعُها المتجدّدة، بـل ممّا دُرِج عليه طويلًا واعْـتيـدَ حتّى بات تـقليدًا أشبه ما يكون بالمـقدّس. والحـقُّ أنّ أمّ المشكلات، هـنا، إنّما هي في أنّ الذّات تستبـده ما اعـتـنـقـتْـه من أفـكارٍ وما درجتْ عليه من مسلك أو أفعال من غير أن تستريب -لحظةً- في صحّـتها. هكـذا تمتـنع، بالتّـلقاء، عن مساءلة نـفسها ومراجعة مخزونها من الأفـكار والأفـعال ذاهبـةً في مُـعتادها، بـل سادرةً فيه!

عبدالإله بلقزيز أستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، وحاصل على جائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق