دبي، الإمارات العربية المتحدة (CNN) -- في العام 2010، انتشلت شباك صيد فكًّا متحجّرًا من قاع البحر، على بُعد 25 كيلومترًا قبالة سواحل تايوان. كان الشكل البشري للفك واضحًا، غير أنّ العلماء، ولفترة طويلة، لم يتمكّنوا من تحديد مكانه بدقة على شجرة العائلة البشرية.. إلى يومنا هذا.
أطلق العلماء على هذه الأحفورة اسم "بينغهو 1"، وتمكنوا من تأكيد هويتها الغامضة من خلال تحليل بقايا قليلة من البروتينات القديمة الموجودة في الأسنان التي ما زالت متصلة بالفك. وتبيّن لهم أنّ الفك يعود لرجل من نوع "الدينيسوفان"، وفق النتائج التي نُشرت في مجلة ساينس، الخميس.
وقال المؤلف المشارك في الدراسة، فريدو ويلكر، الأستاذ المساعد في علم الإنسان القديم الجزيئي بمعهد غلوب في جامعة كوبنهاغن بالدنمارك: "لقد حدّدنا وأظهرنا خلال السنوات القليلة الماضية أن هذه البروتينات يمكن أن تبقى على قيد الحياة لفترة أطول من الحمض النووي، وأنه إذا تمكّنا من استعادة عيّنات جيدة، يمكننا اكتشاف أمر ما عن السلالة التطورية للمثال المدروس".

لطالما انتشل الصيادون العاملون قبالة سواحل تايوان عظام الحيوانات القديمة، مثل الفيلة، وجواميس الماء، والضباع، في شباكهم، وهي بقايا تعود للعصر الجليدي عندما كانت مستويات البحر أدنى، وكان الممر البحري جسرًا بريًا.
لذا يُحتمل أنّ الرجل الدينيسوفاني قد عاش على هذا الشريط من الأرض الذي كان موجودًا بين ما يُعرف الآن، بالصين وتايوان.
ويُؤكد هذا الاكتشاف، بحسب ويلكر، الموقع الثالث الذي تم تحديده بشكل قاطع لعيش البشر القدماء الغامضين الذين تم التعرف عليهم لأول مرة في العام 2010، ويُظهر أن الدينيسوفانين احتلوا مجموعة متنوعة من البيئات:
جبال سيبيريا، وهضبة التبت عالية الارتفاع، والمناطق الرطبة شبه الاستوائية.أصل غير عادي
غالبًا ما يبيع الصيادون الذين يعثرون خلال صيدهم على الأحافير إلى محلات التحف، حيث يقوم الجامعون بشرائها، بحسب ما قال المؤلف المشارك في الدراسة، تشون-شيانغ تشانغ، أمين قسم علم الأحافير في متحف تايوان الوطني للعلوم الطبيعية.
ويحتوي المتحف على آلاف الأحافير التي عُثر عليها من قاع البحر ضمن مجموعاته.
أحضر أحد الجامعين عظمة الفك التي تم التعرف عليها الآن كعظمة فك دينيسوفانية، إلى المتحف رغبة منه بمعرفة المزيد عن العينة، وقال تشانغ إنه أدرك فورًا أنها غير مألوفة، وشجع الجامع على التبرّع أو بيع الحفرية للمتحف، وهذا ما فعله.
في العام 2015، نشر تشانغ ورقة بحثية شارك في تأليفها، ورأى فيها أنّ الأحفورة تنتمي إلى جنس Homo، وهو التصنيف الذي ينتمي إليه نوعنا Homo sapiens، وبشر آخرون قدامى مثل النياندرتال. لكنّ الزملاء لم يتمكنوا من استخراج أي حمض نووي قديم من الحفرية، ولم يتمكنوا من التحقق من النوع الدقيق.
إلى ذلك، لم يكن ممكنًا تأريخ الأحفورة بدقة. يعتقد العلماء أنّ عمرها يتراوح بين 10,000 و70,000 سنة، أو بين 130,000 و190,000 سنة، ما يحدّد عمر العظمة في فترة كان فيها مستوى البحر في تلك المنطقة منخفضًا.
أخذ تشانغ العينة إلى كوبنهاغن في العام 2022، على أمل تعلم المزيد من ويلكر وعلماء آخرين كانوا رائدين في تقنيات استخراج البروتينات من الأحافير، وهو مجال يُعرف باسم الپاليوپروتيوميات.

