loading ad...
إريك غارتزكي – (ذا أميركان كونسيرفاتيف) 7/4/2025
بمعاملة النظام الليبرالي العالمي كغابة يأكل فيها القوي الضعيف، فإن الخطر الحقيقي هو أن ينتهي المطاف بالجميع جياعا، أقل أمنا، وأشد فقرا.اضافة اعلان
* * *
من الأفضل أن تكون المفترس من أن تكون الفريسة –لا شك في أن هذا الحدس البديهي يتردد في أذهان الكثيرين في واشنطن تحت حكم دونالد ترامب، كما في عواصم العالم الأخرى في الوقت الراهن.
لكنّ ثمة تحذيرًا جوهريًا ينبغي الانتباه إليه في هذا المنطق، والذي ينبغي أن تتنبه له بشكل خاص تلك الدول القليلة التي تمتلك من القوة ما يكفي لفرض إرادتها على (معظم) الآخرين. هذا التحذير مستمد من علم البيئة —أي من منطق الجماعات لا الأفراد— ومن حقيقة أن مجتمع المفترسين، كمجتمع، محدد حتميا بمقدار الفرائس المتاحة له.
لا يمكن لمجموعة من الكائنات أن تنمو، عندما يتعلق الأمر باستهلاكها للسعرات الحرارية، بما يتجاوز حجم المتاح لها من الموارد الغذائية. وبالمثل، فإن قبيلة من الغزاة الرُّحل لا يمكنها التوسع بأكثر مما تتيحه لها القرى التي يمكن أن تنهبها. وعلى النقيض من ذلك، يمكن للأمم أن تنمو بما يتجاوز حدود فرائسها. لقد توسعت الإمبراطوريات القديمة مثل روما، والسلالات مثل التي كانت في الصين، حتى تخوم العالم المعروف. ولكي تفعل ذلك كان عليها أن تتحول من مفترسات، إلى كيانات مبدعة وميسرة.
كان ما أدركته تلك الإمبراطوريات هو أن مزيدا من الثروة والقوة يمكن تحصيله من خلال التعاون مع جيرانها -بكبح نزوعها الافتراسية- أكثر مما تجنيه من نهبهم. لم يكن "السلام الروماني" نزعة إنسانية حالمة بقدر ما كان عملا حكيما. يبلي القادة الأذكياء للقوى العظمى حسنا حين يستفيدون جيدًا من أحد أعظم الأصول: الثقة.
شرح عالم السياسة، مانكور أولسون، هذا المنطق بسرد حكاية بليغة عن الفلاحين (الفرائس) وقُطَّاع الطرق (المفترسين). في عالمهم المضطرب المختل وظيفيًا، كان الجميع يعاني ولكل منهم مشكلة. الفلاحون يترددون في حرث الأرض لأن كل شيء ينتجونه ينهبه قطاع الطرق. وقطاع الطرق في المقابل يعانون من نقص الفرائس؛ في قرية بعد قرية، كان هناك بالكاد شيء متاح ليسرقوه.
كان الحل يكمن في التعاون، وفي الحوافز التي تولّد الحد الأدنى من الثقة اللازم لتحقيقه. "الثقة" في هذه الحالة محدودة جدا، من النوع الذي ينبع من كونك واثقا من سلوك الآخر. يمكنك أن "تثق" في أن لصّ بنوك سيسطو على البنوك.
يتحقق التعاون حين يدرك قطاع الطرق المتنقلون أنهم يستطيعون التحول إلى "مستقرين": يمكنهم أن يستقروا وأن يحموا مجموعة من الفلاحين من قطاع الطرق الآخرين. وبفعلهم ذلك -كما برهن أولسون، رياضي- يساعد قطاع الطرق المستقرون أنفسهم ويفيدون الفلاحين على حد سواء.
كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك؟ كيف يمكن لنهب أقل أن يجعل المرء أكثر غنى؟ تكمن الخدعة في ما يُدعى "توافق الحوافز". إنه المنطق ذاته الذي يمنعنا من قيادة المركبة في عكس اتجاه السير؛ سوف يكون احتمال الاصطدام بمحاولة اختصار الطريق كبيرا جدا. ومن الأفضل أن تصل متأخرا من أن لا تصل أبدا.
بل إن التوافق التحفيزي بين الفلاحين واللصوص المستقرين يكون أكثر عمقًا وتأثيرًا. إذا تمكن اللصوص من السيطرة على جزء من الأرض، فإنهم يطوّرون تدريجيًا "مصلحة شاملة" مع الفلاحين المحليين. من خلال حماية "فلاحيهم" من المفترسين الآخرين، يصبح اللصوص المستقرون -عمليا- مالكين لكل ما ينتجه هؤلاء الفلاحون.
لكن السحر الحقيقي ينبع من الحوافز التي يمتلكها كل من الفلاحين واللصوص في هذا النمط الاجتماعي الجديد. يستطيع اللصوص المستقرّون الآن أن ينهبوا ويفترسوا نفس الفلاحين عاما بعد عام. وبما أن كلا الطرفين يشتركان في مستقبل يمكن التنبؤ به، وبما أن اللصوص يظلون جشعين، فإنهم يستطيعون الاستفادة من تشجيع الفلاحين على أن يكونوا أكثر إنتاجية. لكن الفلاحين الذين يدركون أن كل ما ينتجونه سوف يُنهب –كما كان الحال في السابق– لن ينتجوا الكثير.
يحُل قطاع الطرق هذه المعضلة بالالتزام بأخذ (جزء) فقط مما ينتجه الفلاحون، (ضريبة). ومن جانبهم، يستطيع الفلاحون أن يثقوا بهذا الوعد لأنهم يدركون هم أيضًا أن تحفيز الإنتاج، والالتزام بتحصيل الضريبة بدلًا من النهب، سيكون المصلحة طويلة الأجل لقطاع الطرق.
سيكون حال الفلاحين أفضل لأنهم يحتفظون بجزء أكبر من طعامهم. وهذا يمنحهم حافزًا لكي يكونوا أكثر إنتاجية. وقطاع الطرق، بدورهم، يحصلون على المزيد من الطعام.
يفرض هذا المنطق من التعاون (الأناني) حدودًا صلبة على من يطمحون إلى النمو على حساب الآخرين. وهي مسألة مهمة بشكل خاص في عالم اليوم، حيث أصبحت المعرفة (أي المعلومات) مركزية لطيف متنام من العمليات الإنتاجية. والمعرفة تعتمد على الثقة: يجب أن أؤمن بأن أولئك الذين أتعامل معهم لن يتصرفوا بطريقة افتراسية على أساس مصلحة قصيرة الأمد، وإنما سيدركون أن مصلحتهم طويلة الأمد هي أن يتعاونوا معي كزميل، شريك، أو سائق على نفس الطريق.
إن العالم الحر هو –أو كان- قرية واحدة كبيرة يشرف عليها قاطع طرق مستقرّ: الولايات المتحدة. وثمة حاجة إلى الإصلاح، لكن هذا الترتيب أفاد الغالبية العظمى من المنخرطين فيه.
صنع القائد الحالي للعالم الحر ثروته كقاطع طرق. وهو، والكثير من أنصاره، مشبعون بمنطق المفترس والفريسة. إنهم يفهمون "فن الصفقة"، لكن ما يدركونه أقل، ربما، هو أنهم يملكون "السهول" بأكملها، ولم يعودوا في حاجة إلى التجول فيها للبحث عن فتات. إن الصفقة قد أُبرمت أصلًا، وإن كان هناك بطبيعة الحال متسع لإعادة تعريف بعض شروطها. وبمعاملة النظام الليبرالي العالمي كغابة يأكل فيها القوي الضعيف، فإن الخطر الحقيقي هو أن ينتهي المطاف بالجميع جياعًا، أقل أمنًا، وأشد فقرًا.
بمعاملة النظام الليبرالي العالمي كغابة يأكل فيها القوي الضعيف، فإن الخطر الحقيقي هو أن ينتهي المطاف بالجميع جياعا، أقل أمنا، وأشد فقرا.اضافة اعلان
* * *
من الأفضل أن تكون المفترس من أن تكون الفريسة –لا شك في أن هذا الحدس البديهي يتردد في أذهان الكثيرين في واشنطن تحت حكم دونالد ترامب، كما في عواصم العالم الأخرى في الوقت الراهن.
لكنّ ثمة تحذيرًا جوهريًا ينبغي الانتباه إليه في هذا المنطق، والذي ينبغي أن تتنبه له بشكل خاص تلك الدول القليلة التي تمتلك من القوة ما يكفي لفرض إرادتها على (معظم) الآخرين. هذا التحذير مستمد من علم البيئة —أي من منطق الجماعات لا الأفراد— ومن حقيقة أن مجتمع المفترسين، كمجتمع، محدد حتميا بمقدار الفرائس المتاحة له.
لا يمكن لمجموعة من الكائنات أن تنمو، عندما يتعلق الأمر باستهلاكها للسعرات الحرارية، بما يتجاوز حجم المتاح لها من الموارد الغذائية. وبالمثل، فإن قبيلة من الغزاة الرُّحل لا يمكنها التوسع بأكثر مما تتيحه لها القرى التي يمكن أن تنهبها. وعلى النقيض من ذلك، يمكن للأمم أن تنمو بما يتجاوز حدود فرائسها. لقد توسعت الإمبراطوريات القديمة مثل روما، والسلالات مثل التي كانت في الصين، حتى تخوم العالم المعروف. ولكي تفعل ذلك كان عليها أن تتحول من مفترسات، إلى كيانات مبدعة وميسرة.
كان ما أدركته تلك الإمبراطوريات هو أن مزيدا من الثروة والقوة يمكن تحصيله من خلال التعاون مع جيرانها -بكبح نزوعها الافتراسية- أكثر مما تجنيه من نهبهم. لم يكن "السلام الروماني" نزعة إنسانية حالمة بقدر ما كان عملا حكيما. يبلي القادة الأذكياء للقوى العظمى حسنا حين يستفيدون جيدًا من أحد أعظم الأصول: الثقة.
شرح عالم السياسة، مانكور أولسون، هذا المنطق بسرد حكاية بليغة عن الفلاحين (الفرائس) وقُطَّاع الطرق (المفترسين). في عالمهم المضطرب المختل وظيفيًا، كان الجميع يعاني ولكل منهم مشكلة. الفلاحون يترددون في حرث الأرض لأن كل شيء ينتجونه ينهبه قطاع الطرق. وقطاع الطرق في المقابل يعانون من نقص الفرائس؛ في قرية بعد قرية، كان هناك بالكاد شيء متاح ليسرقوه.
كان الحل يكمن في التعاون، وفي الحوافز التي تولّد الحد الأدنى من الثقة اللازم لتحقيقه. "الثقة" في هذه الحالة محدودة جدا، من النوع الذي ينبع من كونك واثقا من سلوك الآخر. يمكنك أن "تثق" في أن لصّ بنوك سيسطو على البنوك.
يتحقق التعاون حين يدرك قطاع الطرق المتنقلون أنهم يستطيعون التحول إلى "مستقرين": يمكنهم أن يستقروا وأن يحموا مجموعة من الفلاحين من قطاع الطرق الآخرين. وبفعلهم ذلك -كما برهن أولسون، رياضي- يساعد قطاع الطرق المستقرون أنفسهم ويفيدون الفلاحين على حد سواء.
كيف يمكن أن يكون الأمر كذلك؟ كيف يمكن لنهب أقل أن يجعل المرء أكثر غنى؟ تكمن الخدعة في ما يُدعى "توافق الحوافز". إنه المنطق ذاته الذي يمنعنا من قيادة المركبة في عكس اتجاه السير؛ سوف يكون احتمال الاصطدام بمحاولة اختصار الطريق كبيرا جدا. ومن الأفضل أن تصل متأخرا من أن لا تصل أبدا.
بل إن التوافق التحفيزي بين الفلاحين واللصوص المستقرين يكون أكثر عمقًا وتأثيرًا. إذا تمكن اللصوص من السيطرة على جزء من الأرض، فإنهم يطوّرون تدريجيًا "مصلحة شاملة" مع الفلاحين المحليين. من خلال حماية "فلاحيهم" من المفترسين الآخرين، يصبح اللصوص المستقرون -عمليا- مالكين لكل ما ينتجه هؤلاء الفلاحون.
لكن السحر الحقيقي ينبع من الحوافز التي يمتلكها كل من الفلاحين واللصوص في هذا النمط الاجتماعي الجديد. يستطيع اللصوص المستقرّون الآن أن ينهبوا ويفترسوا نفس الفلاحين عاما بعد عام. وبما أن كلا الطرفين يشتركان في مستقبل يمكن التنبؤ به، وبما أن اللصوص يظلون جشعين، فإنهم يستطيعون الاستفادة من تشجيع الفلاحين على أن يكونوا أكثر إنتاجية. لكن الفلاحين الذين يدركون أن كل ما ينتجونه سوف يُنهب –كما كان الحال في السابق– لن ينتجوا الكثير.
يحُل قطاع الطرق هذه المعضلة بالالتزام بأخذ (جزء) فقط مما ينتجه الفلاحون، (ضريبة). ومن جانبهم، يستطيع الفلاحون أن يثقوا بهذا الوعد لأنهم يدركون هم أيضًا أن تحفيز الإنتاج، والالتزام بتحصيل الضريبة بدلًا من النهب، سيكون المصلحة طويلة الأجل لقطاع الطرق.
سيكون حال الفلاحين أفضل لأنهم يحتفظون بجزء أكبر من طعامهم. وهذا يمنحهم حافزًا لكي يكونوا أكثر إنتاجية. وقطاع الطرق، بدورهم، يحصلون على المزيد من الطعام.
يفرض هذا المنطق من التعاون (الأناني) حدودًا صلبة على من يطمحون إلى النمو على حساب الآخرين. وهي مسألة مهمة بشكل خاص في عالم اليوم، حيث أصبحت المعرفة (أي المعلومات) مركزية لطيف متنام من العمليات الإنتاجية. والمعرفة تعتمد على الثقة: يجب أن أؤمن بأن أولئك الذين أتعامل معهم لن يتصرفوا بطريقة افتراسية على أساس مصلحة قصيرة الأمد، وإنما سيدركون أن مصلحتهم طويلة الأمد هي أن يتعاونوا معي كزميل، شريك، أو سائق على نفس الطريق.
إن العالم الحر هو –أو كان- قرية واحدة كبيرة يشرف عليها قاطع طرق مستقرّ: الولايات المتحدة. وثمة حاجة إلى الإصلاح، لكن هذا الترتيب أفاد الغالبية العظمى من المنخرطين فيه.
صنع القائد الحالي للعالم الحر ثروته كقاطع طرق. وهو، والكثير من أنصاره، مشبعون بمنطق المفترس والفريسة. إنهم يفهمون "فن الصفقة"، لكن ما يدركونه أقل، ربما، هو أنهم يملكون "السهول" بأكملها، ولم يعودوا في حاجة إلى التجول فيها للبحث عن فتات. إن الصفقة قد أُبرمت أصلًا، وإن كان هناك بطبيعة الحال متسع لإعادة تعريف بعض شروطها. وبمعاملة النظام الليبرالي العالمي كغابة يأكل فيها القوي الضعيف، فإن الخطر الحقيقي هو أن ينتهي المطاف بالجميع جياعًا، أقل أمنًا، وأشد فقرًا.
*إريك غارتزكي Erik Gartzke: أستاذ العلوم السياسية ومدير "مركز دراسات السلام والأمن" في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Predator or Prey? It’s the Wrong Question for Great Powers Today
0 تعليق