قبل اختبار عظمة الفك، أخذ ويلكر وزملاؤه عينات من عظمة فيل، وعظمة خنزير من ذات المنطقة في قاع البحر لاختبار طرق الاستخراج التي ستكون الأكثر فاعلية، وتحديد ما إذا كانت البروتينات ما تزال موجودة. وجد الفريق البروتينات وواصلوا استخراجها.
وتمكنت تحليلات البروتينات المستخرجة من العينة، من الكشف عن تسلسلين من الأحماض الأمينية متطابقين مع تلك المعروفة لدى جينوم الدينيسوفان. إلى ذلك، كشفت الأعمال المخبرية عن نوع من البروتين يحتوي على ببتيد مرتبط بالجنس يسمى أميلوجينين، وكشفت ببتيدات مرتبطة بالكروموسوم Y أن الفرد الدينيسوفاني كان ذكرًا، وفق ويلكر.
مفارقة الدينيسوفان
تم التعرف على الدينيسوفانيين لأول مرة في العام 2010، داخل مختبر، وذلك باستخدام تسلسل الحمض النووي المستخرج من قطعة صغيرة من عظمة إصبع عُثر عليها داخل كهف دينيسوفا في جبال آلتاي بسيبيريا، وتيمنًا به أطلق على هذه المجموعة هذا الاسم.
أظهر التحليل الجيني في ما بعد، أن الدينيسوفانيين، مثل النياندرتال، كانوا قد تزاوجوا في وقت ما مع البشر الحديثين الأوائل. وتشير آثار الحمض النووي للدينيسوفانيين الموجودة لدى الأشخاص المعاصرين، إلى أن هذا النوع القديم قد عاش على الأرجح في معظم أنحاء آسيا، وبدأ الاكتشاف الأخير لأحفوريات الدينيسوفانيين خارج الكهف ما أظهر أنهم احتلوا مجموعة واسعة من الأماكن في آسيا.
في العام 2019، شارك العلماء أخبارًا تفيد بأن عظمة فك عُثر عليها في كهف على الحافة الشمالية الشرقية لهضبة التبت، والمعروفة بعظمة فك "شياخه"، تحتوي على بصمة جزيئية للدينيسوفان. تم الإبلاغ عن عظمة ضلع دينيسوفانية من ذات الكهف، في العام 2024.
في العام 2022، تمكّن العلماء من تحديد سن وُجد في كهف بلاوس، على أنه يعود للدينيسوفانيين لأنه كان يشبه إلى حد كبير السن الموجود في عظمة فك "شياخه". هذه الدلالة وضعت هذا النوع لأول مرة في جنوب شرق آسيا، رغم أنّ العلماء لم يتمكنوا من الحصول على أي معلومات جزيئية قاطعة من الضرس لتأكيد ذلك.

قالت عالمة الآثار، تشانغ دونغجو، الأستاذة في جامعة لانتشو الصينية، غير المشاركة في الدراسة، والتي عملت على عظمة فك شياخه، إن الحفظ الجيد على البروتينات في عظمة فك "بينغهو 1" أمر مفاجئ، نظرًا لأنها كانت في قاع البحر لفترة طويلة.
وأضافت: "مع تزايد اكتشاف الأحافير الدينيسوفانية، وزيادة تحديد البصمة الجزيئية الخاصة بالدينيسوفانيين، سيصبح تحديد الأحافير الدينيسوفانية أسهل. وأعتقد أن المزيد من الأحافير الدينيسوفانية سيتم اكتشافها وتحديدها مستقبلًا، ما يتيح لنا معرفة المزيد عن هذا النوع الغامض".
وقال رايان ماكراي، عالِم الإنسان القديم في متحف سميثسونيان الوطني للتاريخ الطبيعي في واشنطن، إن عظام فك "بينغهو 1" وفك شياخه لم تحتو على أسنان الحكمة، ما قد يشير إلى أن فكوكهم لم تكن بارزة للأمام في وجوههم.
وأضاف: "لا يحتوي أي من الفكّين على ذقن، كما هي الحال عند البشر المعاصرين، لذا فإن مقدمة خط الفك لديهم كانت على الأرجح أكثر استواءً من خط فكنا".
وتابع، أنه "من الحكمة أن يشير المؤلفون إلى أن عظمة فك بينغهو هي لرجل، ما يعني أنه قد يظهر الجانب الأكبر والأكثر قوة من التنوّع لهذا النوع. بمعنى آخر، قد تبدو الدينيسوفانيات الإناث مشابهة، أو مختلفة تمامًا، لكننا ببساطة لا نعرف بعد".
0 تعليق